تحليل في زمن الانهيار
طارق أبي سمرا

العَيْشُ في الانهيار كأنّ شيئاً لم يكن

19 آذار 2021

بقيَ روتين حياتي على حاله تقريباً.

لم أكن أتصوَّره منيعاً إلى هذا الحدّ؛ لكن يبدو أنه لم يتأثّر لا بانهيارٍ ماليّ واقتصاديّ، ولا بوباءٍ عالميّ وحجْرٍ منزليّ، فتابع سيْرَه المُنتظم كأنّ شيئاً لم يكن. تقريباً.

كنتُ أعيش مُنكفِئاً على نفسي، مُنقطعاً نسبيّاً عن العالم الخارجيّ، ولا أزال أعيش كذلك الآن، بعد الانهيار وتفشّي الوباء. الآن كما في السابق، تمرّ أيامٌ كثيرة لا أرى فيها أحداً غير زوجتي، وقد لا أغادر المنزل – حيث أعمل – طوال أسبوعٍ أو حتّى أسبوعَين إلّا لأنزِّه كلبتي، فلا أتجاوز حينذاك محيطَ البناية التي أسكن فيها.

بيني وبين الدنيا غِشاءٌ يَقيني منها، فلا أُبصِرها إلّا عبره. غشاءٌ تبدو لي الدنيا بعيدةً وضبابيّةً مِن خلاله. تروقني رؤيتُها باهتةً، إذ يُخيَّل لي حينها أنّ ما يفوتني فيما أحيا منقطعاً عنها ليس بالشيء الكثير. تريحني رؤيتُها بعيدةً، إذ أطمئنّ عندئذٍ إلى أنّ ما قد تحويه الدنيا مِن هيجانٍ واضطراباتٍ، لن يصلني منه سوى أصداءٍ خافتةٍ، ذبذباتٍ واهنةٍ لا تستطيع استثارة مشاعري.

منذ سنوات طويلة وأنا أعيش إذاً حجْراً عاطفيّاً منزليّاً طوعيّاً إذا جاز التعبير. أنْعَتُه بالعاطفيّ لأنّه حجْرٌ وظيفته إبقاء مشاعري مُخدَّرة قدر المُستطاع، وحمايتي تالياً مِن القلق؛ ذاك أنّ مشاعري متى تُستثار، وأيّاً كانت طبيعتها، تستحيل كلُّها، في أغلب الأحيان، وقوداً للقلق.

عندما دخلنا فترةَ الحجْر المنزليّ القسريّ الأولى، والتي ترافقت مع إقفالٍ شاملٍ للبلد، لم أمتعض قطّ. صحيحٌ أنّني كنتُ هلعاً آنذاك مِن تفشّي الوباء، مِن إمكان التقاطي الفيروس، لكنّ الهلع تلاشى تدريجاً، وأخذ يحلّ محلّه إحساسٌ غريبٌ ينطوي على شيء من التناقض: مزيجٌ مِن قلق خافت بالكاد يَعْبُر عتبةَ الوعي، ومِن طمأنينة تُغلِّفُني بدفئها– دفء أشدّ من ذاك الذي يمنحني إيّاه الغشاءُ الفاصل بيني وبين الدنيا. وقد تزامن كل ذلك مع إدراكي السريع بأنّني في أتمّ الجهوزيّة للتحوّل إلى محجور عليه: كان عليّ فقط أن أترك روتين حياتي يُتابع سيره المُنتظم كأنّ شيئاً لم يكن.


انتهت فترةُ الحجر الأولى، ثمّ الثانية فالثالثة، وربّما الرابعة أيضاً (لم أعد أذكر كم كان عدد فترات الحجْر بالضبط)؛ وفي الأثناء، استمرّ الانهيار يتعاظم بوتيرة مُتسارعة، فصار العالم الخارجي يبدو لي، وأنا أتلصلص عليه من خلال ذلك الغشاء الذي يُغلِّفني، سجناً كبيراً لا يفعل سُكانه سوى محاولة البقاء قيدَ الحياة، مُتناسين أنّ حكماً بالإعدام قد صدر بحقّ كثيرين منهم. أتلصلص عليه للحظات قليلة فقط، ثم أتناساه بسرعة، ظانّاً أنّ سجني الصغير– الغشاء الذي أحيا فيه– يقع خارج هذا السجن الكبير الذي صاره البلد.

لكن في بعض الأحيان، وهي أحيان لا تأتي إلا فيما ندر، يتمزّق الغشاءُ الذي يغلّفني فأجدني بغتةً في قلب الدنيا، لا شيء يفصلني عنها أو يحميني منها.

حصل ذلك، مثلاً، حين ضربَت جسدي وخضخضَت لحمي تلك الموجةُ الصادمة الجبّارة التي وَلَّدها انفجارُ مرفأ بيروت في الرابع من آب الماضي. رأيتُني في تلك اللحظة كأنّني قُذِفْتُ في عالمٍ مُرعب أجهله، فعلِمتُ توّاً، بالرغم من جهلي به، أنّه العالمُ عينه الذي سعيتُ طوال حياتي إلى عدم إبصاره كي أوهِم نفسي بأنني لا أعيش فيه. كان ذلك الغشاء قد انفجر مع المرفأ ولم يتبقَّ شيءٌ منه؛ لكنه سرعان ما أخذ يتكوَّن مِن جديد، تلقائيّاً، مُغلِّفاً إيّاي رويداً رويداً حتّى عاد، بعد حوالي أسابيع ثلاثة، إلى حالته السابقة تقريباً.


تختلط عليّ الأمور أحياناً، فلا أعود أميِّز بين وباءٍ، وانفجارٍ، وانهيارٍ ماليّ، وتحلّلٍ مجتمعيّ. وفي أحيان أخرى، أجدني أستخدم إحدى هذه الكوارث كغشاوة تحجب عنّي رؤيةَ غيرها مِن الكوارث. أعتقد أنّ هذا ما فعلْتُه في بداية فترة الحجْر المنزلي الأولى: حدَّقْت بعنادٍ في الوباء، مُستهلِكاً كامل طاقتي الذهنيّة في التركيز على هلعي منه، فلم أعد أرى الانهيار الذي كان لا يزال في بداياته، وشعرتُ بشيءٍ مِن طمأنينةٍ غلَّفَتْني بدفئها لأسبوعٍ أو أسبوعَين.

تختلط عليّ الأمور أحياناً، لا بل في كثير مِن الأحيان، فلا أعود مدركاً ممّا أنا خائف. فقد أصبح الخوف يتملّكني الآن في كثير من الأحيان، وصرت أشعر بأنّ الغشاء الذي ما زلت أحيا فيه، بات يتقاعس كثيراً عن القيام بوظيفته. كأنّه أخذ يتحلّل ببطءٍ، مِن دون أن ألحظ ذلك في البدء، فأضحى بعد مُدّة أَرَقّ مِن ذي قبل، وأكثر شفافيّة. لذلك، صار عليّ الآن، لكي أتناسى الدنيا وما تحويه، أن أتناسى تحلُّلَ الغشاء الذي يقيني منها. عليّ، إذاً، أن أترك روتين حياتي يُتابع سيْره المُنتظم كأنّ شيئاً لم يكن. تقريباً.

آخر الأخبار

«لا مجاعة في غزّة»
جعجع: الأمن الذاتي بحجّة مكافحة النزوح السوري
اجتياح رفح 
الإفراج عن الأكاديمية نادرة شلهوب كيفوركيان
خوفاً من مذكّرة اعتقال دولية
هكذا يعذّب الاحتلال الدكتور إياد شقّورة