رقصة الثلاثيّة الأخيرة
على صدى همسات غامضة وخافتة وخجولة وأجواء خريفية خلابة، رأيت نفسي غارقًا للوهلة الأولى في تفكير عميق، ساعيًا إلى إيجاد جواب لسؤال يتردّد في مخيلتي منذ الدقائق الأولى لفيلم «النهر»: «هل غلبتني قوة الوهم و جعلتني أظن أن عينيّ وقعتا بالخطأ على لوحة من إنتاج عرّاب السينما الشاعرية أندري تاركوفسكي؟». لكن سرعان ما عدت إلى أرض الواقع، وتداركت نفسي وتذكرت أنّني أمام عمل من إنتاج مدير المنزل الفني غسّان سلهب، وإيقاعه الخاص البصري والفلسفي والنفسي، والذي يعتمد عليه ليدخل إلى أعماق المشاهدين/ات.
إنّه الدخول الأخير لغسّان سلهب، من خلال ثلاثيته المصمّمة لاستحضار الحالة العاطفية المعقّدة المرتبطة بتاريخ لبنان المضطرب، دخول تحت عنوان الغموض.
الغموض الجماعيّ
يبدأ فيلم «النهر» من حيث انتهى فيلم «الوادي»، من صوت الطائرات المقاتلة على ارتفاع منخفض، والتي تثير الأسئلة ذاتها التي أثارتها في أفلامه السابقة، عن احتمال اندلاع حرب أو استمرارها. من بعيد، يبدو أن الحرب قد اندلعت مرة أخرى، وأن لعنة تحوم فوق المنطقة، لعنة نجهل حجمها.
في هذه الغابة نتحوّل إلى محقّقين يبحثون في المناظر الطبيعية الخضراء والبرتقالية عن دلالات لأسئلة مخفية: هل نحن على الأرض فقط؟ أم في بُعد موازٍ؟ هل اندلعت الحرب، مجدّدًا؟ لسنا وحدنا من يبحث في هذه الغابة. هناك رجل يبحث عن امرأة، يتبعها في الغابة الضبابية، قبل أن يجدها على الجانب الآخر من الجبل، على حافة جرف، حيث كانت تشبه الشبح تقريبًا. يغرقان سويًا في عمق الطبيعة التي أصبحت طيفية بشكل متزايد، تمامًا مثل الخيط الرفيع الذي يربطهما ببعضهما بعضاً.
يلاقي غموض الحبيبَيْن السابقَيْن صدىً لغموض أوسع. فمع كلّ انغماس في الغابة، يظهر ركام تاريخ سياسي: مجموعة من المباني القديمة المهدّمة التي تستحضر ذكريات عدوان إسرائيلي، مسدس الرجل، لافتات موجودة بالقرب من مدخل كهف يوجد فيه بقايا أسلحة. يتداخل تطوُّر قصّة الحب مع أسئلة تاريخ البلد في الغابة، بملابسها الخريفية المجرّدة، بثمارها المتعفنة في شجيرات مفخّخة بالألغام، بتقسيمها بأسوار محطّمة يراقبها كلب بري غير مؤكد ولاؤه، وبمداهمتها من الطائرات والمروحيات في السماء.
لكن لا شيء يشفي تمزّق أي من الشخصين أو البلد.
الغموض الحميميّ
حالة الغموض معمّمة، تتسرّب من الجماعي والسياسي إلى الخاص والحميمي، أو العكس. يتواصل الرجل والمرأة من خلال نظراتهما. الكلام ليس إلّا هامشاً للنظرات والصمت. ندرك أنهما كانا مرتبطَيْن بعلاقة قد انتهت، ولم يبقَ منها إلّا اتصال جنسي، لم تتضاءل الرغبة تجاهه وإن بات مستحيلًا. لا يكسر صمت الحبيبين إلّا صوت الطائرات المنتشر في كل مكان. تحاول الشخصيتان أن تجعلا قصّتهما موجودة، قصّة حبّ وفشله، رغم الكارثة التي تحيط بهما.
في آخر جزء من ثلاثيته، يعود سلهب إلى ما قد يكون من أكثر التجارب الإنسانية غموضًا، وهي تجربة نهاية الحب. في نهاية نزول طويل ومتعرّج عبر الغابة، تكتشف الشخصيتان هذا الغموض واللارجعة من طريق نهاية الحب. الحب ينزل ولا يصعد. عبر الغابة وشعابها تأخذ رحلة الفيلم مسار الانحدار وصولًا إلى النهر الذي كان مصبّه في نهايات الفيلم أقرب إلى قعر جحيم منه إلى شلال ماء. وفي محاولة أخيرة من قبل الرجل للهروب من حتمية نهاية الحب، يقول لها «أحبك»، وهي لا تردّ. تدير ظهرها وتمشي.
بدا سلهب منشغلًا بكيفية مواجهتنا لغموض الوجود، المتعلّق بالحب والموت و نهاية الحب في هذا الجزء من ثلاثيته، قبل أن يصل الضباب إلى الشاشة، ليغلف بطل الرواية ونحن معه، حتى يختفي في سر صامت ومُسْكِر.
الغموض الشكليّ
يبدو أنّ الجمالية البصرية لسلهب قد استُرشد بها جزئيًا من خلال الرسوم التوضيحية الرومانسية للغابات البدائية في القرن التاسع عشر، ودرجات الألوان الترابية الصامتة التي تعزز الإحساس بعالم النسيان الأسطوري الذي يحاكي الواقع. تُستخدم الشاشات السوداء كأجهزة معطّلة، ربّما لالتقاط واقعنا المعطّل. هذا فيلم يأتي من إحساس مرهق، من مكان الحزن العميق ما بعد الغضب حيث يمكن فقط للفن الرمزي أن يجسّد العمق الكامل للحالة الوجودية للبنان.
عالم الغموض صوتيّ بقدر ما هو بصريّ. فشكّلت المقطوعات الصوتية المؤلفة بعناية عنصرًا أساسيًا في أعمال سلهب، ويتجلى ذلك كثيرًا هنا مع الاستخدام الواسع للصوت غير المنقطع. ليس من المستغرب ملاحظة مشاركة سبعة من مهندسي الصوت في مرحلة ما بعد الإنتاج. البساطة هي باب مفتوح على مصراعيه أمام ما لا يمكن تصوّره. إنّه محرّك محفِّز للغاية للمشاهد، ويعرف سلهب كيف يخرج الغموض من البساطة.
تربط فكرة الغموض في فيلم «النهر» بين المستوى الحميمي والسياسي والبصري. يتمّ توظيف الغموض في الفيلم لإظهار الصراعات الداخلية التي تواجهها الشخصيتان الرئيسيتان والتي تتمحور حول الحب والهوية، كما يعبّر عن حالة البلاد العامة وتاريخها المتقلّب. يترك الفيلم العديد من الأحداث والتفاصيل غامضة وغير محدّدة، وذلك لترك المجال مفتوحًا أمام التأقلم مع الغموض والبحث عن طريقة للتعايش معه. في نهاية المطاف، يدعونا سلهب إلى هذا الغموض، لا لكي يوضّح لنا معالمه، بل لكي يساعدنا على البحث عن طرق للتعايش معه.