تحليل
سلسلة
الهجرة الجديدة
فادي بردويل

انفجار جديد، انهيار آخر: المتاهة المتجدّدة

20 آذار 2021

نحن اليوم سوّاح في أرض الزمان المتحرّك، نصول ونجول كمن يتحرّك في المتاهة. نطير ونمشي ونحطّ ثم نعود ونتحرّك ونطير، من الحنين إلى الغربة والمطارات والمدن البعيدة إلى المتاهة المتجددة.

وديع سعادة

لم يكن قد مضى وقت طويل على إبحار «لارنكا روز» من ميناء جونية عندما باشر ركّابها التحلّق حول المغنّي. اجتمعوا مع بدء تلاشي الخوف الجماعي الذي رافق صعودهم إلى الباخرة وإبحارها. فتح أوّل الارتخاء ثغرة في الأجهزة العصبيّة المشدودة، سمحت بتسلّل أصوات المغنّي وعوده إلى قلوب المسافرين ليلاً في البحر. لم يكن قد مضى وقت طويل، إلّا أنّه كان كافياً للخروج من مرمى نيران مدافع القوّات الأسديّة التي دأبت على استهداف ميناء جونية مساءً مع خروج البواخر إلى قبرص.

إلّا أن التوتّر الاستثنائي لتلك الليلة من نهاية آذار 1989 لم يكن كلّه نتيجة الخوف من قصف الجيش السوري. كنا قد اعتدنا في الأسبوعين الأخيرين على غزارة النيران الأسديّة المتدفّقة من مدافعها الثقيلة وراجماتها ردّاً على إعلان ميشال عون مغامرته المدمّرة الأولى. أرادها حرب تحرير وانتهت، كحربه الثانية، بخراب عظيم. ففي تلك الليلة، وصلت الغيمة الكيميائيّة السوداء التي غطّت الساحل منذ الصباح بعيد انفجار خزّانات الغاز في الدورة، إلى قبرص، قبل وصول المسافرين. رعب الانفجار غير المسبوق، والذي استعيدت بعض صوره بعد تفجير العاصمة في 4 آب، جعل مَن صعد إلى الباخرة ذلك المساء يدير ظهره حرفيّاً لحريق هائل، شُبِّه حينها بيوم الدينونة.

تحلّقوا حول المغنّي المتعاقد مع إدارة لارنكا روز لمرافقة ليل المغادرين إلى منصّة إقلاع اللبنانيين إلى العالم. غطّى دخان سجائر المستمعين الكثيف، الممزوج بأنفاسهم المشبعة بالويسكي، الصالة. فبدأت بالانسحاب من إيقاع الزمن العادي لتشكّل عالماً خاصاً بها، يسكنه غرباء لا يجمع بينهم إلّا مغني باخرة وحريق تركوه مشتعلاً وراءهم ومضوا. ما لبثت أن دخلت الصالة في عالمها حتّى قرّر المغني الدخول في وصلة «وطنيّات» تنقلّت بين راجع يتعمّر لبنان وموعدنا أرضك يا بلدنا وما بينهما.

الخوف، مغادرة البلاد، الليلة المشحونة، الحريق، وداع الأهل، النجاة والإحساس بالذنب المرافق لها، البحر، مجهول الأيّام الآتية، ارتخاء الجهاز العصبي، الكحول، السفر الذي يخلخل الهويّة الشخصيّة المرتبطة بمكان وزمان محددّين… كلّ ذلك أعطى جرعة الأغاني الوطنيّة في تلك الليلة فعاليّة قصوى.

غمرت الدموع الوجوه.


علقت صورة الصالة الغارقة بدموعها ورائحة كحولها وصوت مغنّيها وضباب دخان سجائرها في ذاكرتي. والأرجح أن حدّة ذلك النهار الذي بدأ بانفجار غير مسبوق، تبعه اجتياز أوتوستراد خالٍ من كلّ شيء إلّا سحابة كيميائية تتمدّد بكّل الاتجاهات، وانتهى على متن باخرة قديمة برفقة مطرب، مسؤولة عن توليد الشحنة العاطفيّة الاستثنائية لحفر الذاكرة.

عندما شاهدنا- نحن جيل التسعينيّات- بعد بضعة سنوات، أفلام أمير كوستوريكا – أندرغراوند و بلاك كات، وايت كات – سحرتنا مشاهدها وأدمنّا موسيقاها. سحر وإدمان أبعد ما يكونان عن التذوّق والنقد الناتج عن أخذ مسافة عن عمل ما لتحليله. أمسك بنا كوستوريكا حينها. ولا أظنّ أننا كنا ندرك سرّ هذا المسّ. لعل كوستوريكا نجح بخرق دفاعاتنا النفسيّة لالتقاط ذاكرة جوفيّة للحروب التي شكّلتنا بشحناتها العاطفيّة القويّة وتقلّباتها الدراميّة، مولِّدةً إحساساً دفيناً، نادراً ما عُبّر عنه، بعبثيّة الحياة.

كيف نبوح به وهو نقيض الأمل التي أرادت حملة التسويق المتواصلة لإعادة الإعمار بثّه بالنفوس؟ اكتشفنا يومها، في العصر الذهبي لدعاية النظام قبل إفلاس صوره وتعابيره، أن بيروت ليست تلك المدينة التي اختبرناها بمتاريس تشطرها إلى نصفين، بل وحدة متكاملة يربطها زمن يمتد من ماضيها العريق إلى مستقبلها المزدهر بالرساميل الآتية. وعندما سطوا كلّهم على الأيّام الآتية وأطلّ المستقبل مفلساً، استغنى النظام عن كلّ تلك الحملات الدعائية المكلفة، وأعلن الدخول في زمن التقشّف الخطابي: «تلحس طيزي


لعبت الأغنيات الوطنيّة في تلك الليلة دور الصاعق الذي فجّر الحواجز التي حبست الدموع في العيون. إلّا أنّه من الصعب حصر معاني الدموع المتعدّدة في كلمات تأمل رجوع لبنان أحلى ممّا كان، مطلقةً في لحظة المغادرة وعد العودة إليه: «مهما تغرّبنا وبعدنا». فالحنين إلى الوطن الذي يلازم الكلام عن الهجرة كظلّه، ليس إلّا إحدى حالاتها الشعوريّة. والأرجح أن أدبيّات الحنين إلى لبنان، والتي تستميت للعودة إليه– ردّني إلى بلادي– هي أكثر تعبيراً عن الفكر القومي اللبناني البلدي ممّا هي عن تجارب المهاجرين في بلدانهم المختلفة. وحتّى ما صنعه في بروكلين إيليا أبو ماضي– وطن النجوم– أعيد تدويره لإنتاج صورة عن لبنان، وحنين إليه من قلبه، استودعت في كتب القراءة. فحفظناها «عالغايب» على ضوء الشموع وطلقات الخطّاط الأحمر والقنابل المضيئة… نجوم وطننا.

الحنين هو الشعور الرسمي للهجرة. واجهتها البريئة، البرّاقة. يخفي التستّر بالحنين الحالات الشعوريّة المتضاربة التي تنتاب المغادرين الجدد الذين تزداد أعدادهم عقب الانهيارات المتتالية وتفجير العاصمة بعد تحويل مرفإها إلى مستودع لآلة القتل الأسديّة. فيشعر من نجح منهم بتأمين حياة كريمة بارتياح سرعان ما يداهمه إحساس بالذنب، إمّا لتفضيل النجاة الشخصيّة على المعاناة الجماعيّة التي كان حتّى ماضٍ قريب جزءاً منها، أو للتخلّي عن أهل يكبرون بالعمر. فالهجرة خروج عن سنّة الحياة الأسريّة عندنا، والتي تقتضي تبادل العناية بين الأهل وأولادهم بين الطفولة والشيخوخة.

تلعب التحويلات الماليّة دورها هنا. تسعى التحويلات إلى التعويض جزئياً عن الغياب ولمسة العناية ودفئها بالمال المجرّد البارد. فتخرج العناية بدورها من نطاق أعراف التبادل العائلي لتصبح سلعة تشترى بالمال لمن استطاع ذلك.


الهجرة من لبنان غذّت في العقود الأخيرة هجرةً معاكسة إليه.

هي شريان أساسي يضخّ الدماء في نظام الكفالة العنصري. وهو توأمها الذي لا يريد أحد أن يراه ويعترف به. يغيّر الانهيار المالي تلك الحالة. لكنّ ذلك لا ينفي ما يقارب النصف قرن– منذ أواخر سبعينيّات القرن الماضي– من هجرة النساء العاملات إلى لبنان وقيامهنّ بالعناية بالأطفال والمسنّين بشكل رئيسي.

لا مكان لذلك المثلّث– مغتربون، مقيمون، عمّال مهاجرون– في «لبنانيّات» حبّ الوطن والحنين إليه. يطرح مثلّث الهجرة أسئلة صعبة على الأبناء المغتربين الذين يتّكلون على نظام الكفالة لتأمين العناية لأهاليهم ولمؤانستهم في وحدتهم. هل تكمن شروط حريّاتهم الشخصيّة وإنتاجيّتهم الاقتصاديّة وحتى تصدّيهم للعنصريّة في الغربة بإعادة انتاج نظام الكفالة في بلدهم؟ هل حريّتهم ورفاهيّتهم مرهونة بأسر واستغلال عاملات مهاجرات؟

تطفو تلك الأسئلة وغيرها عن علاقة المغادر ببلده، في الزيارات الدوريّة. ففي المغادرة تأرجح، وفي العودة كذلك. وذلك بالرغم من توهُّم العائد بأنّ لا شيء قد تغيّر، وأن العودة هي مجرّد تغلّب على الفقد وإطفاء لشوق القلوب. لكن العودة أعقد من ذلك. يحفر الزمن سككه في أرواح المهاجرين من وراء ظهورهم. فيتفاجأ العائد بتأرجح مشاعره بين الارتياح لدفء حضن العائلة والاختناق منه، والشوق إلى لبنان والإقرار الضمني بعدم القدرة على العيش فيه طويلاً. ينتبه لحظتها أنّه أصبح معلّقاً بين عالمين. فيتأرجح حسب وضعه النفسيّ، ما بين «أنا هون وهونيك» و«أنا لا هون ولا هونيك». أمّا الثابت الوحيد، فهو الزمن المتحرّك.


لا يكترث النظام لكلّ تلك الوجوديّات.

بالنسبة إليه، وللنخب الاقتصاديّة والفنيّة، اللبنانيّون في الخارج منجم ذهب. يشكّلون جسوراً لعلاقات خارجيّة ومصادر تمويل للأحزاب والمصارف. يجيّر الخارج بأكثر من طريقة للداخل، من جولات سمير جعجع الأوستراليّة إلى شبكات تمويل حزب الله العالميّة وعمليّاته. كما يشكّل سوقاً أوسع بكثير من تلك المحليّة والعربيّة لفنانين يصرّفون فيها بضاعة قديمة، جديدة، كاسدة؛ لا يهمّ. فالحنين ليس فقط شعوراً خاصّاً في المهاجر، بل سلعة يحملها بيّاعو الحنين المتجوّلون إلى سوق لا تكفّ عن التوسّع مع كلّ فصل إضافي من المتاهة المتجدّدة.

إلّا أن الانهيار الماليّ أدخل تغييراً بنيويّاً على علاقة الخارج بالداخل.

فالسطو على أموال المغتربين وتبخّر مدّخراتهم من البنوك حوّلهم بسرعة من ذهب النظام إلى ضحاياه الجدد. يتلقّون الضربة عن بعد. لا يتواجدون في مسرح الجريمة، لكنّهم في قلبها. يزيد البعد من وقع الضربة عليهم التي تبدو مجرّدة، سورياليّة مقارنة بحياتهم اليوميّة، البعيدة عن هشاشة العيش في لبنان. تكمن الضربة القاضية بالاعتراف بأن الخروج من البلد ليس مرادفاً للنجاة منه. لعنة النظام لا تقف عند أطراف مدرج المطار.

هل يحمل ذلك المغتربين المنقسمين تقليديّاً بين موالين لأحزاب السلطة وأفراد منشقيّن عنهم إلى تشكيل قوّة سياسيّة للضغط على النظام من خارجه؟ هل ينتج عن تدويل النظام لضحاياه تدويل موازٍ من قبلهم لتحصيل حقوقهم؟

«الانتشار اللبناني»، بأحد جوانبه، تدويل جوفيّ للمسألة اللبنانيّة يسعى النظام بكلّ مكوّناته إلى استغلالها لمصلحته. لا شيء يمنع قلب الطاولة عليه، خاصّة بعدما ربط الانهيارُ المالي الداخلَ بالخارج.


بحسب صفحتها على ويكيبيديا، توقّفت لارناكا روز عن الملاحة سنة 1997. وصلت في تلك السنة إلى مرفأ تركي بعد أن بيعت «للكسر» بعد ما يقارب خمسة وأربعين عاماً من الخدمة. صفحة ميشال عون على الموقع نفسه، تُعلِمنا أنّه ما زال الرئيس الثالث عشر للجمهوريّة اللبنانيّة. بما أن كتابة التاريخ عمليّة شاقّة عندنا، وكلّ المقولات التي يدخل فيها التاريخ– مزبلة التاريخ، التاريخ سينصفنا، إلخ– أصبحت أكثر من معلوكة، ربمّا باستطاعة أحدهم التبرّع بإضافة سطرين إلى صفحة ميشال عون على ويكيبيديا:

شهدت الجمهورية اللبنانيّة في عهديه– الأوّل العسكري الخلاصي والثاني المدني الأبوي– موجات هجرة أشبه بنزوح جماعيّ ساهمت آخرها في تداعي القطاعين الصحيّ والتعليمي بعد خروج عمّال وطلّاب، وأساتذة وأطبّاء وممرضات، إلى المتاهة المتجدّدة.

سلسلة

الهجرة الجديدة

يطرح هذا الملفّ جوانب مختلفة من موسم الهجرة الحالية، هجرة آتية بعد سنة من الثورة والانهيار والانفجار. ترسم مقالات المشاركين عالماً مسلوخاً بين الـ«هنا» والـ«هناك»، وهجرةً من دون عودة تؤمّن خلاصها.

تم نشر الملف في 13 آذار 2021.


المساحة بين هنا وهناك: عن الهجرة والذاكرة | فكرة
في المنفى ركاكة | نظرة
شجرة الثأر | نظرة
إلى أن ينبت العشب من تحت الزفت | نظرة
يوميّات مغترب جديد | يوميات
الهجرة هجرتَيْن | يوميات
الهجرة الجديدة، الهجرة الأخيرة | فكرة

آخر الأخبار

حدث اليوم - فلسطين  الجمعة 19 نيسان 2024
«لا مجاعة في غزّة»
جعجع: الأمن الذاتي بحجّة مكافحة النزوح السوري
اجتياح رفح 
الإفراج عن الأكاديمية نادرة شلهوب كيفوركيان
خوفاً من مذكّرة اعتقال دولية