يوميات ثورة تشرين
مازن السيّد

حزيران: لا شيء يعجبنا

5 حزيران 2020

ما عاجبني حدا. لا خطاب يقنعني بالكامل أو يمثّلني في كلّ هذه المعمعة. ماركسيون وليبراليون ومدنيون وأربطعشيون وممانعون وتقدميون وجمعياتيون وأناركيون وهيبيز وهيبسترز وتكنو-راديكاليون ونيو-تروتسكيون...

شيعة شيعة وثَوْ ثَوْ، سلميون وتخريبيون. نوستالجيون ومستحزنون. عجّز متصابون وفتيان مستشيخون. أحبّ منهم أفراداً كثراً، رفاق اشتباك هنا وصلات رحم هناك، أصحاب غربة وشركاء النقاشات الطويلة الدسمة.

معاجم تتغزّل بمصطلحاتها. أساطير أوّلين، لكلٍّ منها آلهة الأولمب الخاصة التي يتضرّع لها بتكرار اسمها تسبيحاً بكرةً وأصيلاً. لا يعجبني شيء من هذا، ولا أعجبني لأنني أعجز من إنتاج اختراق كلّ هذا.

ولهذا أحبّ الثورة وأعرف اسمها واضحاً بهيّاً. شهدتُها لأنّني رأيتُها تسبق كلّ هؤلاء وأنا معهم، نتبعها لاهثين كلما زَوْربتْ وقفزتْ وناورتْ. مِنهم مَن يحاول في جريه أن يسبقها، لتلحقه. ليس لي بذلك شأن. أعلم أنها ستتعب وأنهم سيتجمّعون حولها فتبدو وجوههم متضاربة وتغيب ملامحها هي عن السيلفي و«الشارع» خلفي.

في 17 تشرين... كنت كلما ألتقي بصديقة أو صديق في الساحة، ينظر إليّ بقلق من عرف الخيبة فارتاب من البهجة: شو يا مازن؟

طوال الطريق مشياً من منزلي إلى الساحة، كنت أردّد في رأسي السؤال نفسه. عندما وصلتُ كان الجوكر يرقص فوق نار في وسط بيروت، وكان الجواب واضحاً: إذا كان التراكم قد بلغ هذا الحدّ منذ تجربة 2015، فسأخوض البهجة بكاملي، مستعدّاً إن اضطررت للسير في 4 أعوام أخرى.

ما حدا عاجبه حدا.

لأننا نعرف جميعاً أننا لم نوفّر الجواب بعد. لأننا نعرف أنّ الانهيار الاقتصادي قاد الثورة، لا نحن. نرمي أنفسنا إلى الأمام فنتخبط ونتخابط. لا بأس، فنحن في طريقنا إلى تعلّم مهارة جديدة لا تقلّ صعوبة عن طيران الجلابيط أو مشي صغار القطط. مهارة الفعل السياسي الأوحد في ظل دولة تلغي مفهوم «المصلحة العامّة»: الانقلاب على الدولة. إلى الآن، نرضع من أثداء أمّ لم نعترف بملامح وجهها بعد. 

وسنبقى كذلك حتى تحدث القطيعة بالفكرة. عندها فقط سيكون للثورة، في سبقها الجميع، لسان بيِّن فوق اسمها. تقول فيه ما تريد بمفرداتها هي، فتشعّ لغتها على ألسنة اللاحقين، تحيلنا إلى الماضي الذي نحن منه وعالقون فيه. 

17 تشرين لم تنتهِ. ولا 22 آب أصلاً. هذه أشياء لا تنتهي، بل هي، بطبيعتها، تتعب قبل أن تصل. فنسارع جميعاً إلى تصغير اسمها لتكبير أسمائنا على منبر المسافة التي قطعنا جرياً خلف رُكبها. وهذا الوعدُ الذي يحمله 6 حزيران. 

6 حزيران مشهد التعب الذي تجري به العادة وتشجّعه الدولة. مشهد الأسماء الكثيرة فوق عَرَق الإسم الأوحد. لا بأس. فليس للثورة لسان بعد، ليصرخ فترجف القلوب. ولكنّه آتٍ لا محالة، كخيط سيربط كلّ هذه الأعوام ببعضها بعضاً. 

إلى حينها، نكدّس المساحات والكلمات المحرّرة حيثما وُجدت ونتيفات الحُلُم الذي لم يولد بعد، ونذود عنها بكلّ ما أوتينا. كلّما سبقتنا الثورة انتزعنا قطعةً صغيرةً من إمكانياتنا، من وضوح رؤيتنا، فهل نرميها إلى الضباب عند كل غيبة صغرى؟  

إلى حينها، نقاوم نزعات المساومة باسم الإنجاز، ونتمسّك بالتنظير رغم طغيان سرديات الفاست فود، بضرورة النقد رغم فقدان الحلّ، بحقنا في ألا يعجبنا شيء من المطروح دون أن يكون لدينا ما نطرح بعد. 

إلى حينها، نشدّ على ذاكرتنا جيّداً كما تُهرَّب البذور. ونعرف أسماء أعدائنا جيّداً. أعداء الشعوب. قتلة الشعوب.

آخر الأخبار

حدث اليوم - فلسطين  الجمعة 19 نيسان 2024
«لا مجاعة في غزّة»
جعجع: الأمن الذاتي بحجّة مكافحة النزوح السوري
اجتياح رفح 
الإفراج عن الأكاديمية نادرة شلهوب كيفوركيان
خوفاً من مذكّرة اعتقال دولية