نقد ثورة تشرين
هاشم عدنان

«بدنا نشتغل سياسة»

25 كانون الثاني 2021

«بدنا نشتغل سياسة»، ماذا خلف هذه العبارة وأي فكّر تستحضر؟

مقدّمة صغيرة، تحمّلونا

نعيش في لبنان في ظل نظام سياسي طائفي يدير اقتصاداً رأسمالياً ليبرالياً يقدّس الملكية الخاصة والربح والسرية المصرفية والاحتكارات وغيرها من أدوات الاستغلال والتحكّم ومراكمة رأس المال في أرصدة أقلية حاكمة ومتحكمة؛ متحالفة ومتنافسة. تأخذ ادارة هذه الأقلية لشؤون الدولة والحياة عدة اشكال أهمها ما يسمى بالديموقراطية التوافقية. تشرك السلطات السياسية المختلفة اصحاب رأس المال في عملية تقرير مصير الدولة والمجتمع والفئات المختلفة من الطبقة العاملة.

هي إذاً دولة البرجوازية اللبنانية المتحالفة مع أمراء الحروب الماضية والقائمة والقادمة. دولة مثّلت حتى الأمس القريب جنة ضريبية وجنة فوائد وجنة تبييض أموال. دولة تنظّم الإفلات من العقاب وتكافئ الشطارة والحربقة. دولة مأسورة في قمقم خرج مارده في 17 تشرين 2019 ولن يعود قبل تغيير شروط وجودها.

إذا ما أردنا رصد قوة تأثير هذه الطبقة الرأسمالية في لبنان, ليس علينا سوى مراقبة ربع ساعة من نشرة أخبار أي من محطات النظام حيث تصدح تصريحات حاكم مصرف لبنان وجمعية المصارف وغرفة التجارة والصناعة واصحاب الوكالات الحصرية وشركات استيراد المحروقات ورؤساء المحطات الاعلامية وفناني البلاط وغيرها من أعمدة وأدوات الاقتصاد والمجتمع اللبناني الرأسمالي المصنّع للّاعدالة... طبعاً الى جانب خطابات السياسيين المسيطرين على الحكم بقوة العقيدة الاستلابية وحقوق الطائفة والزبائنية والسلاح والتبعية للخارج.

كيف يمكننا أن نعرّف الاقتصاد اللبناني اذا ما قرّرنا تجاهل هذه الحقائق تفادياً للوقوع في فخ الماركسية؟

اللعب على حبال النظام لا يفيد

في معرض تأسيسها للمعارضة السياسية اليسارية بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، قام عدد من مجموعات اليسار الشبابي والطلابي في التأسيس لفهم محدد لماهية العمل السياسي في لبنان. جاء هذا التأسيس مجبولاً بالمساومات الفكرية والسياسية تحت ديباجات وعناوين كثيرة ابرزها بناء الجسور بين المكونات الطائفية المختلفة وخرق القواعد الاجتماعية لقوى النظام اللبناني المنتفضة على النظام السوري وحلفائه الداخليين، وتشكيل تحالف سياسي يدعم مسار التغيير. انه يسار وطني ديموقراطي موغل في الانتماء لأسطورة الواقع كما يقررها النظام. قام هذا اليسار بتغليب المعطى الطائفي على المعطى الطبقي وسار في قافلة 14 آذار التي وصلت إلى ما لم تصل اليه.

بالمقابل، جنح اليسار الممانع الى تهميش نفس المعطى الطبقي بحجة أولوية الصراع مع الاحتلال الاسرائيلي والمشروع الصهيوني. حتى اننا كنا نشعر ان خبزنا وخمرنا ورفاهنا قد تأمن اذا ما تظاهرنا في عوكر. ساهم هذا اليسار الممانع أيضاً بتخشيب أفكار مثل الثورة والتغيير والتحرير وتحويلها الى أيقونات مرتبطة ببطولات وملاحم غابرة وصراخ لا ينضب.

في المحصلة، صار اليسار اللبناني خارج اليسار وخارج الزمن وبقيت مجموعات صغيرة من اليسار الثوري تغرّد منفردة بخطاب سياسي طبقي راديكالي لا فضاء اجتماعياً لطروحاته ولا أذان مدربة على سماعه خارج دوائره الضيقة ضمن شبكات المجتمع المدني.

من ملأ هذا الفراغ؟ المجتمع المدني بمنظماته وجمعياته المبنية على اللاسياسة وعلى التخصص في العمل على قضايا محددة من خلال مناهج تقوم على فلسفة: الدولة لا تقوم بواجباتها نحن سنعمل مكانها.

الطائفية أصل البلى والحلا

بدأت ثورات عام 2011 وواكبها اليسار اللبناني وقوى علمانية قومية والمجتمع المدني وحولوها الى حملة لاسقاط النظام الطائفي وجميع رموزه من اجل تحقيق دولة مدنية علمانية، دولة العدالة الاجتماعية والمساواة. وبسبب غياب التحالف الطبقي العضوي، سقطت هذه الحملة امام اول اختبار سياسي قيمي، الثورة السورية.

رغم السقطة، انقسم هذا الحراك وتبدّل وتجدد مع حملات رفض التمديد لمجلس النواب وهيئة التنسيق النقابية وواكب الحراكات العمالية المطلبية في شركة الكهرباء والدفاع المدني وغيرها، وصولاً الى حراك طلعت ريحتكم في 2015.

في كل هذه المرحلة بقيت مسائل مثل الطائفية والزبائنية والفساد الحكومي ومن مداخلها المتعددة، مهيمنة على الخطاب والفعل السياسي المطلبي والاحتجاجي المرافق له. فنحن نريد الثورة كي نسقط أمراء الحرب ومجرميها الذين يحكمون البلاد وكي نسقط المحاصصة الطائفية بين السياسيين والطوائف وحيتان المال التابعين لـ«الطبقة السياسية» الذين يسرقون الشعب والدولة. أما مطالب الفئات المختلفة من الطبقة العاملة، فظلت مغيّبة حتى عند احزاب اليسار التقليدي الذي يدّعي تمثيل بعض هذه الفئات.

كان إسقاط الطائفية في خيال تلك الحركات كفيلاً باسقاط الجوع والفقر والاستغلال والبطالة والعنصرية وكل باقي النتائج الكارثية لنظام رأسمالي متوحّش تديره طبقة حاكمة اكتسبت مكانتها بالحروب والتبعية لمشاريع إقليمية.

17 تشرين مقدّمة جديدة

جائت انتفاضة 17 تشرين لتخلط كل الأوراق عند كل الأطراف المشكّلة للنظام والرافضة له والمعترضة عليه، على حد سواء. منذ انطلاقتها، شكّلت انتفاضة 17 تشرين حالة ثورية غير مسبوقة في تاريخ لبنان المعاصر. رغم هيمنة مطالب محاربة الفساد وإصلاح النظام واسترداد الأموال المنهوبة في الاعلام وفي الخطاب العام للمجموعات المنظّمة، الا ان صوت الناس في الشوارع كان واضحاً لناحية المطالبة بأبسط سبل الحياة الكريمة والعيش بكرامة واكتفاء ورفاه.

فكان خطاب الشارع خطاباً طبقياً جذرياً بينما ظلت المجموعات والتنظيمات السياسية في موقع إصلاحي أو ثوري إسقاطي.

الثورية الوحيدة التي طرحتها كل هذه المجموعات من أقصى يسارها الي أقصى ليبراليتها كانت ثورية خطابية تطرح التأميم او التنظيم او السحل او العنف الثوري او الحكومة البديلة او الاقتصاد التعاوني من باب الخطابة (رغم استثناءات محدودة لن اغوص في تعدادها) وظلت مسلوخة عن الأكثرية الساحقة من الطبقات العاملة التي تحرّكت وبادرت ولم تجد لها الا مكاناً ضيقاً في صفوف تنظيمات الانتفاضة ومشاريعها الافتراضية.

اللافت هذه المرة أن تنظيمات جديدة بدأت بالتشكّل، ذات سمات نقابية او قطاعية او محلية او مرتبطة بأهداف محددة، مثل المعركة مع المصارف ومواجهة التهريب المسيّس والمنظّم عبر الحدود مع سوريا وتحديد اسعار الاتصالات بالليرة اللبنانية وصولاً الى مجموعات مطاردة السياسيين. فرض هذا النوع الجديد من المجموعات إيقاعاً وديناميكية جديدة، مرتبطة بعمق أزمة الناس مع النظام الرأسمالي بشكله اللبناني، على اليسار بكل تشكيلاته. لا الدولة فعّالة، ولا التنظيمات الطائفية قادرة على استيعاب حجم الكارثة، ولا البرجوازية الوطنية والمحلية تمتلك زمام المبادرة، ولا القوى العسكرية- النظامية منها وغير النظامية- قادرة على حسم اي شيء. انه المأزق الذي لا يريد احد ان ينهيه. مأزق تستخدمه القوى السياسية المشكلة للنظام كفرصة لإعادة فرض سيطرتها المناطقية.

في ظل هذه الصورة المشرقة، هل هناك مكان للسياسة خارج الصراع الطبقي الدائر في المجتمع اليوم؟ هل هذا المكان، اذا وجد، يستحق كل هذا العناء؟ هل نريد ان نبني عملنا السياسي على نقد مسائل ثانوية مثل الزبائنية والزعامات ام اننا نريد ان نبني قوة اجتماعية طبقية قادرة على حسم الصراع لصالح الناس؟ هل يريد اليسار مرة أخرى ان يدير ظهره لجماهير المعطلين عن العمل والعاملين في شروط الاستغلال والقهر وينعزل في فقاعات ثورية افتراضية او حركات سياسية اصلاحية؟

ما العمل عظيم، بس كيف العمل؟

سمات العمل السياسي المعاصر ليست كما سابقاتها في التسعينات وما لحقها في العقد الأول من القرن الجديد.

المهمة ليست إحراج القوى الحاكمة من خلال فضائح ومواقف بطولية. المهمة ليست تدوير الزوايا واللعب على حبال نصبها النظام. المهمة ليست إعادة الاعتبار للطبقة الوسطى وتنظيماتها. المهمة ليست تجميع من يشبهنا من المعترضين في مجموعات نقية. المهمة ليست ابتداع سبل مواجهة خلّاقة.

المهمة الوحيدة هي تشكيل قوة سياسية اجتماعية قادرة على تحقيق المكتسبات وتثبيتها.

لن يحدث ذلك من خلال تنظيم مجموعة «خلّاقة ومبدعة» من الأفراد الساعين لتدمير صورة النظام. لن يحدث ذلك من خلال تنظيم مجموعات اعتراض واحتجاج وحملات انتخابية. لن يحدث ذلك من خلال تجاهل مهام التنظيم النقابي القطاعي والسكاني المحلي.

سوف يحدث فقط اذا قمنا باختيار أمكنتنا كأفراد داخل تنظيمات لامركزية قطاعية و/أو سكنية تعتمد الديموقراطية المباشرة وسيلة لأخذ القرارات، ولا تقف عند اي حدود وطنية او عنصرية أخرى، تتمثّل في تحالف طبقي واسع يكون هو التنظيم السياسي الثوري المقاوم لسياسات الطبقة الحاكمة وبطشها.

فهل نريد أن نساهم جميعاً في هذا المسار أم أننا نفضّل أن نمارس هواياتنا التنظيمية الآمنة في مجموعات صغيرة طاهرة؟

آخر الأخبار

«لا مجاعة في غزّة»
جعجع: الأمن الذاتي بحجّة مكافحة النزوح السوري
اجتياح رفح 
الإفراج عن الأكاديمية نادرة شلهوب كيفوركيان
خوفاً من مذكّرة اعتقال دولية
هكذا يعذّب الاحتلال الدكتور إياد شقّورة