نظرة ثورة تشرين
وائل عبد الفتاح

البروفيسور والدولة الميتة

20 كانون الأول 2019

من سيَلْتَهم الدولة الميتة؟ هذا موتٌ لا تقدر عليه أسماكٌ صغيرة لعوب. هذا موتٌ لا يقدر عليه سوى الموتى أنفسهم. ماذا نفعل؟ ثورة وخرجنا. ملايين وملأنا الشوارع. كيف تنتصر الثورة ولا تنهار الدولة؟ ولأنّ الجموع ملولة، والثورة ساعة بينما العمر ساعات رابضة في قواقع الحياة التي لم يعرفوا غيرها، فإنّ المنتصر حكيم. وصاحب السلطة معلّم يعرف أكثر. تربويّ حرّيف في نسج الشبكات الاجتماعية، يتوه فيها الفرد العادي. إمّا أن يظلّ زبونًا ورهينةً في نفس الوقت أو يصبح على قوائم الخونة. هم يعرفون كلّ بلدٍ في هذه البقعة الملعونة على اختلافها… ونحن أعباء عليهم.

الثورة في بيروت تجاوزت الوقت المسموح. في القاهرة، سمحوا لنا بـ18 يومًا فقط. هي عمر الخروج من الشبكات والاحتفال بموت السلطة. بعد ذلك ماذا تريدون. تركناكم تلعبون… الآن عودوا إلى بيوتكم كما قال خالد الذكر، فاكهة الطغاة، معمّر القذافي.


تخيّلْ دولةً ميتةً تحذّر من انهيارها؟ طيب… سنسأل سؤالنا مرّةً أخرى: مَن سيلتهم الدولة الميتة لنمرّ؟ السؤال أقدم من تكليف البروفيسور حسان دياب بتشكيل الحكومة. وبعيدًا من أنّ اختياره ليس سوى استعراض لقوّة السلاح المهيمن؛ إذ لم يعُد حزب الله يستعمله إلا في إعادة تنصيب المنهار من دائرة مركزها إيران.

فقَدَ سلاح حزب الله زهوته ومجاله العاطفي؛ مع خفوت معارك المقاومة مقارنةً بمعارك «تثبيت» الأركان المنهارة في إمبراطورية «الوليّ الفقيه». وهذا الفقدان جوهريّ وليس عابرًا، فهو تماسُك بنيةٍ ظلّت تنمو تدريجيًّا لتُصارع على الهوية من داخل الحرب مع العدو (إسرائيل) ليس بمنطق تحرير فلسطين (والتخلّص من محتلّ استيطاني)، ولكن بمنطق انتصارات مؤسَّسة في حرب الهويات… هكذا أصبح سلاح المقاومة هو مركز اصطفاف هويّات باحثة عن سلطة. وبعد القوميّة في الزمن الناصري، وبالتوازي مع الإسلامية في زمن انتصار حماس، حفر حزب الله وجوده بهويّة ابتلعت كلّ الحطام ببراعة السلطويّ الناشئ.

الناشئ اليوم عجوز مترهّل يدافع عن حصاد السنين. والاستثمار في حطام كلّ الاتفاقات من سايكس بيكو وحتى الطائف. وبين النشوء لا تطوّر في بلادنا. إمّا أن تكون «أنا» الحزب/النظام/ الحاكم هي نهاية العالم… آخر المنتظرين… خلاص البشرية… أو أنّ هذا عالمٌ خائن لا يستحقّ سوى الدمار.

العالم بالنسبة لنا: خلاصاً أو مؤامرة. يحدث هذا منذ سايكس بيكو، وسقوط الخلافة، والحرب مع إسرائيل… نحن أسرى خلاصيّون يبنون مملكتهم على أجسادنا… كانوا هم ورثةً نرجسيّين، من استعمار خشن ينتمي للإقطاع إلى ناعم ينتمي للدولة القومية… مع كلّ مرحلة يظهر رعاة يعتنون بوكلاء محليّين. يعتبرون أنفسهم «نحن…» ويتّخذون في حياتهم شكل «الوطن» عندما يكونون في مزاج الحنان… ويضيفون بعض القسوة ويصبحون «الدولة…»… وهم ليسوا إلا أبناء بيوت السلطة حيث يتحالف المصرفيّ والسلاحجيّ والروحانيّ، بنسبٍ، حسب طبيعة كل بلد وظروفه واحتياجات جمهوره.


بيوت السلطة لم تتغيّر تقريبًا فكرةُ أنّها ليست دولة ولكنّها «وضع يد» لبيت من بيوت السلطة. وهذا هو المأزق بالضبط… بيوت السلطة في شيخوختها لم تعُد قادرة على شيء. تريد الاستمرار وتسمّيه الاستقرار… ولا شيء فعلاً سوى فتات من الإحسان… هكذا يريد البروفيسور حسّان تغيير العالم ليبقى على حاله. هو أعجوبة بيوت السلطة في استعراض قدرتها.

نسيتُ أن أقول إنّ بيت السلطة في بيروت الآن هو «الحزب». هكذا تقال بالألف واللام. هو الحاكم الذي سئم من إخفاء لحيته وسلاح قاسم سليماني وعباءة خامنئي… ولهذا اختارت أن تدمّر صيغة دولة الطوائف باختيار رئيس حكومة سنّي بدون كتلته السنّية… يحرسه فُرسان الطوائف الأخرى… ويُشبه رجال الحكم الذين على الموضة هذه الأيام، أولئك الذين يقولون كلامًا يشبه الحكمة… ويلوكون شعاراتٍ تشبه الشعارات… وهم نتاجٌ طبيعيٌّ لرواج فكرة مستعارة من عالم الاستهلاك حيث مرقة ماجي تقدَّم على أنّها حساء… و«التانج» يعيش في دَوْر العصير، و«النيدو» في دور الحليب، أمّا «الأندومي» فيعيش في سمت الأكل.

كتبتُ هذا على الفيسبوك في مناسبةٍ بعيدة عن ظهور البروفيسور حسّان من عمق الأزمة، بالضبط عندما صرّح سياريست معتّق إنّ الثورة مثل الماء الذي يغلي… وبعد فترة يبرد. تداول الناس التصريح وكأنّه حكمة، فاستدعيت صور «الأندومي» وكأنه أكل. تكرّر الأمر مع التكليف في بيروت، ويتكرّر كلّما تأكّد موت الماضي ورفضه للرحيل… وليس أمامنا الآن إلا مطالبة بيوت السلطة أن تلتهم الميت الذي أماتَتْه.

.تُنشَر بالاتفاق مع موقع مدينة

آخر الأخبار

غوغل لموظّفيها
الشرطة الإسرائيلية تعتقل الأكاديميّة نادرة شلهوب-كيفوركيان
الكونغرس يحاصر جامعة كولومبيا بتهمة التساهل مع معاداة السامية
السؤال الأبسط للخارجية الأميركية
ما فوق الإبادة
إعدام المخرّبين هو الحلّ لمعالجة مشكلة اكتظاظ السجون.