نقد كورونا
غالية السعداوي

ليس فيروسًا، بل هي الرأسمالية

22 كانون الثاني 2021

تُشكّل إجراءات الحجر المُشدّد- والمراقب أمنيًا- التي تفرضها الدولة محاربة للمجتمع لا للفيروس، في ظل غياب أي نوع من الموازنات المالية أو المساعدات الحكومية أو خطط التعويض للموظفين أو إجراءات تنظيم إجازات العاملين. لسنا وحدنا هنا، إذ لم تسلم البلدان التي تملك خططًا وإجراءات واضحة، لأن إجراءاتها تلك، تخون المسبب الأول لانهيار الصحة العامة: الرأسمالية.

فصرفت مثلًا السلطات البريطانية 46 مليار جنيه استرليني على تدابير إدارة الأزمة، وأجبرت القطاع الخاص على المشاركة في النفقات، فيما زادت ألمانيا 9 مليارات يورو على ميزانيات تعويضات العمل وحدها. مع ذلك، لم تنجح هذه التدابير في إحداث أي تغيير بنيوي. وجاءت لتخفف وطأة السياسات الإقتصادية النيوليبرالية التي استمرت لعقود، لا لتحدّ من وطأة الوباء. فقتلت الدول عبر هذه السياسات الإقتصادية قطاعاتها العامة، وها هي الآن تحاول عبثًا، أن تُرقّع ما بقي منها. يؤسس هذا التناقض الجوهري- المتمثل في إنفاق هذه الدول للمليارات على تدابير الوقاية والعمل، ودعواتها نحو دخل أساسي شامل، وتعليقها لعمليات إخلاء المستأجرين ودفع الإيجارات، وفي ذلك ما يشبه الأطر الإشتراكية للمفارقة- لتبني السياسات المحافظة، مثل إجراءات الطرد المجحف، وتدابير التقشف الجائرة والدعوة إلى الخصخصة. وإن لم يكفِ ذلك، فإنّ بريطانيا أهدرت المليارات من أموال الضرائب على معدات الوقاية الشخصية الفاشلة ومشاريع تتبّع وتعقّب مُنحت امتيازاتها لمقربين من الحكومة منذ بداية الأزمة. ووصف أحد صحافيي الغارديان ذلك بـ «رأسمالية أمراء الحرب».

يخفف الحجر والإقفال الضغط على القطاع الصحي بدون أدنى شك. إلا أن الإجبار على الإختيار بين «الاقتصاد» وبين «الصحة العامة» أمر خطير وخيار خاطئ بحد ذاته. وفي ظل تكتيكات الطرد التعسفي، وغياب التعويضات المالية التي تخفف من حدة الأزمة على المواطنين، وغياب أي معارضة راديكلية وأي تخطيط سياسي استشرافي، يتجه مجتمعنا إلى الحضيض. إلا أننا لا نزال، رغم ذلك كله، نتأمل الكثير من دولة نحاول الإطاحة بها.

رشّ أحدهم، على جدار في شوارع بيروت، جملة كانت قد انتشرت في شوارع تشيلي الغاضبة أيضًا. تقول الجملة «no era depresion era capitalismo» : ليس انهيارًا، بل هي الرأسمالية. (أشك في أن يتفق طوني سلامة، أو أصحاب العقارات من أغنياء سوليدير الذين شوهدوا في شوارع الثورة، مع هذه المقولة، لكونهم نزلوا إلى الشوارع لأسباب مختلفة على ما أعتقد.)

لم يتسبب الفيروس بالانهيار الصحي والسياسي الذي نعيشه اليوم، ولم يتسبب به أيضًا فتح أسواق الخضار والدكاكين خفاءً رغم الإقفال. توبخنا محطات التلفزة يوميًا، وتخلط بين سبب الإنهيار ونتائجه، لائمة إيانا، أو الفيروس نفسه، على المضاعفات الصحية (والاقتصادية) التي نشهدها. وهي تقوم عمدًا، بالتعتيم على الأسباب الحقيقية:

أولها، عدم جهوزية القطاع الصحي لما أتى وما سيأتي (ومن أين لدولتنا أن تؤمن أموال (ضرائب) كافية لهذا القطاع، لتجهيز أعداد كافية من الأسرة وماكينات الأكسجين، والممرضين والممرضات؟). أما ثانيها، فهو الدولة المستبدة المفلسة- ولا أغمز من قناة حزب معين، حين أقول مستبدة، بل أقول ذلك بروحية «كلن يعني كلن»- الدولة التي لم تؤسس لأي نظام صحي عام فعال في مرحلة ما بعد الحرب، ولم تحرص في أي وقت، على تسخير بنيتها التحتية إقتصادية للمصلحة العامة.

تبرز في ظل كل ذلك، طبقة من المستفيدين، لا يعير أفرادها أي اهتمام لكل ما حل بالقطاع العام، وبالبلاد التي يلوحون بعلمها، طالما يظل كل ما هو خاص- من صحة وتعليم وشواطئ- محميًا. يخشى هؤلاء، تسمية الأشياء بأسمائها.

لا يتعلق الأمر فقط بالحكومة المؤقتة الحالية أوغيرها من الحكومات المتعاقبة التي نعلم أنها ستكون أسوأ، بل برأسمالية أمراء الحرب. ولا يتعلق بوزراء ورؤساء حكومات مزابل التاريخ ومدرائهم العامين وأجهزة أمنهم وأحزابهم السياسية فقط، بل بحلفائهم في القطاع الخاص، وجيوشهم المجيشة من الـ CEO's والبنوك ورؤساء المنظمات غير الحكومية والإداريين. يطلق البعض على هؤلاء اسم «الأوليغارشية»، ويفضل البعض أن ينعتهم بصفة الفساد التي تنقل المسؤولية إلى الأفراد والجماعات، دون ذكر الهياكل البنيوية، وتوحي بأننا سنعيش في رغد إذا نجحنا في التخلص من «الفاسدين». وفي هذا التفريد، وفي هذه الاستثناءات، غموض يشوب نية الإصلاح. يتعلق الأمر إذًا، بهذه الحلقة التي تربط الدولة، وقطاعها الخاص، بالمجمع الصناعي غير الحكومي.

فلنتفق، أن نسمي ذلك برأسمالية أمراء الحرب، أو الرأسمالية الإنسانية، أو الرأسمالية النيوليبرالية، أو رأسمالية الأيًا يكن.

منح البنك الدولي لبنان مؤخرًا، 246 مليون دولار أمريكي كدعم طارئ للتخفيف من حدة الأزمة وتداعيات كوفيد 19، أي ما يعادل 100.000 ليرة للبيت الواحد تقريبًا، بعدما حولت الدولة المبلغ إلى الليرة على تسعيرة 6240 ليرة للدولار، وسرقت الفارق. يكمن عنصر اللامفاجئة هنا، بأن مؤسسة بحجم البنك الدولي- وهي مؤسسة لا تخلو من الالتباس- لا تزال تتواطأ مع الدولة وقطاعها الخاص في هذه الحلقة، عبر إئتمان الدولة على أموال جديدة. وبدل من أن تلغي الدولة ديونها، أو أن ترد أموالنا المنهوبة، أو أن تُحقق العدل، ها هي الآن تتصدق علينا وبسعر صرف خاطئ.

لن يمسي هذا النظام، وكل المنتفعين منه إلا على الجانب الخاطئ من التاريخ، هذا التاريخ الذي يحاولون- بكل قوتهم- أن يغالطوه، ولا يسمّونه بإسمه.

 
ترجمة: حسين ناصر الدين

آخر الأخبار

حدث اليوم - فلسطين  الجمعة 19 نيسان 2024
«لا مجاعة في غزّة»
جعجع: الأمن الذاتي بحجّة مكافحة النزوح السوري
اجتياح رفح 
الإفراج عن الأكاديمية نادرة شلهوب كيفوركيان
خوفاً من مذكّرة اعتقال دولية