فكرة في زمن الانهيار
طارق أبي سمرا

العيش في زمن لا مستقبل فيه

14 كانون الثاني 2021

إذا حاولتُ تخيُّل نفسي بعد سنة أو سنتَيْن، أراني لا أزال على حالي، مُطابقاً لنفسي، أفعل ما أفعله الآن، وأفكِّر بما أفكِّر به الآن، بلا أدنى تغيير. أي أنّني، عندما أتخيَّل نفسي في المستقبل، لا أقوم سوى بنقل نفسي الحاليّة، مثلما أختبرها حاضراً، إلى ذلك المُستقبل الذي لا وجود له الآن، قبل أن يأتي ويصبح حاضراً، إلّا في مُخيِّلتي. ما يعني أنّ مُخيِّلتي لا تُضيف شيئاً إلى نفسي مثلما أختبرها في هذه اللحظة، وتكتفي بقذفها كما هي نحو المُستقبل.

مِن الأدقّ القول، إذاً، إنّ مُخيِّلتي الزمنيّة باتت لا تشتغل سوى على الأرقام، أي أنها تُحافظ عليّ ثابتاً جامداً كصنمٍ، ولا تفعل غير إجراء عملياتٍ حسابيّة بسيطة جدّاً، مُحوِّلةً، مثلاً، الرقم 2021 إلى 2022 أو 2023.

لمزيد من الدقّة– والبساطةِ– يمكن القول إنّني صرت عاجزاً عن تخيِّل نفسي في المستقبل.


بتُّ لا أعيش، إذاً، إلّا في الحاضر. لكنّه حاضرٌ يختلف كليّاً عن اللحظة التي يمكن وصفها بالصوفيّة: تلك التي قد يغوص فيها المرء فيشعر، إذّاك، أنّه خرج مِن الزمن ودخل حيِّزَ الأبديّة. فالحاضر الذي أعيش فيه الآن ما زال يتألّف من لحظات مُتتالية يمكن تمييز إحداها عن الأخرى؛ غير أنّ كلّ لحظة جديدة من هذا الحاضر تبدو شبيهة لسابقاتها أو حتّى تكراراً لها.

هي تبدو كذلك، لكنّها ليست كذلك بالفعل، إذ لا تزال كلّ لحظة تحمل معها بعضَ الجديد مِن أحاسيس ومشاعر وأفكار. إنّ كل لحظة جديدة تبدو شبيهة لسابقاتها، أوتكراراً لها، لأنّني ما عُدْتُ أمتلكُ سرديّة عن ذاتي المُستقبليّة أستطيع الإرتكاز عليها لأنسج خيوطاً تربط بين اللحظات المُمتدّة من حاضري إلى مُستقبلي المُتخيَّل، صانعةً منها شيئاً يُشبه الحبكة الروائيّة.

لأنّني صرت أفتقر إلى سرديّة عن ذاتي المُستقبليّة، لم تَعُدْ حياتي تُشكِّل قصّة. أي أنها أضحت، في مُخيِّلتي، تتابعَ أحداثٍ غير مترابطةٍ ولا ينبع منها أيُّ معنى، فلا فرق، إذاً، بين وقوعها وعدمه. ما مِن قصّة عن نفسي المُستقبليّة أرويها لنفسي الحاضرة لكيّ أحثّها على عبور الزمن، على محاولة بلوغ نفسي المُستقبليّة.


الغريب أنّ بُنيةَ زمني الداخلي التي أحاول وصفها، تُشبه حدّ التطابق تقريباً بُنية الزمن السياسي اللبناني الراهن: زمن الانهيار. زمنٌ ما عادت فيه السياسة مُرتبطة بالمستقبل، إذ أمست عمليّةَ إنتاجِ لحظاتٍ متتالية تتشابه في ما بينها ولا يُمكنها أن تؤلِّف سرديّة. ولعل أبرز تمثيل لهذا الزمن السياسي هو ذلك التقاذف بأسماء وزراء مُحتملين بين عون والحريري، تقاذف تُطلَق عليه تسميةُ مشاورات تأليف الحكومة.

ما يمكن استخلاصه من هذه المشاورات، التي تبدو كأنّها تجري خارج الزمن، أو الأحرى في حاضرٍ يجترّ نفسه، هو أنّ لبنان لم يعد ربّما يحتاج إلى حكومة. فها هو البلد قابعٌ منذ أشهر في حاضره الرتيب فيما بات من المُستحيل تخيُّل مُستقبله إلّا كنسخة مكرّرة من حاضره هذا. نسخة مكرّرة ومُترديّة في آن واحد، وكلّما تكرَّرت زاد تردّيها. وحتّى لو وصلت المشاورات إلى خواتيمها بتأليف الحريري حكومةً، الأرجح بقاء الأمور على حالها. ذاك أنّ لا شيء يُنْبِئُ حاليّاً بقدرة أيّ حكومة جديدة على الخروج مِن هذا الحاضر الذي يُكرِّر نفسه فيما هو يتردّى.

وحده حزب الله يعيش في زمن آخَر. زمن سياسيّ يَخضَع لسرديّة حديديّة. زمن لاهوتيّ تتصارع فيه قوى الخير والشر، وينتهي بظهور المهدي. زمن قد يُتيح للذين يعيشون فيه رؤيةَ مُستقبلٍ واضحٍ لا بل ساطع، مستقبل ليس مِن هذه الدنيا. زمن منفصل إلى حدٍّ بعيد عن زمن السياسة اللبنانية الذي يحتضر. زمن يتسيَّد على أزمنتنا الداخليّة ويُحيلها حاضراً لا يكفّ عن تكرار نفسه مِن دون أن يبلغ أيّ مستقبل.

آخر الأخبار

تعليق

في نقد حماس: مقارنة مع الثورة السوريّة 

بشار حيدر
مستوطنون يضيّقون على الصحافة أثناء تغطية اقتحام الأقصى
اعتقال 300 ناشط يهودي في نيويورك
السياج الجامعي العازل: هكذا تعاملت جامعة نيويورك مع المتظاهرين
لازاريني: الهجوم على الأونروا هو هجومٌ سياسيّ
109 أعوام على الإبادة الأرمنية