تخطّى السجين السياسي علاء عبد الفتاح يومه الثالث من الإضراب الكلّي عن الماء والطعام، بعد أكثر من 200 يوم على إضرابه عن الطعام في سجون عبد الفتّاح السيسي.
أبعد من ثنائيّة الأمل والإحباط
من البديهي أنْ نُحبَط، أنْ نشعر أنّ زعيقَنا هُدر كالبارود في الفضاء وأنّ رهاننا كان خاسراً.
أنْ نُقرّ بأنَّ الثورة تأكل أبناءها، وأنَّ نصف الثورات مقبرة الثائرين.
أنْ نخاف الربيع إن أتى، لعلمنا بأنّ الخريفَ يخلفه.
أنْ نعترف بالموت ونتَيمَّن بالأشباح، كسلاحٍ أخير لمواجهة الطاغية.
من البديهي. من الطبيعي. ومن المطلوب أن نُحبَط.
اتّفقنا، دون أي مُكابرة على الواقع.
لكن لنتفّق أيضاً أنّه من العبث أن نقيس قضيّة علاء عبد الفتّاح بميزان الإحباط والأمل. علاء الذي صاحَ من داخل الزنزانة، بعد أسابيعٍ على إضرابه عن الطعام: بطَّلي تتصوّري انّك هتعرفي تنقذيني، أنا هاموت هنا، هاموت شهيد في السجن، ركّزوا في ازاي ده يعَدّي بأعلى تمن سياسي ممكن.
الدرس المفتوح
تعود هذه الرسالة إلى حزيران الفائت، بعد الإضراب عن الطعام فقط، قبل التصعيد الأخير. أرسل علاء منذئذٍ عشرات الرسائل، وما زلتُ عالقاً عند تلك الكلمات القليلة: ركّزوا في ازاي ده يعَدّي بأعلى تمن سياسي ممكن.
ماذا يعني أن تُراهن بأغلى ما تملك في معركةٍ معروفة النتائج؟
كعادته، حرص علاء على أن يتعلّم من نفسه في كل خطوةٍ يخطوها، أن يكون «مُتمكّناً» في موقعه: «كامش» باللبنانيّة. راديكاليّ حيناً، يجنح للحلول الوسطى أحياناً، يتأقلم– لا من باب الرضوخ بل من أجل أن يُحارب بشراسةٍ أشد، كمن يستلهم من الزواحف ونجوم البحر وديدان الأرض؛ تلك الكائنات القادرة على التجدّد بعد أي إصابة مهما عظمت.
ماذا يعني أن تُراهن بأغلى ما تملك في معركةٍ معروفة النتائج؟
اختار علاء أن يعرض لنا درساً بالسبل المتوفّرة أمامه: فكره، والجسد. درسٌ مادّته هي جوهر المُعلّم نفسه، وجوده كشخص، ككيان، كفاعلٍ في السياسة، منذ ما قبل ميدان التحرير وصولاً إلى لحظة الحسم المجهول في الزنزانة، وما بعدها: فلنكن عبرة إذن، ولكن بإرادتنا.
وردةٌ لعلاء؛ ورودٌ لسناء، ورودٌ لمنى، ورودٌ لليلى
كانت الرسالة هذه نداءً موجَّهاً إلى منى، شقيقة علاء، وقد ذكرت عند نشرها أنّ علاء لفظ هذه الكلمات بـ«إحباطٍ/ غضب». كيف تقنع حبيباً لك بأنّ كليّة الخسارة في هذه المعركة هي هي الفوز نفسه؟
في كلمتها خلال قمّة المناخ العالمية المنعقدة في مصر، أعلنت سناء، شقيقة علاء و«آخر العنقود»، أنّ علاء قد فاز بالقضية، مهما حصل. المعركة الرمزية حُسمت لصالحه، لكن آمل فقط ألّا يُضحّى بجسده من أجل ذلك. قصدت سناء شرم الشيخ، تكلّمت بطلاقة، تأكّدت من أنّ العالم بأجمعه يُشاهد بطش السيسي وعبثيّته، وواجهت مُعرّصي السيسي داخل القاعة. يكفي أنّها قصدت شرم الشيخ، مع كل ما يحمل ذلك من خطر: خطر أنّها هي، المُعتقَلة السابقة، هدفٌ آخر للديكتاتور.
وفيما تقود الشقيقتان المعركة من خارج القضبان، على الإسفلت كما في العالم الافتراضي، تجلس ليلى الوالدة أمام سجن وادي النطرون وتنتظر: «عايزة جواب». قد تكون هذه العبارة الأكثر ترداداً على لسانها في العقد الأخير، العقد الذي أمضاه علاء، بمعظمه، مسجوناً: عايزة جواب.
كيف لعائلة واحدة أن تتحمّل هذا الأسى كلّه؟ هل يكفي الحب جميعه لهم؟ هل تكفي الورود؟
السيّد إذ يصير عبداً
عندما يقول علاء انا هاموت هنا، هاموت شهيد في السجن، فهو يقول ضمنياً: أنا أُمَوَّت هنا، أنا أُقتل.
في السجن قاتل، جلّاد، أو بالأحرى: نمرٌ من ورَق، استطاع علاء بالصمود وبالكلمات القليلة التي نقلها لنا أن يكشف مدى هشاشته.
كانت الأعوام الأخيرة حافلة ببهلوانيات الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي، لتلميع صورته. عجبي من رئيسٍ أمضى عهده وهو يُلمّع صورته! معناه أنّه يعلم أنّ يدَيه ملطّختان بالدم، منذ اليوم الأوّل.
قمّة المناخ كانت آخر بهلوانيات السيسي. ملياراتٌ صُرفَت في عزّ الأزمة المصرية، كي تُعقَد القمّة في البلاد وتُعَدّ حملة علاقات عامة لتلميع صورة النظام. هذا الجهد جميعه، نجحت عائلة علاء بتوظيفه لصالحها، فتحوّلت القمّة إلى فضيحة: من قمّة مناخ إلى قمّة علاء عبد الفتّاح. صار التلميعُ تعريةً: يا عيون العالم اشهدي، هذه جرائم السيسي! وهذه حدّوتة السيّد الذي صار عبداً، والسجين الذي لوى ذراع سجّانه.
الشبح إذ يُبعَثُ حيّاً
عندما يقول علاء انا هاموت هنا، فهو يقول أيضاً أنّه تصالَح مع فكرة الموت، تصالح معها من باب حبّ الحياة. أي الموت كوسيلة لحياةٍ أوسع وأشمل. موت الفرد لإحياء الجماعة. الموت كمطرقةٍ تهدم النظام الذي لم نختَرْه، بل دفعنا ثمنه. الموت كصرخةِ معلومٍ بالنيابة عن المجهولين؛ من هنا أهمية قضية علاء، أنّه نجح في تمثيل قضية جميع المعتقلين السياسيّين– ولو عارضوه بالسياسة.
هذا اللهو الخفيف بين التناقضات؛ هذه الجدّية في تطويع الموت للحياة؛ هذه الأضداد إذ تصبح متشابهة، فهي لعبة علاء المفضّلة.
في لعبة التناقضات هذه، عندما يُعلن علاء أنّه «شبح الربيع الي فات»، فإنّه يُعلن عن نفسه أيضاً، بلا مواربة، أنّه «حقيقة الربيع المُقبل».
حقيقة أنّ علاء عبد الفتّاح دخل هذه المعركة منتصراً، وخرج منها منتصراً، بكل ما كلّف ذلك.
حقيقةَ أنّنا لم نُهزم بعد. حقيقةَ أنّنا لن نُهزَم بعد.
حقيقة أنّ المطلوب منّا دائماً وأبداً أن ننتصر للحق. الحق الذي اسمه اليوم علاء عبد الفتّاح.