تعليق ثورة تشرين
فادي بردويل

أصحاب الذاكرة: لا ثقة

13 شباط 2020

عندما نفتح المقابر الجماعية لن نرى الموجودين فيها كأتباع طوائف بل كمواطنين

وداد حلواني

 

النسيان رهان السلطة

ترافق خروجنا على النظام منذ 17 تشرين مع فائض في استحضار الماضي (الحرب الأهلية، مشاريع الحريرية الاقتصادية، 8 و14 أذار...) حتى بدت الثورة في أحد جوانبها كعملية استعادة لذاكرة طالما وُصِمت بالمفقودة والمثقوبة. وربّما لم يقتنع أحد بعدم قدرة اللبنانيين واللبنانيات على استعادة ذاكرتهم بقدر النظام الذي نمّت أفعاله عن استكانته العميقة بأنه لن يتعرّض يوماً لأي مساءلة. لم تكن الذاكرة ميتة، بل مترسّبة في أجساد منهَكة ومعزولة عن بعضها بعضاً؛ يأسرها الخوف، خادم السلطة الأبدي.

فتحت الثورة كوّةً في جدار النظام استطعنا التسلّل من خلالها لكسر احتكار النظام للزمن. حرّر 17 تشرين الماضي الذي عاد مطالباً بحقه من نظام استكبر على الأحياء والأموات. لم تكتفِ الانتفاضة بإعادة إحياء الذاكرة، بل أعادت تشكيلها كذخر ثوري مصادره متعدّدة ومآله واحد: الانتقام من النظام.

مش ناسيينكن

ذاكرة الاقتصاص نقيض الذاكرة الرسمية للنظام اللبناني المبنية على تسخيف الكوارث والتنصّل من المسؤولية. تغيّر العالم أكثر من مرّة منذ منتصف القرن التاسع عشر، لكنّه لم يقدر على هزيمة مصطلحات النظام السياسية. فمن زمن المعلّم بطرس البستاني الذي كتب عقب الاقتتال الماروني-الدرزي في 1860 إلى زمن شرطة المجلس، ونحن نسمع كلاماً عن اليقظة وعدم الانجرار نحو الفتنة. وما إن ينجرّ النيام نحو الفتنة، حتى تُكنّى المجازر بـ«حوادث» و«أحداث» يليها طيّ صفحة الماضي. فيهنّئ النظام نفسه، لا بديل لنا سوى العيش معاً و«لا غالب ولا مغلوب» (صائب سلام بعد حرب 1958 الأهلية)، ويبرّئ نفسه معنوياً (كلّنا ضحايا وجلادون) وقانونياً (العفو بعد اتفاق الطائف)، محذرّاً من نبش القبور الذي يطّل منه شبح الفتنة مجدداً...

ثالوث «الفتنة- الحوادث- طيّ الصفحة» يُجهّل الفاعل ويتجنّب المحاسبة، فيعيد نظام الاقتتال الأهلي المتقطّع والنهب الدائم إنتاج نفسه.

ذاكرة الاقتصاص هي أيضاً نقيض لذاكرة أحزاب السلطة التي لا يلغي اختلاف مضامينها الإطار العام الذي ينظّمها. نسجت الأولى من ذاكرات خاصّة (الاستغلال، القوانين البطركيّة، عنف الحروب، تكلفة الاستشفاء، العنصرية، تدهور البيئة، غلاء المعيشة...) اجتمعت على مبدأي الحقّ والعدالة الاجتماعية بوجه النظام، بينما تستبدل الثانية المواطن بالطائفة والحقّ بالقوّة. تستعير تلك الأحزاب مفرداتها إمّا من الحالات النفسية المتوجّسة ما بين العشّاق (القلق، الهواجس، الاستياء، الإحباط، الزعل، غسيل القلوب بعد حرد) أو ما بين الشركاء التجاريّين (الغبن، الإجحاف، الحقوق). ذاكرة مهووسة بالمقارنة ما بين «نحن» و«هنّي» و«وين كنا ووين صرنا، ولوين رايحين» وبالتماهي مع الأقوى. فالترجمة الفعلية لإدانة جبران باسيل نبيه برّي عند وصفه بالبلطجي، قبيل الانتخابات النيابية الأخيرة لشدّ عصب مناصريه، أتت على يدَيْ بلطجية زياد أسود منذ أيام. ذكورية بدائية، لا تحتاج لمحلّل نفسي، تحكم منطق التماهي: بدّي كون متلو، ويا ريت فيّي كون أقوى وأكبر... بدّي أكتر. ذكورية بدائية أيضاً، تتجلّى في أسْطَرة النفس وجعلها دائماً على حقّ، فهي تتأرجح ما بين البطل وضحيّة كيد الشريك- العدو. وفي كلتا الحالتين (البطولة المنتصرِة ومظلوميّة الضحيّة)، هي خارج إطار المحاسبة. وما بين مصالحات النظام الفلكلورية والذاكرة الملحمية لأحزاب الجماعات، تنعدم العدالة ويظهر العنف، بوجهي الذلّ اليومي والاقتتال الأهلي، كأفق ماثل أمامنا.


تسعى السلطة اليوم إلى إعادة تثبيت شرعيّتها. تزدري 17 تشرين وتستخفّ بأثرها في النفوس، فتتسرّع إلى إعلان نهايتها: الثورة صارت ورانا، خلص المزح. تتعامل معها كأنها «قطوع ومرق»، بينما تردّد حكومة البروفيسور دياب بوقاحة أعطونا فرصة. في الحالتين، تسعى السلطة إلى محو ذاكرة المحاسبة التي أنتجتها الثورة، إمّا من خلال التعامل معها كماض ٍ لا تأثير له على الحاضر، أو من خلال «براءة» الأكاديميين الخبيثة التي تريد إقناعنا بأنّهم ليسوا استمراراً للنظام. لكنّ السلطة التي تستميت لمحو الذاكرة في السياسة، تعمل على خلق تاريخ مزيّف في الاقتصاد. فيتذرّع مصرف لبنان بالظروف الاستثنائية التي نشأت بعد 17 تشرين لاقتراح مشروع قانون يعطيه صلاحيات استثنائية، جاعلاً من نتيجة السياسات الاقتصادية سبباً للأزمة، وذريعة لتوسيع صلاحيّاته.

ليس المحو والتزييف إلّا أداتَيْن صغيرتَيْن في عدّة شغل نظام ديدنه تتفيه الكبائر وتكبير التوافه… جاييك يوم.

آخر الأخبار

حدث اليوم - فلسطين  الجمعة 19 نيسان 2024
«لا مجاعة في غزّة»
جعجع: الأمن الذاتي بحجّة مكافحة النزوح السوري
اجتياح رفح 
الإفراج عن الأكاديمية نادرة شلهوب كيفوركيان
خوفاً من مذكّرة اعتقال دولية