تعليق ثورة تشرين
سامر فرنجية

دهشة الثوّار

5 تشرين الثاني 2019

في إحدى الخيم المنصوبة في ساحة الشهداء، تدور أحاديث عن تجارب شخصية بين متظاهرين ومتظاهرات لا يجمعهم إلا انتماؤهم للثورة. في خيمة مجاورة، يحتدّ نقاش بين الجمهور حول كيفية التعاطي مع حزب الله، وخصوصاً حسن نصر الله. على بُعد بضعة أمتار من هذا النقاش، يجري حوار هادئ حول الخطوات المستقبلية الممكنة، من تسكير الطرقات إلى الموقف من الحكومة القادمة.

اللافت ليس مضمون الكلام وحده، بل، وهنا الأهمّ ربّما، فعل الكلام هذا، أي هذه الحاجة إلى التواصل والتعارف والتلاقي التي فجّرتها الثورة، حاجة لم نكن ندرك وجودها من قبل. ومع هذا الاكتشاف، ثمّة شعور واحد عند الجميع، شعور الدهشة:

دهشة مَن يسمع صوته لأول مرة في الساحة.

دهشة من تستمع إلى آخر لم تلتقِ به من قبل.

دهشة من يراقب حواراً كان مستحيلاً قبل أسبوعين.

كنا نعتقد أن الحوار يحتاج إلى رصانة وبرودة أعصاب وتعالٍ عن المشاعر، فاكتشفنا أن الدهشة كفيلة لإنجاح أصعب الحوارات.

الدهشة قد تكون شعور الثورة الأول:

الدهشة من مناطق فصلت بينها عقود من الطائفية والعنف، وعادت لتلتقي في صيحات التضامن.

الدهشة من شوارع نعيد استكشافها في مسيراتنا بعدما كانت مجرّد ممرّات لحياتنا اليومية.

الدهشة من قدرة الشتائم الجماعية في كسر الحواجز وإزعاج المرشد وإسقاط حكومته.

الدهشة من أفراد تحوّلوا في غضون أسبوعين من كائنات غير مسيَّسة إلى قُطّاع طرق يواجهون حركة أمل في الساحات.

والدهشة الأهمّ، الدهشة من أنفسنا، ممّا أصبحناه خلال أيام قليلة، الدهشة من شعورنا بحب مستجدّ، بعد عقود من العزلة في مجتمع لم ينتج إلا القسوة.

الثورة تولّد الدهشة. الثورة هي الدهشة. سلاحها الوحيد هو الدهشة. لهذا يخاف منها المرشد من وراء شاشته، يطالبها بالانضباط والوعي وبـتنزيه نفسها، بتنزيه الثورة من أي دهشة قد تدخل اللامتوقّع في يوميات العهد العفنة.

الدهشة هي شعور لحظة التخلّي التي تمثلها الثورة. فقبل سقوط الحكومة، سقطت أفكارنا المسبقة، أفكار طوّرناها للصمود في مجتمعنا القاسي. ومع هذا التخلي، سقطت حدود «الممكن» التي تمسكنا بها خوفاً من الإحباط. وفي هذه اللحظة، تخلينا عن صورتنا عن أنفسنا، كخارجين عن مجتمع بات في السنوات الأخيرة، بشعاً. الدهشة هي شعور من لم يعد يعرف من هو بعد اليوم.

ولكن الدهشة في أيام الثورة ليست إلا الخطوة الأولى نحو التلاقي مع الآخر، نحو ابتكار علاقات مختلفة مع هذا الآخر. فالدهشة جماعية، هي الشعور الجامع والمشترك. دهشة الآخر تؤكد دهشتنا، تؤكد لنا أن الانهيار حقيقي. دهشة الآخر تحرّرنا من نظرة الآخر التي كبّلتنا وحدّدت لنا هويتنا. دهشة الآخر هي «الفرصة الثانية» التي تقدمها لنا الثورة، فرصة إعادة ابتكار أنفسنا من جديد.

الدهشة قد لا تكون أكثر المشاعر ثورية، ولكنّها قد تكون شعور إنجاز الثورة الأول والأكيد: المصالحة. الثورة صالحتنا مع مجتمعنا ومناطقنا وبيئتنا، والأهم مع أنفسنا. وهذا سبب الاندهاش الذي نعيشه كل يوم.

آخر الأخبار

حدث اليوم - فلسطين الاربعاء 24 نيسان 2024 
صور جديدة تكشف «ضربة أصفهان»
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 24/4/2024 
المخيّم الذي صار دخاناً
24-04-2024
أخبار
المخيّم الذي صار دخاناً
20 جامعة أميركيّة، 20 مخيّماً تضامنيّاً مع غزّة
تعليق

ما مغزى النقد؟

سامر فرنجية