تحليل ثورة تشرين
صهيب أيّوب

طروبلوس مش طروبليس

4 كانون الثاني 2020

دأب بعض اللبنانيّين على تقليد اللهجة الطرابلسية بخطأ شفهي شائع ومثير للشفقة أكثر ممّا هو مثير للضحك. فاستخدموا نغمةً ممطوطةً ونافرةً لا تشبه البتّة لهجة أهل المدينة في تعاملهم مع لسانيّاتهم وألفاظهم. كأن يقفز أحدهم، حين تخبره أنّك آتٍ من طرابلس، بكلمته السحرية «طروبليييس»، تاركاً شفتيه تتهدّلان عن ياء مسكينة لا مكان لها في اشتقاق اللهجة المحكية واللغة الأصل، وعن شبه بلاهة غير مقصودة. تقول في قرارة نفسك إنّ عليك التخلّي عن تصحيح هذا التعليق الذي يقع فيه لبنانيّون تبعدهم عن المدينة مسافة نصف ساعة في السيارة، فما بالك بسكان العاصمة؟ أولئك البيارتة الذين يغرق بعضهم في صور نمطية عن طرابلس وسلوكيّات أهلها ونسجها الإجتماعية والثقافية والسياسية، لا بل في إسقاط أحكام مسبقة ومعلّبة، كأنّ سكانها جزء من حقبة وزمن آفل. ولأنّ الثورة اليوم وضعت الأطراف في صلب حراكها، تعاد صياغة اللهجة ومكانتها في الفضاء العام كمشكّل رئيسيّ للخطاب والاحتجاج. وإذ توسَم الشعارات والأهازيج بخصوصياتها السيميائية، تكشف اللهجة عن واقع المدن وهوياتها الأخرى، تلك التي تتمايز بها تاريخياً وديموغرافياً عن العاصمة ولهجتها البيضاء التي تمّ تسكينها بلزوجة باردة كي تبتعد عنها الشبهة المناطقية والطائفية.


كان قد فُتح نقاش قبيل اندلاع ثورة 17 تشرين حول هذا الموضوع تحديداً، خلال مؤتمر ثقافي نظّمته آفاق في برلين، بعدما أنهى مغنّي الراب الطرابلسي مازن السيد مداخلته. وقد جاء النقاش سريعاً، لكن كثير الدلالات في تقاطعه مع إفرازات الثورة اليوم، لا سيما أنّ الثورة خرجت من المركز الى الأطراف، وقد لعبت طرابلس كمدينة طرفية ولا تزال دوراً بارزاً وهامّاً في مسار الثورة، وكانت اللهجة أحد أسلحة المتظاهرين. يومها، علّق أحد الحاضرين في الصالة البرلينيّة قائلاً إنّ اللهجة في العاصمة هي لهجة بيضاء، وإنّها صُنعت لتجاوز منطق الانكشاف المناطقي والطائفي بعد الحرب الملبننة. وأضاف متحجّجاً أنّ اللهجات في لبنان هي طائفية صرف، إضافةً إلى كونها مناطقية، إذ يمكن اكتشاف اللهجة الجنوبية على أنها شيعية، ولهجة أهل الجبل على أنها درزية. وكان تعليقي يومها أنه ربما كان ذلك صحيحاً، وهذا ما لا يمكن تعميمه ولا تأكيده، إلا أنني أجزم أنّ اللهجة الطرابلسية لا توحي بطائفة واحدة محدّدة. ذلك أنّ سكان المدينة، مسلمين ومسيحيّين وعلويّين وأقليّةً شيعية جاءت في بدايات الخمسينات من جرود البترون، يتحدّثون كلّهم اللهجة الطرابلسية بما فيها من حدّة وفجاجة وترنيم، من دون العودة الى أيّ أصول طائفية للّهجة.


واليوم، مع وجود طرابلسيّين من مختلف الطوائف في ساحة النور، ظهرت شعاراتهم منطوقة بلهجة أهل البلد، سكان السويقة والحدادين والدبابسة والعوينات وحي النملة وحارة سيدي عبد الواحد والتل وحي المطران والزاهرية. لهجة استعيدت مع أغنيات الراس ومع هتافات «معلمي، معلمي، معلمي» لتميم عبدو التي تتردد اليوم في كل لبنان وعبر مواقع التواصل الاجتماعي كأنها لهجة وطنية معروفة. تُستعاد اللهجات اليوم بعدما مورس التهميش والتحجيم بحقّها، وكادت أن تصبح محصورةً بالاستخدام الترفيهي الساخر الذي كرّسته الشاشات منذ بداية البثّ التلفزيوني مع فرقة أبو سليم الطبل وصولاً الى نسختها الباهتة مع كاراكتيرات شربل خليل في «بسمات وطن». تخرج اللهجة من سجون الكاريكاتور والساركازم لتصبح سلاحاً ثوريّاً موحَّداً بين شرائح يجمعها الفقر والمعاناة والتضييق وسياسات الإفساد، سلاحاً فعالاً ضد إلغاء الخصوصيات والمركزية. وللتذكير وحسب: طروبلوس يا معلمي، مش طروبلييسس. والسلامو عليكن.

آخر الأخبار

حدث اليوم - فلسطين  الجمعة 19 نيسان 2024
«لا مجاعة في غزّة»
جعجع: الأمن الذاتي بحجّة مكافحة النزوح السوري
اجتياح رفح 
الإفراج عن الأكاديمية نادرة شلهوب كيفوركيان
خوفاً من مذكّرة اعتقال دولية