فكرة الانتخابات الأميركيّة
فادي بردويل

أميركان إنكزايتي

11 تشرين الثاني 2020

مسيرات سيّارة في المدن. قرع طناجر. زمامير وأعلام. رجال مسنّون على حافّة الطريق يصفّقون للمواكب. نساء على البلاكين. مفرقعات كثيرة. أجساد تحرّرت من أحزمة الأمان، تكاد تخرج من شبابيك السيّارات وفتحات سقوفها…

بدت أميركا المحتفلة بهزيمة دونالد ترامب بُعيد إعلان نتائج فرز أصوات الناخبين أليفة.

رافق كلّ ذلك الكثير الكثير من الهتاف والصياح. صراخ تمتزج فيه نشوة الفرح بانتصار بايدن/ هاريس بشيء أبعد من الاحتفاليّة. أصوات تأتي من بعيد. أصوات تصرّف الكثير من المشاعر المكبوتة منذ خسارة هيلاري كلينتون انتخابات اعتبرها كثيرون مضمونة النتائج أمام مهرّج لا حظوظ له. أصوات تذكّر بأنّ نهاية الأسبوع الأميركية كانت أشبه بطقس جماعي لتطهير جسد الأمّة من روح ملعونة سكنت بيتها الأبيض لأربع سنوات.

بذلك نكون أمام مشهد معاكس للاحتفالات العفويّة التي تلت انتخاب باراك أوباما منذ اثنَي عشر عامًا. حينها احتفل الأميركيّون ببداية جديدة تبشّر بولادة مجتمع ما بعد عنصري. رأوا في أوباما مخلّصًا يطهّرهم من إرث العبوديّة. أمّا اليوم، فلا بشارة في انتخاب نائب أوباما رئيساً، بل ارتياح عام لإزاحة كابوس أعاد عنصريّة بلا قفازات وبلا أقنعة إلى الواجهة.


لكن دونالد ترامب ليس روحًا ملعونة ولا كابوساً عابراً.

فبقدر ما كان ممتلئ النرجسيّة، كان أيضًا شاشة سياسيّة بيضاء شكّلت نقطة التقاء لتيّارات سلطويّة جوفيّة أميركيّة ومصالح جمهوريّة محافظة. عكس ترامب صور تلك التيارات وغذّاها. فساهم بتحرير غرائزها العدوانيّة التي انتقلت من الغرف المغلقة وهوامش الممارسة السياسية إلى لسان حال رئاسة استبدلت الحجّة بالنعت. فالمكسيكي مغتصب وقاتل، وجو بايدن «نايص» واشتراكي، وإليزابث وارن بوكاهونتاس، والبلدان ذات الأكثرية المسلمة التي حظر دخول مواطنيها هي بلاد إرهاب.

كثّف ترامب مشاعر البيض الذين يستشعرون في قرارات أنفسهم تبعات مسار التحوّل الديمغرافي والسياسي الذي سيجرّدهم من سيادتهم المطلقة. مسار يحوّلهم من أسياد الأرض بلا منازع إلى مجموعة إثنية بين مجموعات أخرى. بالطبع لم يتحوّل البيض إلى أقليّة بعد. إلّا إن التحوّل الأقلوي قد بدأ على صعيد الوعي الجماعي المأزوم الذي ينظر إلى نفسه كمحاصر من الداخل والخارج، وضحيّة من يريد سلبه ملكه وطريقة عيشه. باختصار، أميركا قلعة محاصرة. التقط ترامب البارانويا القوميّة وضاعفها. بارانويا عداونيّة دائمة الهجوم باسم الدفاع عن النفس. فلا سبيل لحماية أميركا إلّا في بناء الجدران العازلة واعتقال المهاجرين وفصلهم عن أولادهم وتكديس الأسلحة. أمّا الميليشيات، فازداد عديدها ونشاطها بعد انتخاب باراك حسين أوباما وعودة المقاتلين من أفغانستان والعراق.

تصويت هؤلاء لترامب، كما لاحظ وليام مازاريلا، أقرب إلى ترسيخ التماهي معه– «هو أنا وأنا هو»– ممّا هو عمليّة تمثيل سياسي تقتضي اقتراع الناخبين والناخبات لممثّل عن مصالحها الاقتصادية والسياسيّة. التماهي معه يفسّر عدم محاسبة رئيس أراد كل السلطة بلا أي من مسؤوليات الحكم. على العكس من ذلك، وسّع ترامب قاعدته الشعبيّة بدل انفكاكها عنه بعد أربع سنوات من تقويض عمل المؤسسات واستمراريتها، والانكباب على محو الحدود بين الواقع والخيال، والحقّ والباطل، والمصلحة العامّة والخاصّة، والسياسة والعلم.

لكن رعب القوميّين البيض من الآتي والتماهي مع ترامب لا يفسّران كلّ شيء. فرأت بعض الأقليّات العرقيّة والجنسيّة في ترامب ممثّلاً لمصالحها السياسيّة. فلقد ساهمت فئة راجحة من الكوبيّين-الأميركيّين الذين يتوارثون العداء للشيوعيّة أبًا عن جدّ، بفوزه بولاية فلوريدا. كما نال دعم بعض المثليّين البرجوازيين والجمهوريّين الذين لم يتوقّفوا كثيرًا عند مايك بنس، نائب الرئيس المسيحي المحافظ، الذي سبق ان حذّر من الانهيار الاجتماعي الناتج عن زواج المثليّين.


ليس التصويت الشعبي الكثيف لترامب إلّا دليلاً إضافيًا على عمق الشرخ في مجتمع يزداد احتقانًا وتسلّحًا. فالتصويت له بعد اختباره، على خلاف المجازفة التي رافقت التصويت له سنة 2016 بوجه كلينتون، مرشّحة الاستبلشمنت، يدلّ على تزعزع الإيمان بالديموقراطيّة. وإلّا فكيف نفسّر حصد مَن جاهر بضرب عرض الحائط بالديموقراطيّة وممارستها أكثر من 71 مليون صوت؟ يقترب الذي أدلى بصوته له من تسخير ممارسات الديمقراطيّة الانتخابيّة للتضحيّة بها. وإن نظرنا الى تاريخ الولايات المتحدة من زاوية تجربة الأفارقة-الأميركيين، الذين لم يتوقّف النظام عن إرهابهم جسديّا ومحاولة إقصائهم قانونيًّا عن حقّ الاقتراع، لانتبهنا إلى أن الإيمان بالديموقراطيّة ارتكز دائما إلى الإقرار المسبق بسيادة العرق الأبيض على البلاد.


ينعكس كلّ ذلك على الجوّ العام في البلاد ونفسيّات الناس في يوميّاتها، فتطغى المشاعر الحادّة والمتأرجحة. الإنكزايتي، بما هي العارض الموحّد للانقسام السياسي-الاجتماعي- الثقافي الحاد، هي الرابحة الوحيدة لعمليّة انتخابيّة طويلة نشهد الآن فصلها الختامي. اكتسحت الانكزايتي بلاد الحلم الأميركي سابقًا بعدما نضب مخزون الأمل وأصبح تسويق صورته أكثر صعوبة. فمالت الإنكزايتي الليبراليّة الى التوجّس العام ونوبات الهلع التي سرعان ما تنقلب الى حالات نشوة بصناعة التاريخ، كتلك التي اكتسحت الجموع بعد اعلان فوز بايدن/ هاريس. بينما تجنح الانكزايتي المحافظة نحو البارانويا القوميّة التي تولد على تخومها السلطويّة نقمة عميقة ضدّ الاقليّات والنساء والمهاجرين تغذّيها فكرة استرجاع وطن سليب وهيمنة عرقيّة متآكلة.

لم يخطئ جو بايدن عندما نبّه الى أن الصراع يدور الآن حول روح الامّة. إلّا أنّه من الصعب تصوّر عهده الآتي المحاصر من الجمهوريّين والمكبّل بانقسامات الديموقراطيين الداخليّة، بلسمًا لجراح الروح الأميركية. أمّا الرجل الذي يسعى جاهدا لتقديم نفسه كـ«بيّ الكلّ» بعد اعلان فوزه فليس من طينة معالجي أرواح الأمم المريضة.

أميركان إنكزايتي: لا استكانة.

آخر الأخبار

حدث اليوم - فلسطين  الجمعة 19 نيسان 2024
«لا مجاعة في غزّة»
جعجع: الأمن الذاتي بحجّة مكافحة النزوح السوري
اجتياح رفح 
الإفراج عن الأكاديمية نادرة شلهوب كيفوركيان
خوفاً من مذكّرة اعتقال دولية