خلال إنتفاضة أو ثورة 17 تشرين، سمِّها ما شئت، وقرب ساحة الشهداء، وقفت بجانب فنان ومخرج صديق يحمل كاميرته. بادرني بسؤال متعجبًا من عدم حملي لكاميرتي وتصويري كل ما يحدث. أكمل أنه هو شخصياً لا يستطيع أن يرى إلّا من خلال عدسة كاميرته المحمولة على كتفه.
استوقفني هذا الحديث السريع، إذ رأيتُ من البديهي ألا وقت أو قدرة على أن تخرج بعمل فني في مثل هذه الأوقات. ومع أني لم اعترض على ما قاله، إلّا أن السؤال الذي طرحته على نفسي هو: هل يكون التوثيق لمثل هذه اللحظات الجسر الحتمي لممارسة ثقافية مستقبلية؟ أي أن توثق، أن ترى، أن تصور حدثاً سياسياً اجتماعياً بهذه الضخامة، هو المعيار الوحيد لهضمك له؟
وجدتني أقول له ان جسمي بحاجة لأن يكون حاضراً أيضًا. لا أستطيع أن أحمل كاميرا لأنظر من خلالها، أريد أن أكون حاضرًا وفاعلا، أن أعيش الحدث، برائحته وتفاصيله، وأن أخاف، ولا أعرف إن كنت أستطيع التقاط الخوف من خلال العدسة. ثم ما الحاجة إلى أي صورة عندما نصبح نحن الصورة؟
حسدته لقدرته على النظر، على وضع عينه على عدسة. لا أعلم وضوحها من عدمه، كما لم أعلم حينها وضوح الحدث من عدمه.
رغم كل هذا، وبعد عدة أسابيع كنّا لا نزال في الشارع حينها، وجدتني أرفع هاتفي لأصوّر عدّة مرات. لم أستطع منع نفسي من أن أصور حدثاً أو لقطةً واحدة، متكرّرة طوال الوقت: صورة/فيديو لرجل مخابرات- لم اعرف لأي جهاز ينتمي- يرفع كاميرته بوجهنا.
انا على ناصية ساحة رياض الصلح، وهو في الناحية الأخرى بمواجهتي مباشرة، رجل بثياب مدنية، يحمل كاميرا فيديو صغيرة الحجم، يقف على الحاجز الباطوني الذي يفصلنا عن شرطة مجلس النواب، يشرف على الساحة الممتلئة بالمتظاهرين، يصوّرهم/ن على مدار الساعة. أنا أصوره وهو يصورني في المقابل، وفي لحظة معينة رفع عينه عن شاشة الكاميرا الصغيرة ونظر اليّ. حسنًا ها هي الدولة تنظر بشكل مباشر إلى وجهي، تلبكت، وبسرعة أشحتُ بنظري بعيداً.
صورة وكاميرا رجل المخابرات وما يمثّله أصابتني بالعجز، لعل السبب خوفي من وضوح مهمته، من ثقته بعينه على كاميرا «قديمة نسبيا»، من وقوفه أمامنا غير مبالٍ، لا خوف ولا تردّد ولا هزة في يديه. فهو يصوّر وجوهنا، يرصد تفاصيل حركتنا، لا الحدث فحسب، يحاول التقاط تفاصيل غضبنا وضياعنا. هو بكاميرا محمولة يصور ويصوب مباشرة على وجوهنا وانا بكاميرا هاتفي التي تزداد غبشاً كلما قربتها وحاولت رصد حركته ووجهه.
هكذا وأمام وضوح كاميرا رجل المخابرات، أمام وضوح الصورة للدولة وأجهزتها وطوائفها، كانت الصورة لدينا تزداد تغبيشاً. حتى معنى اللغة في تشكيل الصورة إنهار. أكاد أكون واثقًا من أنّ ما حاول صديقي المخرج أن يوثقه كان «آوت أوف فوكس» أيضًا. في كاميرته عالية الجودة، لم يستطع تشكيل أي عمل فني مما وثّقه. وفي كاميرته عالية الجودة، كانت الوجوه تختفي مع الوقت والقبضات تنزل من الكادر منهكة.
لحظةَ أشحتُ بنظري بعيداً عن كاميرا رجل المخابرات، كانت لحظة انتباه صديقي المخرج أنه أصبح هو الصورة، لحظة خروجنا من الشارع، لحظة الانفجار.
بعيون مذهلة فارغة من أي معنى، متسعة على مقلتيها، كانت الكلمات تفقد معناها تدريجيا: سياسات ثقافية، اقتصاد السوق، دور المؤسسات، أي فن ننتج، التمويل الغربي، يجب أن نطرح أسئلة كبيرة، التاريخ المسدود... كلمات فقدت معناها من حجم العصف.
الآن فهمت هذا القطع والبتر المتكرّر في سياق المشهد الثقافي في لبنان. فهو لا يراكم الّا ذهولاً وبتراً، يغلق طريق الماضي، يبهت فجأة، تبوخ كل النقاشات حول العمل الفني، طريق الماضي مسدود، والآتي ليس لدينا القدرة أو حتى الرغبة في أن نتخيله.
لا شكّ أن شيئًا كبيرًا انهار في داخلنا جميعاً، بحجم حدث الانهيار على كافة المستويات.
هنا يصبح السؤال معكوسًا، لماذا على الفن أن يطرح أسئلة كبيرة حاضرة، وهل عليه أن يجاوب عليها؟ أم أن عليه تلمس طريقه وأن يجرّب ويفشل ويعمل حتى يتضح التخيل من جديد، إن اتضح؟
طبعا نحن الذين نعيش في وطن يعتاش على أزماته، وتؤلف وجودنا كارثة تلو الأخرى، يلزمنا هذا الوقت المستقطع بين الكوارث لفهم ما الذي ننتجه من ثقافة. لكنّ ما يُنتج عن هذه الكوارث هو بتر للسياق والتراكم في الحياة الثقافية، ليجد الفنان نفسه أمام أسئلة جديدة، وكأن تجارب الماضي لم تعد تجدي أو النقاش فيها غير متوفر. نبدأ من جديد؟ نتعاطى مع كارثة وانهيار جديد؟ ام يجب ان نتعاطى مع انهيارنا كجزء من سياق طبيعي من حياتنا اليومية التي تؤلفنا؟
طوال سنتين لم أستطع ولم أنجح في أن أتغلب على ضيق النفس الذي يخنقني طوال الوقت، أحاول أن أعمل، أصطدم بكل هذه الأسئلة الكبيرة، حول معنى الصورة والعمل الفني... أقول، في التوقف موت حتى لو كان للتفكير، أحاول مجددًا. لكنّ اتصالاً من أبي العاجز عن تأمين دوائه، يعيدني الى الدائرة صفر، الى غضب لم أستطع أن أفرغه بعمل ما. لكن العجز والقرف يعيداني الى الدوامة نفسها. انظر بحسد الى أصدقاء لي في الخارج ينتجون ويعملون، أتعجب ثم أتذكر بينما اشهق بصعوبة، أنهم من الناجين من عصف انفجار وانهيار تشظّيا بداخلنا زجاجاً صغيراً يجري بعروقنا، يؤلم ويدمينا من الداخل، بينما نحن نبتسم ونناقش فنيا، ونفتتح معارض مدّعين أن العمل ضرورة للاستمرار.
وفيما الأصدقاء يهاجرون، والباقون عيونهم فارغة تعبة، أقف حائراً، كيف تحوّل كل هذا الغضب في داخلي الى فراغ، فراغ حتى أفقدني القدرة على تخيل هجرتي أنا الآخر. أشتم، ثم أقول وماذا بعد الشتيمة؟ وفيما أنتظر أن تستقر غبرة الكارثة التي تعصف بنا، سأمدّ يديّ على طولهما، لأتحسس المكان، الطريق، الوجوه الباقية. سأذهب لافتتاح معرض رسم، إستفرغ صاحبه كل الغضب بداخله وبصق كل الغبرة من فمه، وإلى عرض مسرحي اشاح صاحبه بوجهه عن الكارثة، وإلى عرض فيلم حاول مخرجه أن يقترب من الانهيار، فأتى عمله منهاراً بذاته، والى فنان معاصر ينتقد كل هذا.
وسأحاول أن أجد معنى ما في كل ذلك.
وكمحاولة لتخيّل طاقة أمل من جديد، أفكر في صورة السلطة الواضحة، أفكر في كاميرامان المخابرات، ماذا لو لم أشح بنظري بعيداً لحظة نظر إليّ، لحظة صوّب كاميرته نحوي؟ لو حدقت بوجهه متحدياً، هو الجالس الآن أمام شريط كاميرته، يشاهد ما التقطته هذه الكاميرا، محاولًا رصد وجوهنا والتعرّف إليها. كلي حشرية لأعرف ما التقنية التي يستعملها. لو يستدعيني لأقول له أن الأول من اليمين هو فنان هاجر، وإلى جانبه ناشط مكتئب، والثالث أصيب بانفجار المرفأ. في المرة القادمة، وبعد ان تنقشع غبرة الانهيار، سأنظر اليه متحديا، فهو الشيء الوحيد المتأكد من وجوده بعد انقشاع هذه الغبرة، أعده أنني في المرة القادمة سأرفع سبابتي الوسطى خود امام كاميرتي، بوجهه، وهكذا على أمل أن تصبح الخود من جديد هي الأوضح في الصورة.