تحليل كورونا
سامر فرنجية

الوباء وأيديولوجيّته

16 آذار 2020

منعتنا الثورة أن نرى كم باتت «الحياة متداعية» في زمننا، مستباحة من قبل سلطات عديدة، عرضة لأخطار اقتصادية وأمنية وبيئية. فقد كانت الثورة أكثر من مجرّد حدث سياسي، وشكّلت محاولةً قد تكون الأخيرة للهرب من هذا الإدراك ومن القلق شبه الدائم الذي يرافق التهافت المستمرّ لمكوّنات الحياة.

حاولنا الهروب من هذا الإدراك، لكنّ «الأزمة» كانت أقوى وأسرع وأشمل. بدأنا نلتمّس تداعي حياتنا مع الحرائق والفيضانات التي اجتاحت لبنان من دون أي رادع يحمينا منها. ثم جاءت هويتنا الجديدة كـ«مودعين صغار» لنتحسّس مدى سهولة استباحة حياتنا المادية من قبل بعض المصارف الخارجة عن القانون. واستكمل الوباء هذا المسلسل، كاشفًا انحلال أبسط مكوّنات الحياة.

بات كلّ شيء خطيراً. بات السلام على غريب كفيلاً وحده بقتل الأحبّاء، غير آبه بحرمة الأجساد والمنازل.


تعرّف المجتمع على نفسه في الأشهر الماضية من خلال اكتشاف هوامشه واستثناءاته. اكتشف فقراءه، واكتشف لاجئيه، واكتشف الخارجين عن الإجماع الوطني. اكتشفهم لأنّ حياتهم «الاستثنائية» باتت تشكّل القاعدة. اكتشفهم لأنّه أحسّ بقلق لم يكن يدرك وجوده، قلق يشكّل واقع كلّ من تستباح حياته يوميًا، قلق كان من السهل تجاهله كاستثناء في الماضي. جاء الوباء ليعمّم حالة الاستثناء هذه، ليسقط «طبيعية» الحياة، الضحية الأولى للوباء.

تعرّف المجتمع إلى استثناءاته في لحظة تداعي شروط حياته. حاول جاهدًا أن يحاصر تلك الاستثناءات، أن يديرها من قبل الدولة والمنظمات الدولية وجيوش الخبراء، أن يحاصرها من خلال خطابات عنصرية من هنا وإصلاحية من هناك. وللحظة، بدأ يرى المجتمع في مصير اللاجئ انعكاسًا لما يمكن أن يصبح، وبدأ يتفهّم تجربة المهمَّشين بحساسية لم يكن يمتلكها. بدأ يرى كيف يتمّ إنتاج الهوامش وإعادة إنتاجهم في كلّ مرة يقف في الصف ليسحب بعض الدولارات أو كلّما تُرك وحيدًا في وجه الوباء.

اختبر المجتمع معنى أن تكون حياته تتداعى، وأحسّ بحالة القلق الدائم التي تواكب هذا التداعي. ولكنّ هذا الاكتشاف لم يعنِ بالضرورة حساسية سياسية مختلفة، تنطلق من هذا المشترك لكي تبلور مشروعاً أكثر اتساعًا للمهمّشين، ينطلق من ضرورة الدفاع عن مكوّنات الحياة المتشاركة والمترابطة في وجه الاستباحات العديدة لهم. فالوباء ألغى السياسة، وفرض مكانها الخوف، خوف الجميع من التحوّل للاستثناء الجديد، التحوّل لموبوئين لا يمتلكون ورق تواليت كافٍ في عزلتهم.


هناك وباء، وهناك أيديولوجية الوباء التي بدأت بالظهور. أيديولوجية تمجّد الفرد ومراقبته الذاتية، تحوّل المشاكل السياسية إلى كوارث طبيعية، تبحث عن وحدة بيولوجية في وجه الهوامش الموبوئين: الضاحية البارحة، متنزّهين على الكورنيش اليوم، اللاجئين غدًا. تحوّلت المؤسسات الإعلامية إلى مراكز للوشاية، تفضح مَن لا يلتزم حماية أطفاله وأطفالنا. سيطرت الشركات على المنازل وحوّلتها امتداداً لأماكن العمل. وبات الفقير خطرًا بيولوجيًا، بعدما كان خطرًا اجتماعيًا، يجب عزله في قطاع طبي تمّت خصخصته من زمان.

لم يتأخّر النظام بالتقاط الفرصة التي قدّمتها أيديولوجيا الوباء. أعلن مرشد النظام «الحرب» على الوباء، وهي الاستعارة التي تعني دخولنا في مرحلة استثناء لا أفق لها. التقط مجلس وزرائه الإشارة، وأعلن «حالة الطوارئ الصحية»، مطالباً معارضيه بوضع الخلافات جانبًا ريثما ينتهي الناس من غسل أيديهم.

سقطت الضحية الثانية للوباء، أي السياسة. فبات الفساد والخصخصة والنهب الذين أدّوا بنا إلى هذه الكارثة جزءاً من الماضي. نحن أمام خطر وجودي ما قبل سياسي، معركة بقاء، تحتاج إلى قيادة «المجلس الأعلى للدفاع»، وهو الفصيل الأساسي للتكنوقراط. وفي وجه هذا التطوّر، لم تستطع «جمعية المصارف» السيطرة على فرحها فأصدرت بيانها قبل وقته. اليوم بات نهبها للودائع مبرَّراً طبيًا.

منذ أشهر، وحياتنا تستباح وتتداعى. ومنذ أشهر، يتحوّل الاستثناء تدريجيًا للنموذج. جاء هذا الوباء الخطير ليستكمل هذا المسار. لكنّ خطورته تمتدّ إلى أيديولوجيّته أيضًا.

الهلع المشروع لا ينفي الخوف والريبة من بوادر نظام «ما بعد الكورونا». فالأزمات هي التربة المفضّلة للنزعات القمعية عند الأنظمة، والفرصة لتحويل «حالات الاستثناء» إلى مرتبة الحياة الطبيعية. فبعد «الحرب على المخدرات» و«الحرب على الإرهاب»، ندخل اليوم مرحلة «الحرب على الوباء». ولكي لا ننسى، فإنّ حاضرنا اليوم هو صنيعة تلك الحروب أكثر مما هو صنيعة الإرهاب أو المخدّرات نفسها.

آخر الأخبار

تعليق

ما مغزى النقد؟

سامر فرنجية
ديفيد ساترفيلد في مؤتمر الخارجية الأميركية
تعليق

في نقد حماس: مقارنة مع الثورة السوريّة 

بشار حيدر
مستوطنون يضيّقون على الصحافة أثناء تغطية اقتحام الأقصى
اعتقال 300 ناشط يهودي في نيويورك
السياج الجامعي العازل: هكذا تعاملت جامعة نيويورك مع المتظاهرين