تعليق اغتيالات
باسل ف. صالح

هنا المقبرة التي يشاهدها العالم بصمت

5 شباط 2021

مات لقمان سليم وهو يشير إلى قاتله. مات البارحة بخمس رصاصات، واحدة أودت بحياته، والبقية بطيفه، بفكرته، بإمكانية تكراره. هكذا كان يخشى القاتل ضحيته، فهو لم يرد قتله فحسب، بل أراد قتل كل احتمالات بقائه حيًّا ولو في وجدانه. هذا الرعب الذي كان يخلقه لقمان، كل لقمان، في وعيهم ولاوعيهم، في السوسيولوجيا والسيكولوجيا، في التاريخ كذلك.

القاتل جبانٌ مرّتين، مرّة بالقتل في الظلمة، ومرّة بالإنكار في النور. القاتل يتعدّى جبنه ليعلن عن ذلّه ووضاعته. يطلق الرصاصة الأولى فيرديه، يعود ويكرر الثانية والثالثة والرابعة والخامسة ليردي كل ما يمكن أن يحمل احتماله.

لكنّ موت البارحة أتى متأخّرًا. كلنا يعلم ذلك، هو مجرّد فعل مادي مباشر كان قد سبقه أفعال قتل أخرى علنية حينًا، ومضمرة أحيانًا. أفعال قتل كان قد وثّقها لقمان سابقًا. موت البارحة كان إجهازًا، والمتّهم يتخطى من نفّذ وأطلق الرصاصات. القاتل هو ثقافة وجمهور استباح صفحة لقمان بعد مماته، ويستبيح صفحاتنا ونحن أحياء. القاتل هو من عبّد ويعبّد الطريق أمام هذا القتل، وأمام كل تنفيذ. فلم يعد هناك أي أهمية لدليل حيّ مباشر يختبئ خلفه، لأن القاتل كان قد أعلن عن نفسه مسبقًا، هو ذلك الذي يخوّن، ويتّهم، ويهدر دماً، ويهدّد، ويحاكم، هو من يعبّد الطريق أمام الوسيلة، فتتخطى الغاية. القاتل هو من يمعن في قتلك، في تصغيرك بحجة الأحلاف الكبيرة، في تتفيهك، في تسخيفك وتسخيف تهديدك، وفي قتلك بحجّة المعادلات الكونية. القاتل هو حاقد مسبق، آلة قتل محشوة أمام أي حرارة جسد، وأي شكل من أشكال الحياة.

القاتل هو كل من يسمح لجمهوره تهديد الناس، إن في جريدة، أو على منبر ومنصة، وهو دولة لا تحرك أجهزتها الأمنية والقضائية أي ساكن. هذا هو بيت القصيد اليوم. هناك فعل اغتيال يومي، واقع على كل واحد منا، وهناك دولة بوليسية تكثّف القمع والترهيب لتتستر على فعل القتل والمجرم حينًا، ولتمارسه هي أحيانًا. فحين أطلقت النيران على المتظاهرين مباشرة، كانت تغتال. حين استخدمت الرصاص الحي في طرابلس وفي بيروت، كانت تغتال. حين اتهمت التظاهرات هنا، والاعتصامات هناك، كانت تغتال. لكن اغتيالها لنا مشروع، والتستر على اغتيال الآخرين لنا إباحة.

شاهدنا بالصوت والصورة كيف أُطلقت النيران على الطرابلسيين مباشرة منذ أيام، من أمام القوى الأمنية والعسكرية المتواجدة، دون أن تحرّك الدولة أيّاً من أجهزتها لملاحقتهم. بل لاحقت كل من مارس حقه بالدفاع عن النفس، من عبّر عن سخطه. لاحقت الأطفال والمراهقين والشباب أشباح الفقر والجوع والتعب. والدولة لم تحرّك أجهزتها لملاحقة عصابات تجتاح المتظاهرين والمعترضين سلميًا، ولم تلاحق من فقأوا أعين المحتجين. هكذا ببساطة، شاهَد العالم أجمع كيف تقدم أحدهم إلى زاوية، احتمى خلف جدار، رفع مسدسه، أطلق النيران على كل من في الجهة المقابلة، أعطب متظاهراً، شلّه، أماته، لا مشكلة، هذا فقير فقط، هذا لقمان منهم.

هكذا تعود بي الذاكرة لإحدى المرات القليلة التي التقيت لقمان فيها، منذ أقل من سنة، حين أكّد المؤكد: كلما اشتدّت المواجهة كلما سنشهد حالات عنف. سيذهبون إلى الحل الأمني. كلما حوصروا، كلما جن جنونهم. شعرت إنه يبالغ يومها، ربما بسبب قلة حجمنا، أو بسبب كبر حجمهم. لكن ها هو الخبر اليقين اليوم، كيف لا وجنونهم له جمهور؟ كيف لا وحصارهم له كاسحات؟

إننا أمام حرب شاملة على الناس، أعلنوها دون مقدمات. حرب اجتماعية لحظة صادروا العمل وقرروا نهب الدولة والسكوت عن سرقة أموال المودعين، ومستقبلهم، وماضيهم، وحاضرهم، وأولادهم، وعائلاتهم، وتعبهم. حرب سياسية حين أغلقوا المؤسسات، وقوّضوا الديموقراطية وتداول السلطة والتمثيل الشرعي، وبعد أن أعلنوا عداءهم للشعب حين حموا نظاماً فاسداً ومجرماً وأعلنوا أنه لن يسقط. حرب كيميائية منذ أن لوّثوا الهواء والماء، ولاحقًا فجروا المرفأ. والآن أعلنوها حرباً شعواء، حرباً بطعم آخر، بإخبار، بكاتم صوت، برصاص حيّ، على منوال ثمانينات لبنان، على منوال آخر سنوات العراق، وعلى منوال الحرب على الشعبَيْن اليمني والسوري وحرياتهما.

هكذا ببساطة، عندما تتداعى هذه الأنظمة، تبدأ هي وميليشياتها باستخدام كل الوسائل التي تؤكد على ميليشياويتها. تلاحق الكلام، الأفكار، الأحرف، ذرات الهواء، تمارس قمعها في الفعل، وتكرّس قمعها لرد الفعل.

هكذا ببساطة، وبمجانية، سيمعنون بما يقومون به ويفقهونه جيدًا، وسنموت اليوم أو في الغد، لا فرق. لا تبحثوا عمّن نفّذ، لا تُتعبوا أنفسكم لأنكم لن تجدوه. انظروا إلى من اتّهم، إلى من كتب «المجد لكاتم الصوت»، إلى من فتح وشرّع باب أمننا الشخصي أمام كل من يريد أن يقتل، انظروا إلى من سمح بكل هذا. أنظروا إلى كل كاتم صوت يستبيح يومياتنا ويعلن عن حقده، وكرهه، وينثر قيحه وكل يقينياته. هنا المقبرة التي يشاهدها العالم بأكمله، حين تموت قبل أن تموت، حين تُقتل قبل أن تُقتل، حين تُدفن قبل أن تُدفن، حين تُمنع من التفكير والتعبير، حين تُمنع من التلفظ، حين تُمنع من الاحتمال بحجة الاحتمال الواحد، الحصري، المطلق.

آخر الأخبار

غوغل لموظّفيها
الشرطة الإسرائيلية تعتقل الأكاديميّة نادرة شلهوب-كيفوركيان
الكونغرس يحاصر جامعة كولومبيا بتهمة التساهل مع معاداة السامية
السؤال الأبسط للخارجية الأميركية
ما فوق الإبادة
إعدام المخرّبين هو الحلّ لمعالجة مشكلة اكتظاظ السجون.