تحتلّ «نظرية العار» لعالم النفس سيلفان تومكينز ركناً أساسياً في مجالات معرفية عديدة، منها النقد العرقي والنسوي والكويري. تقدّم زينة الحلبي نص تومكينز التأسيسي عن العار، طارحةً أسئلةً حول راهنيّته وإشكالية تعريبه، كما تُترجم مقتطفات منه في ترجمة عربية أولى.
نواجه العار يومياً، ونتخبّط به في لحظات شديدة الحميمية، ولكن أيضاً في الحروب والانهيارات الجماعية الكبرى؛ نعاني من أثره إذا ما مررنا به ولكنا نعود ونستخدمه سلاحاً سياسياً. وفيما نحن نداري عارنا الفردي وننكر عارنا الجماعي، يقوم آخرون بالمجاهرة بعارهم. نعرف العار جيداً ولكن يصعب علينا إدراك منبعه وأثره العاطفي.
بالرغم من صعوبة توصيفه، يحضر مفهوم «العار» بشكلٍ بارز في اللغة. «العار» باستخدامه الاجتماعي هو، مثلاً، شعور الذلّ التي تتعرّض له المجموعات عندما يقوم أفراد منها بتحدّي قيمها وأعرافها. وبالمعنى السياسي، العار هو ما يرتبط في المخيال الجماعي بالهزائم. ولكن يبقى «العار»، في مستواه الفصيح غير قادر على احتواء المعاني النفسية للحالة الشعورية الجسمانية التي تنتاب الأفراد والجماعات لدى تعرّضهم لعين الآخر الرافضة.
ولكن يبقى «العار»، في مستواه الفصيح غير قادر على احتواء المعاني النفسية للحالة الشعورية الجسمانية التي تنتاب الأفراد والجماعات لدى تعرّضهم لعين الآخر الرافضة.ولكن للمحكيات قدرة على إعطاء ثقل للتجربة النفسية للعار، من خلال غوصها في مفهوم الحياء كما في قولنا استحى من (الخجل من نظرة الغريب)، واستحى بـ (الخجل من شيء أو شخص متصل بالذات جراء نظرة الغريب)، واستحى عن (الخجل نيابة عن الآخر)، أو عندما نأمر بالحياء بقولنا استحِ! لتأديب مَن لا يلتزم بالأعراف، أو عندما نُعِدّ بلا حياء مَن جاهر بعاره. المحكيّات أيضاً غنيّة بعبارات عن ارتباط العار بالوجه (سواد الوجه، بيّضلي وجهي، وين بدّي خبّي وجهي؟) أو أخرى متعلّقة بالعين (عين وقحة، عينه بعيني، ما إلي عين). فنقول الوجه المكشوف والعين الوقحة، أي الرأس غير المطأطأ والنظرة غير المشاحة تعبيراً عن ذات تدرك تماماً بأن الآخر يحتقرها، لكنّها ترفض أن تنصاع إلى نظرته. الوجود الكثيف للعار في الممارسات الفردية والجماعية جعل منه مصطلحاً نظرياً خصباً.
سيلفان تومكينز، منظّر العار
تحتلّ نظرية العار ركناً أساسياً في نظرية الانفعال التي تبنّتها مجالات معرفية عديدة، لا سيما النظريات النقدية. أهتمّت منظّرات في الدراسات النسوية والكويرية مثل سارة أحمد ولورين برلانت وإيف سيدجويك وإليزابيث بوفينيلي وغيرهنّ في مجالات دراسات ما بعد الاستعمار والدراسات العرقية بتشكّل الذات الفردية والجماعية على إيقاع موقع الذات من الآخر ونظرة الآخر لها، فرأينَ في العار أساساً لفهم تشكّل الذات لدى تعرّض رغباتها للمنع.
قدّم إيف سيدجويك وآدم فرانك إلى مجالي الدراسات الجندرية والكويرية كتاب Shame and Its Sisters: A Silvan Tomkins Reader (العار وأخواته: مختارات من سيلفان تومكينز، 1995). في الكتاب، مختارات من Affect, Imagery, Consciousness (الانفعال، التصور، الإدراك، 1962) لعالم النفس الأميركي سيلفان تومكينز (1911-1991) الذي أسّس مجال نظرية الانفعال (affect theory) وكتب مطوّلاً عن العار. يشير إيف سيدجويك وآدم فرانك إلى قدرة تومكينز على الإضاءة على قضايا مركزية في الدراسات الكويرية وغيرها من الدراسات النقدية:
نعتبر تومكينز، كما نعتبر فرويد، شخصية أخذت أعمالها مسالك تأويلية شديدة الاختلاف والتنافس، وشديدة التصارع أحياناً، مسالك تتطلّب الإضاءة عليها. كان تاريخ القراءات المتعدّدة لفرويد بمثابة مغامرة فكرية للقرن العشرين. نقدّم هذا العمل الذي نراه حيوياً ومثمراً، متطلعين إلى أثره على القراء المتمرّسين بذلك التاريخ.
يعرّف سيدجويك وفرانك عن إسهامات تومكينز كحقل معرفي جديد يبني على ما قدّمه فرويد أو يجيب على أسئلة قد لا تزال معلّقة.
اتّخذ سيلفان تومكينز طريقاً غير اعتياديّ في علم النفس. بدأ مسيرته الأكاديمية بدراسة المسرح، ممّا قد يفسّر حساسيته تجاه القضايا المتعلقة بالأداء ودينامية المؤدّي والمتفرّج. أكمل دراسته في علم النفس في جامعة بنسلفانيا ليكتشف حدود المدارس النظرية التي يقتصر مجالها على مقاربات فيزيائية. أكمل تومكينز رسالة الدكتوراه ليس بعلم النفس، بل بالفلسفة، تحديداً في الأخلاق، وانصبّ اهتمامه على «نظرية القيمة»، أي دراسة المعايير التي يلجأ إليها الأفراد والتي تملي اختياراتهم تجاه الآخرين أو الأشياء.
وضع تومكينز في «الانفعال، التصوّر، الإدراك» أساس نظريته للشخصية الإنسانية. يطرح تومكينز في هذا الكتاب المؤسّس ذي الأجزاء الأربعة أسئلة حول الأسباب العاطفية والأشكال البيولوجية لتصرّف البشر والبعد الإدراكي لهذا التصرف وتأثيره على تشكّل الشخصيات المنفردة. يقدّم فيه مفهوم الـ affect، أي الانفعال الذي يصفه بـ«المكوّن البيولوجي للشعور»، أي الآلية الشعورية العصبية الموجودة داخل كل فرد، والتي يتحكّم فيها الطبع والتطبّع معاً.
عام 1955، وحين كان تومكينز يراقب طفلاً في سياق دراساته في علم النفس، التقط التعابير الأولى للعار في شهر الطفل السابع، أي قبل أن يكتسب الطفل إدراكاً بما هو ممنوع. استنتج تومكينز على أثر هذه الملاحظة أنّ ما يفعّل العار ليس ما هو ممنوع على الطفل، بل النظرة التي تُشعره بأنه غريب، أي خارج اهتمام الآخر. يشير تومكينز إلى أن طأطأة الرأس عند الطفل تعكس جرحاً نرجسياً يسبق الجروح النرجسية اللاحقة، الأوديبية وغيرها.
ضمّ تومكينز العار إلى مجموعة الانفعالات الأخرى كالاهتمام، والمفاجأة، والفرح، والغضب، والخوف، والاضطراب، والاحتقار (Contempt)، بما هي ترجمات بيولوجية-جسمانية لحالات نفسية تتخذ الوجه مسرحاً لها. وميّز تومكينز العار عن الانفعالات الأخرى، نظراً لقدرة العار على تفعيل رغبة الفرد أو الحدّ منها كلياً. أكثر من ذلك، رأى تومكينز في العار قدرة على كبح كل الانفعالات الأخرى (العار من أنك ما زلت تخافين من صوت الرصاص، أو العار من أنك أبديت فرحاً أكثر مما يجب، أو العار من أنك أبديت غضباً لا يليق بأنوثتك الخ.). وقد ينقلب العار على نفسه عندما يشعر الفرد بالعار من عاره (العار من أن تكوني ما زلت تشعرين بالعار من جنوستك وخياراتك الجنسية، مثلاً، أنتِ الناشطة النسوية). فتجربة العار بما هي مقاومة للرغبات وكبح جزئي لها، وإدراك لأهمية نظرة الآخر على الذات والانحسار الذي يتلو تلك النظرة، تعاش عذاباً داخلياً، مرضاً في الروح، كما يقول تومكينز.
العار يكشف الذات ويضيء على الرغبة، وبالتالي يحدّد الأعراف الاجتماعية والسياسية. فمصدر العار، هو أيضاً حدود الرغبة.
يعرف الإنسان العار منذ الصغر. يعرفه منذ أن أشاح والداه بنظرهما عنه، ففهم أنّ له ذاتاً وأنها منفصلة عنهما. فالعار، كما سنعرف لاحقاً، هو نظرة شاجبة من الآخر تتحوّل جرحاً داخلياً، يسلخ الفردَ عن ذاته كما يسلخه عن الآخرين. فعلى إيقاع العار، تتجلّى الذات، تتكشّف، وتنكشف أمام عين الآخر الشاجبة، فتعي بذاتها وتنحسر. العار يكشف الذات ويضيء على الرغبة، وبالتالي يحدّد الأعراف الاجتماعية والسياسية. فمصدر العار، هو أيضاً حدود الرغبة. هي حدود يعرفها الفرد جيداً ولكنه يحاول التفاوض عليها كي يوازن بين مستحيلَيْن: الذات التي ترغب من جهة، والقبول الذي يطلبه الفرد من الآخر، من جهة أخرى. إن لعبة المدّ والجزر بين حالتي إشباع الرغبة الذاتية والتوق إلى أن يلقى الفرد القبول من الآخر، بشكليه الفردي والجماعي، هو في صلب الشرط الإنساني. تلك هي الأسئلة والرؤية التي وضعها تومكينز في أطروحته عن العار، والتي لا تزال راهنة حتى اليوم.
تومكينز و راهنيّة العار
ما يلفتنا اليوم في نص تومكينز الذي نشر قبل أكثر من ستة عقود هي الإمكانات النقدية لمفهوم العار وليونته. فالبرغم من دقّة لغة تومكينز التي تريد أن تكون علمية، وخالية من أحكام أخلاقية، فإنّها تستوقف القرّاء بانسيابيّتها وانفتاحها لأدقّ المشاعر وأكثرها اعتيادية. قد تفيدنا نصوص تومكينز في فهم ممارسات ومظاهر ثقافية مثقلة بالعار نشتبك معها يومياً، نختبر تبعاتها علينا وعلى الآخرين، نستخدمها سلاحاً سياسياً ونعود ونبحث في ضررها علينا. في معرض كلامه عن العار، يعرّج تومكينز نحو التعيير أو الـ shaming، كأداة في الممارسة السياسية.
بتنا نعرف أن العار، أكثر من أي انفعال آخر، يضرب في عمق الذات لأنه يهددّها بمكمن رغبتها البدائية، رغبتها في أن يتحقّق انتماؤها إلى جماعة تنظر إليها بعين راضية فتعطيها معنى.
بتنا نعرف أن العار، أكثر من أي انفعال آخر، يضرب في عمق الذات لأنه يهددّها بمكمن رغبتها البدائية، رغبتها في أن يتحقّق انتماؤها إلى جماعة تنظر إليها بعين راضية فتعطيها معنى.وربما بسبب إدراك أثر العار على الذات، كان التعيير أداة سياسية حادّة تُستخدَم في حال شطّ فردٌ ما عن الجماعة التي تعطيه معنى وشرعية. يعتمد التعيير في هذه الحالة على الإشارة إلى مكمن العار في الآخر القريب منا، الآخر الذي خرج عن أقانيم العمل السياسي الذي نتّبعه أو المبادئ الأخلاقية التي نؤمن بها. نعيّر، فنهدّد الآخر بمخاوفه البدائية، نهدّد كي نؤدّب، آملين أن يستقيم الآخر فيعود إلى السرب مطأطأ الرأس وملتزماً بالأعراف التي يدّعي الإيمان بها. فالتعيير أكثر قدرةً على الأذية والتأديب كلما كان الفرد الذي يتعرّض للتعيير شديد الصلة بالجماعة التي تعيّره. نعرف تماماً الأذى الذي نمارسه في التعيير، وربما لذلك، نلجأ إليه. نفهم العار جيداً ونستخدمه آلة، ولكن أحياناً نستدخله في وعينا نيابةً عن الآخرين.
يتحدّث تومكينز عن مفهوم «العار بالوكالة»، أي العار الذي نشعر به، ليس استجابةً لنظرة الاحتقار التي يبديها الآخر، ذلك الآخر الذي نوليه اهتماماً، بل نيابةً عنه أو كما يقال في المحكية عندما «نستحي عنه». للعار بالوكالة شرطان: أن يكون الآخر أمام موقف غالباً ما يفعِّل العار في الذات- نظرة محتقِرة، فشل تامّ، إنتهاك أخلاقي- والشرط الثاني والأهمّ أن نكون متعاطفين مع الآخر من الأصل. وللعار بالوكالة تبعات على قضايا أوسع من الأطر الشخصية، كالاستحياء بجماعة قد تكون مهنية أو طبقية أو جندرية أو عرقية أو قومية متماهين معها فنشعر بالعار حين يُنظر إليها باحتقار واستهجان.
يأخذ تومكينز مفهوم العار بالوكالة إلى درجة أبعد، فيتحدّث عن حالات يتضاعف فيها الشعور بالعار إذا ما كان الآخر غير مدرك تماماً لعاره. فكّروا في كل المرات التي شاهدتم فيها أصدقاء أو حلفاء يفشلون مثلاً في مواقف أدائية (مقابلة، مسرحية، نكتة) يتفاخرون بنجاحهم دون أن يدركوا وقع الأداء عليكم. ألم تستحوا عنهم؟ ألم تشعروا بـ«الكرينج»، التعبير المنتشر الذي يعبّر تحديداً عن الاستحياء بالآخر المحسوب علينا وغير المدرك لعاره؟ ولكن هناك أيضاً مَن يعرفون عارهم جيداً ويضعونه أمامكم مجاهرين به. كيف يقرأ تومكينز أولئك؟
يساعدنا تومكينز على فهم الذين يجاهرون بعارهم، أولئك «الشايملس»، الذين يستعرضون هوياتهم الجنسية والعرقية والطبقية وغيرها من الهويات التي يُنظر إليها كعورات أمام الملأ. هم أفراد وجماعات تشرّبوا العار فأصبح مكوناً أساسياً في وعيهم لذاتهم، ولكنهم عادوا ولفظوه في وجه من يعيّرهم، أي وضعوا عارهم مجدداً أمام عين الآخر، ولكن هذه المرة بوعي ذاتي مختلف عن تجربتهم السابقة. في هذه الحالة، يعود إلينا الحقل المعجمي المتعلق بالعين والوجه «حيث تضيء الذات وتحترق»، كما يقول تومكينز.
يشير تومكينز إلى كيف «يواجَه العارُ بالعارِ» في بعض الممارسات السياسية. نجاهر بعارنا عندما نستعرضه، عندما نعلن أننا نعرف أننا أصبحنا مدركين بأننا لطالما كنا تحت قبضة من يعيّرنا. ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن المجاهرة بالعار تحرّرنا من وطأته. فالوجه المكشوف، أو الشايملس، ليس نقيض العار، بل تجلٍّ آخر له. في معرض كلامها عن الأدائية الكويرية، تتحدّث إيف سيدجويك عن «الوجه المكشوف» كما رآه تومكينز، تحديداً عن أولئك الذين يستعرضون عارهم في أشكاله الجنسية والعرقية والجندرية، فتشير إلى كيف أنّ شدّة الأداء وحّدته مرادفتان لعمق العار وعذاباته.
ترجمة العار
يطرح مصطلح shame عدة أسئلة لدى ترجمته إلى العربية. يوازي «العار» مصطلح shame-humiliation الذي وضعه تومكينز وذلك لتضمّنه بعداً اجتماعياً، أي شرط وجود عين جماعية تراقب وتحكم وتؤدّب كي تتشكّل الحالة الشعورية. وإن كان البعد الاجتماعي حاضراً بالفعل في رؤية تومكينز، إلا أنّ الأبعاد النفسية الحميمية في تشكّل هذا الانفعال، والتي هي أساسية في رؤية تومكينز، غائبة عن مفهوم العار بالعربية. ولكنّ المحكيات تملأ الفراغ الاصطلاحي هذا، كما رأينا سابقاً، عبر تقديمها عبارات عن الاستحياء تجمع بين الشقين الفردي والجماعي لهذه التجربة.
ولعلّ التعقيد الثاني المتعلّق بالترجمة، هو إيجاد مصطلحات في العربية رديفة لتلك المستخدمة في نظريات التحليل النفسي، والتي تتكرّر في كتابات تومكينز. أجمع المترجمون على اصطلاحات قد تبدو أحياناً شديدة الخصوصية لترجمة مفاهيم مستقاة من علم النفس التحليلي: «الموضوع» (object) هو مكمن الرغبة بالمعنى الفرويدي، و«المصلحة الذاتية» (interest) تعني الدافع الواعي أو غير الواعي لتحقيق الاحتياجات أو الرغبات؛ يدلّ «التناقض الوجداني» (ambivalence) إلى وجود اتجاهين من المشاعر
المتناقضة نحو الشيء ذاته في الوقت ذاته، مثل الحب والكراهية لغرض واحد؛ و«الاغتراب» (alienation) إلى انفصال الفرد عن ذاته؛ والانفعال (affect) التعبير الشعوري الذي يتجلّى، عادة على الوجه، والذي يصنّف «انفعالاً إيجابياً» (positive affect) إن دلّ على مشاعر مثل الفرح، و«انفعالاً سلبياً» (negative affect)، إن دلّ على الغضب والخوف والاضطراب، مثلاً.
يقدّم تومكينز منهجيّةً لمقاربة تجربة إنسانية نعيشها أفراداً وجماعات. نترجم مختارات من كتاب تومكينز Affect, Imagery, Consciousness إلى العربية، لعلّه يضيء على تلك الأسئلة فيقدّم لنا أبجدية تحليلية تساعدنا على قراءة الذات والزمن التي تتشكّل فيه.
العار: مرض الروح
سيلفان تومكينز
إذا كان الاضطراب هو الانفعال الذي يولد من المعاناة، فإنّ العار هو الانفعال الذي يولد من المذلّة والانكسار والانتهاك والاغتراب.
إذا كان الاضطراب هو الانفعال الذي يولد من المعاناة، فإنّ العار هو الانفعال الذي يولد من المذلّة والانكسار والانتهاك والاغتراب.صحيح أنّ الخوف يطرح مسألة الحياة والموت، والاضطراب يُبرز الجانب المأسوي من الحياة، إلا أنّ العار يضرب في عمق قلب الإنسان. صحيح أيضاً أنّ الخوف والاضطراب قاسيان، إلا أنهما جرحان خارجيان بالكاد يخترقان سطح الأنا الرقيق، على عكس تجربة العار التي تعاش عذاباً داخلياً، مرضاً في الروح. لا يهمّ إن كان الذليل قد أهانته ضحكة ساخرة، أو إن كان هو من أهان نفسه، ففي الحالتين سيشعر بأنه عارٍ، منكسر، منسلخ، ناقصٌ كرامةً وقيمةً.
العار هو ردّة فعل تحدّ من التواصل عبر الوجه. عندما تُخفض العينان، والجفنان، والرأس، وأحياناً الجزء الأعلى من الجسد، يعلّق الفرد النظر إلى الآخر، تحديداً، إلى وجه الآخر. كما وأنه يعلّق النظر إلى الآخر فيما الآخر ينظر إليه، تحديداً إلى وجهه. يتعلّم الطفل باكراً أن يخبّئ وجهه بيديه عندما يشعر بالخجل أمام شخص غريب. عند مواجهة الذات، يُطأطَأ الرأس من العار بحركة رمزية، وذلك كي لا يرى أحدُ جوانب الذات جانباً آخر منها وينسلخ عنه.
نميل إلى الافتراض أنّ العار هو انفعال غريزيّ مساعد، يحدّ من استمرار المصلحة والاستمتاع. كما القرف، يعمل عادة فقط بعد أن يتمّ تفعيل المصلحة والاستمتاع ويقوم بكبت أي منهما أو الاثنين معاً. يحدّ المفعّل الغريزي للعار المصلحة أو المتعة جزئياً. ذلك يعني أنّ أيّ حاجز أمام المزيد من الاستكشاف الذي يحدّ، ولو جزئياً، من المصلحة أو ابتسامة الاستمتاع، سيدفع إلى طأطأة الرأس والعينين عاراً، ويحدّ من الاستكشاف أو كشف الذات اللذَين ينتجان عن الإثارة أو المتعة. قد يكون مسبّب هذا الحاجز نظرة غريب، أو رغبة النظر إلى غريبٍ، أو رغبة التوحّد معه، دون التمكّن من ذلك بسبب غرابته. قد يسبّب هذا الحاجز أيضاً التوقّع بأن يكون الآخر مألوفاً. فقد يشعر الفرد بالعار أيضاً عندما يبدأ بالابتسام ثم يتدارك أنه كان يبتسم لغريب.
العار شرطاً إنسانياً
سبق وقلنا إن أي نظرية فلسفية أو نفسية لا تواجه إشكالية المعاناة الإنسانية ناقصة بشكل فادح. ولكن ليس هناك أهمّ من الكرامة في ما يطلبه المرء لنفسه أو لغيره. يصرّ الإنسان على المشي مستقيماً، أكثر من الحيوانات الأخرى. عندما يخفض نظره، ويحني رأسه، يخسر دفاعاته بشكل استثنائي. وإن كانت تجربة العار ليست حادّة كتجربة الخوف، إلا أنها تُبقي الإنسان متيقظاً من أي أذى قد يلحق بكرامته.
لطالما عرّض الإنسان نفسه للموت والخوف واستغنى عن حياته دفاعاً عن كرامته، وذلك كي لا يطأطئ رأسه ويركع. واجه الإنسان تسلّط الخوف ورفضه باسم الكرامة. كثيرون واجهوا الموت والخوف طوال حياتهم كي لا تُنتهك كرامتهم وانسانيتهم. من الأجدى المخاطرة بمغبّة الموت والخوف بدلاً من تكبّد العار الشامل والمحتّم الناتج عن الجبن.
لماذا العار والكرامة هما حافزان أساسيان؟ كيف يمكن لخسارة ماء الوجه أن تكون أكثر إيلاماً من خسارة الحياة؟
كيف يمكن لخسارة ماء الوجه أن تكون أكثر إيلاماً من خسارة الحياة؟كيف يمكن لطأطأة الرأس عاراً أن تذلّ الروح بهذا الشكل؟ على عكس جميع الانفعالات الأخرى، العار هو تجربة الذات بذاتها. في لحظة شعور الذات بالعار، تعيش الذات العار كمرض يصيبها. لماذا العار هو على هذا القدر من القرب من تجربة الذات لنفسها؟ لأن الذات تسكن الوجه، وخاصة العينين، حيث تُضيء وتحترق. يسترعي العار انتباه الذات والآخرين من أشياء مختلفة إلى المكمن الأكثر وضوحاً للذات. يسلّط العار الضوء على الذات، فيولّد عذابات الوعي الذاتي.
وبما أن العار هو بشكل أساسي ردة فعل قائمة على الحدّ من التعبير من خلال الوجه، فإنّ وعي الذات بالوجه لا ينفصل عن تجربة العار. احمرار الوجه عاراً هو نتيجةٌ لحدة الوعي بالوجه، وسبب لها أيضاً. كما أشرنا سابقاً، قد يحمرّ أي عضو من جسد الفرد إن تعرّض لنظرة الآخر. ولكنّ الوجه هو مكمن الاحمرار الأساسي لأنه أكثر الأعضاء قدرة على التواصل الكلامي والانفعالي معاً. تعيش الذات حيث تتكشّف وحيث يتكشّف الآخرون أمامها. فبثّ المعلومات، كما التقاطها، يحدث على مستوى الوجه. الفم يتكلّم، العين تلحظ، لكنّ حركة عضلات الوجه هي التي تعكس بدقة الانفعالات التي يختبرها الفرد وتلك التي ينقلها إلى الآخرين.
عين الآخر والوعي الذاتي
العار هو تعليق للتواصل وحاجز أمامه، وهو، بحدّ ذاته، معلومة يتمّ إيصالها. عندما يطأطئ الفرد رأسه أو يغمض جفنيه أو يشيح بنظره، يُعلم الآخر عن عاره، مما يجعل الوجه والذات أكثر وضوحاً للذات وللآخرين، دونما قصد أو إرادة. قد يؤدّي أي فعل يحدّ من التواصل عبر الوجه إلى لجم الذات لحدّ ما، خصوصاً عندما يحمرّ الوجه، فيتضاعف العار. ويحدث أن يشعر الفرد بالعار فقط لأنه يشعر بالعار، أكثر من أي سبب آخر. هكذا يبرز تابو التحديق بعين الآخر وتابو الإشاحة بالنظر عنه. في الخلاصة، الوعي الذاتي والعار هما وثيقا الصلة لأن الاستجابة بالعار تلفت النظر إلى الوجه بشكل درامي.
يشمل العار-الذلّ تناقضاً وجدانياً من خلال الإشاحة بالنظر عن الموضوع وتوجيهه إلى الوجه والذات. ردة فعل العار-الذلّ هي حرفياً التناقض الوجداني الذي يتجلّى في إشاحة النظر عن الموضوع إلى الوجه، إلى الذات. هي فعل الحدّ من التواصل عبر الوجه حيث تُلجم قوة الإثارة أو الاستمتاع، ولو جزئياً. وبالتالي، هو فعل شديد التناقض. ليس هناك ما يمثّل ذلك التناقض الوجداني أكثر من طفل يغطي وجهه أمام غريب بينما يسترق النظر من أصابعه كي ينظر دون أن يُنظر إليه. في تجربة العار، أريد أن أستمرّ في النظر وأن يُنظر إليّ، ولكن في الوقت عينه، لا أريد ذلك. هناك عائق كبير أمام التواصل، ما يفعّل الوعي بالوجه والذات. ولئن ترفض الذات أن تتخلّى عن الموضوع تماماً، قد تنجح الإثارة بإزاحة العار بأي لحظة. ولكن ما دام العار مسيطراً، فإنه يفرض التخلّي عن الموضوع. وبالتالي، يشتدّ الوعي بالذات عندما ترفض الذات التخلّي عن موضوعها. هكذا يحاكي العار الحداد، أي عندما يشتدّ وعيي بذاتي فقط لأني لا أريد أن أتخلّى عن موضوع الحب الذي يجب التخلي عنه.
يتجلّى التناقض الوجداني في العار عندما يواجه طفلٌ فضولي شخصاً غريباً عنه، شخصاً مثيراً للاهتمام، أو عندما يواجه محبٌّ متردد موضوع حب أو موضوع جنس مثيرين. ولكن ماذا يحصل عندما يفعَّل العار نتيجة لازدراء الآخر للذات ولاحتقاره لها؟ عندما يبرز العار جراء فشل في حل معضلة ما؟ ماذا يحصل عندما يبرز العار نتيجة لاحتقارٍ أو لومٍ مصدرهما الذات نفسها أو آخرٌ غريب عنها؟
أعتقد أن الاحتقار يفعّل العار فقط عندما يمثّل الاحتقارُ عائقاً أو حدّاً للإثارة والاستمتاع. بمعنى آخر، على الفرد أن يكون قد توقّع الكثير من الآخر قبل أن يبدي الآخر احتقاراً يفعّل العار.
على الفرد أن يكون قد توقّع الكثير من الآخر قبل أن يبدي الآخر احتقاراً يفعّل العار.في غياب المصلحة أو الاستمتاع بالآخر أو التطلّع إلى مشاعر على هذا الحد من الإيجابية تجاه الآخر، قد يبدي الآخر نظرة احتقار تفعّل الدهشة او الاضطراب أو الخوف أو الغضب، ولكن ليس العار. تأمَلُ الذات الذليلة حينها أن تنظر إلى الآخر بشيء من المصلحة والاستمتاع، وأن يُنظر إليها بمصلحة أو استمتاع، وذلك في علاقة ندية. إن التوتر بين الانفعال الإيجابي ووعي الذات السلبي بوجهها يعطيان تجربة الذلّ حدّتها الفريدة. في هذه الحالة، لا تأمل الذات بالنظر إلى الآخر بدلاً من طأطأة الرأس فحسب، بل بجعل الآخر أيضاً ينظر إليها بمصلحة أو باستمتاع بدلاً من أن ينظر إليها باحتقار.
الاغتراب عن الذات
ماذا عن الاغتراب الذي يشعر به الفرد عندما يخلّ بقيمه الأخلاقية؟ نذكّر بأن الذنب هو شكل آخر لانفعال العار-الذلّ. قد يعرِّض الفرد موضوع حبّه للأذية أو للذلّ، فتشعر الذات بالعار من نفسها. في هذه الحالة، ينتقل العائق أمام التواصل من الخارج إلى الداخل، أي يصبح العائق أمام التواصل في صلب النفس. عندها، لن تستطيع الذات أن تحافظ على المصلحة بنفسها أو أن تستمتع بها.
إذا ما فقدتُ المصلحة بذاتي القديمة، فلن أشعر بالعار من تلك الذات اليوم. أيّ تجربة أو تحوّل يعمّقان جذرياً الهوة بين ذاتي بالأمس وذاتي اليوم، سيخفّفان من العار الذي أشعر به تجاه تصرفات ذاتي القديمة. عندما يتراكم دين العارــ الدين من القضايا المعلقة، من الانتهاكات الأخلاقية، من لامبالاة الآخرين أو احتقارهم، من الخسارات الشاملةــ عندما يتراكم هذا الدين ويبلغ مبلغاً لا يمكن تسديده من إيرادات الثقة بالنفس، قد يلجأ الفرد إلى إعلان إفلاس عاره. وذلك من خلال القيام بتجربة تحوُّل تولد جرّاءها ذاتٌ جديدة، ذاتٌ متحرّرة من تجربتها السابقة مع الذلّ، وحرّة في البدء من الصفر.
جرّاء ردّة الفعل التي يسبّبها العار، سواء أمام آخر غريب أو أمام رقيب داخلي أو خارجي أو نتيجة لانكسار ذاتي، تلتزم الذات، إلى حدّ ما، بالاستثمار بالانفعال الإيجابي بالشخص، أو بالنشاط، أو بالظروف، أو بذلك الجزء من الذات الذي كان عائقاً أمام التواصل. الإصرار على رفض التخلّي عمّا كان أو ما قد يعود ذا أهمية، يكشف وجه الذات أمام عينها هي أو أمام عين الآخر التي تحدّق فيها دون هوادة. ولكن حتى لو تخلّت الذات عن موضوع مصلحتها، قد تعود وتحتقر نفسها من الصميم أو تردّ على من كان قد احتقرها باحتقار مضاد أو بعدائية.
الذلّ من الآخر، احتقار الذات
لعلّ إحدى النتائج المتناقضة لعلاقة الانفعال الإيجابي بالعار هي أن الانفعال الإيجابي نفسه الذي يربط الذات بموضوعها، يربط الذات بالعار. وبما أن التنشئة الاجتماعية تثمّن الانفعال الإيجابي، يصبح الفرد أكثر عرضة للعار، رافضاً أن يتخلّى عن نفسه أو عن الآخر. وبما أن الاحتقار تمّ استخدامه أداةً أساسية للتنشئة الاجتماعية بموازاة تقنين الانفعال الإيجابي، يصبح الفرد أكثر جهوزية للتخلّي عن أجزاء من نفسه كما التخلّي عن الآخر.
العار-الذلّ هو الانفعال السلبي المتّصل بالحب والتماهي، والاحتقار-القرف هو الانفعال السلبي المتّصل بالتفرّد والكراهية. كلا الانفعالين يعيقان الحميمية والتوحد داخل الذات، والتوحّد بين الذات والآخر. ولكن على عكس الاحتقار-القرف، لا يؤدّي العار-الذلّ إلى تخلّي الذات عن موضوعها نهائياً. فكلما أراد فرد أو طبقة أو أمّة أن يحافظوا على علاقة هرمية مع الآخر أو على مسافة منه، لجأوا إلى احتقاره. الاحتقار هو أمارة المضطهِد.
الاحتقار هو أمارة المضطهِد.تستمرّ العلاقة الهرمية إما بعد أن يمارس المضطهَد الاحتقار على نفسه أو بعد أن يطأطئ رأسه عاراً. في الحالة الثانية ينظر المضطهَد إلى المضطهِد نظرة التماهي، متأمّلاً أن يكون ندّاً له، أن يستثمر مصلحته به، أن يستمتع برفقته، آملاً أن يبادله المضطهِدُ المصلحة، ولو أحياناً.
بالرغم من أهمية التمييز بين الاحتقار والعار، ليس الفارق دائماً أو بالضرورة مطلقاً. قد تكون تجربة العار شديدة القسوة، على سبيل المثال، عندما يعمّق موضوع الحب الهوّة بينه وبين من يُعَيّر، أو عندما يفقد مَن يشعر بالعار الأمل من التوحّد مع الآخر في حال الغيرة التي تسبّبها ولادة شقيق مثلاً. عندها، قد يدافع من يشعر بالعار عن شوقه عبر التخلّي عن موضوع حبه والتعبير عن احتقاره للشخص الذي لا يمكنه الحصول عليه، والتحول في مخيلته إلى والده أو والدته. تُكشَف هشاشة هذا الدفاع عندما يواجه الشخص الذي أخذ مكان والديه موضوعَ حبٍّ جديد يولّد شوقاً للتوحّد والتماهي. تحت تلك الشروط، قد يسيطر على الإنسان طورٌ جديد من الحب والعار اللذين كانا قد فعّلا الاحتقار المضادّ كآليّةٍ للدفاع عن الذات.
إلى هذا يُفضي سؤالنا: لماذا العار هو انفعال أساسي، مذلّ، وواعٍ لذاته؟ قلنا إنّ العينين تبعثان وتتلقيان رسائل حول جميع الانفعالات. وبالتالي، فإنهما تكثّفان التناقض الوجداني من خلال النظر إلى الآخر وتلقّي نظرة الآخر؛ وإن الوعي بالوجه يتجلّى بالعار أكثر من كل الانفعالات الأخرى؛ وإن ردة فعل العار تتضمّن تناقضاً في إشاحة النظر من الموضوع نحو الوجه والذات؛ وأخيراً، إن تجارب الإنسان الأولية مع العار تؤدّي إلى أخرى تُشبع ذاتها.
مصادر العار
الإنسان ليس حيواناً قلقاً ومعذَّباً فحسب، بل هو أكثر من ذلك، هو حيوان خجول، من السهل أن يتقطّع بين الشوق واليأس. عندما نضيف إلى المصادر الغريزية للعار مصادر أخرى مكتسبة،
الإنسان ليس حيواناً قلقاً ومعذَّباً فحسب، بل هو أكثر من ذلك، هو حيوان خجوليصبح الإنسان شديد الهشاشة أمام عار شامل معمّم على القدر نفسه من الأذى كعصاب القلق. سنستكشف في ما يلي أحد الأسباب الأساسية، المكتسبة والغريزية، للعار:
- «أريد، ولكن...»: تختلف العوائق أمام أنواع المواضيع والاستمتاع التي تكبح الانفعال الإيجابي إلى حدّ تفعيل العار، ولكن ليس بالقدر الكافي للتخلّي عن الموضوع بشكل كامل: «أريد، ولكن…» هو أحد الشروط الأساسية لتفعيل العار. إن كان العار يعتمد على حواجز للإثارة والاستمتاع، لا بدّ أن يكون في تعدّد الرغبات تعدّدٌ للعار. نظرنا إلى التفاوت الهائل بين مواضيع الإثارة والاستمتاع. طالما أن هناك حواجز، غريزية أو مكتسبة، لأي من تلك المواضيع، هناك قابلية دائمة للعار الذي يتطبّع حسب الأفراد. ليس غريباً أن يكون مصدر العار لدى أحدهم مصدر رضىً وإشباع ولامبالاة لدى آخرين. أكثر من ذلك، داخل كل فرد أغراض عديدة إما ستُشبَع وإمّا سيتمّ التخلي عنها. ولكن هناك أغراض تتعايش مع أخرى يعجز الفرد عن تحقيقها، دون أن يتمكّن من التخلّي عنها، مما يجعلها مسبباً رئيسياً للعار المزمن، أي المسائل المعلقة.
- العمل: عندما أستثمر المصلحة والاستمتاع بعمل هو على قدر من الصعوبة، قد أشعر بالعار عندما أنحرف جذرياً عن الأداء المثالي. إن كان عملي شديد السهولة أو الصعوبة، قد يحدّ ذلك من الانفعال الإيجابي ممّا يفعّل العار. لو شئت أن يبقى عملي خاصاً، قد أشعر بالعار إذا انكشف أمام العامّة؛ على المقلب الآخر، لو أردت أن يكون عملي منتشراً ولكنه بقي مجهولاً، قد يؤدّي ذلك إلى العار، لأن الانفعال لا يزال يستثمر في الدعاية، ولكنه يواجه حاجز وعي الآخرين به. إذا ما أردت أن يبدي الآخر اهتماماً ببداية عملي أو استمراريته، قد أشعر بالعار إذا ما واجهت لامبالاته. ولو أردتُ أن أبدأ عملي أو أكمله بناء على دافع ذاتي، فأي ردة فعل تشجيعية من الآخر تجاه عملي قد تبدو قسرية فتؤدّي إلى العار. لو أردتُ أن يكون عملي ضمن الأعمال السائدة، قد أشعر بالعار إذا ما نُظر إليه على أنه خارج عن السائد. ولكن إن أردتُ أن أكون مبدعاً، قد أشعر بالعار إذا ما نُظر إلى عملي كأنه ضمن السائد.
-
الحبّ والصداقة والعلاقات الشخصية: لننظر إلى تعدّد مصادر العار التي تنبع من الحب، والصداقة والعلاقات الشخصية. إذا أردت أن ألمسك ولكنك لا تريد أن تُلمس، قد أشعر بالعار. إذا أردتُ أن أنظر إليك ولكن لا تريدني أن أفعل ذلك، قد أشعر بالعار. إذا أردتُ أن تنظر إليّ ولكنك لا تفعل، قد أشعر بالعار. إذا أردتُ أن أنظر إليك وفي نفس الوقت أردتُ أن تنظر إليّ، قد أشعر بالعار. إذا أردتُ أن أقترب منك وابتعدتَ، أشعرُ بالعار. إذا أردتُ أن ألعق جسدك أو أعضّه وتردّدتَ، قد أشعر بالعار. إذا أردتُ أن أحضنك أو أن تحضنني أو أن نحضن بعضنا بعضاً اًو لا تبادلني رغباتي، سأشعر بالعار. إذا أردتُ أن أسمع صوتك وأنتَ ترفض أن تكلّمني، قد أشعر بالعار. إذا أردتُ أن أتحدّث معك وأنت ترفض أن تسمع، سأشعر بالعار. إذا أردتُ أن أشاركك أفكاري، أو طموحاتي أو قيمي، وأنت لا تبادلني الرغبة، سأشعر بالعار. إذا أردتُ أن أشاركك تجاربي وأنت تريد أن تشاركني فلسفتك في الحياة، قد أشعر بالعار. إذا أردتُ أن أتحدّث عن مشاعري الخاصّة وأنت تريد أن تتحدّث عن العلوم، سأشعر بالعار. إذا أردتَ أن تتكلّم عن الماضي وأنا أردتُ أن أتكلّم عن المستقبل، قد أشعر بالعار. أذا أردتُ أن أصبح مثلك وأنت أردتَ أن تصبح مثلي، قد أشعر بالعار. إذا أردتُ أن أسيطر عليك وأنت أردتَ أن تسيطر عليّ، قد أشعر بالعار. إذا أردتُ أن تسيطرَ عليّ وأنت أردتَ أن أسيطر أنا عليك، سأشعر بالعار.
مصدرٌ آخر للعار في العلاقات الشخصية هو فقدان موضوع الحب جراء الانفصال أو الموت. عندها، لا يظهر الاضطراب وحده، بل يُطأطأ الرأس عاراً. يعاش هذا العار بطرق مختلفة حسب التخيلات والتأويلات المرافقة للعار. قد يعاش العار اغتراباً، نبذاً، هزيمةً، شعوراً قاسياً بالوحدة، هوّةً متحوّلة بين الذات والآخر، شوقاً يلسع بحلوه ومرّه. أحياناً، قد لا يُفعّل العار في العلاقات الشخصية جراء ازدياد المسافة بين الذات والآخر، بل على العكس، جراء تقلّصها في حال وجود تابو حول الحميمية. في تلك العلاقات الشخصية، قد يفعّل العار التقلص المفاجئ للمسافة دخل العلاقة أو التهديد به. وبالتالي، في حال وجود علاقة هرمية، فإن التهديد باقامة علاقة جنسية إما بالفعل، وإما بتكثيف الرغبة، قد يفعّل العار لدى أي من الفريقين. - الجسد: قد يُفعّل العار من الجسد عندما تبرز عوائق أمام الإثارة والاستمتاع الجسديين. أولاً، جراء إحباط الغرائز الأساسية كالأكل والشرب والإشباع الجنسي. ثانياً، جراء خسارة القدرة الجسدية على تأدية الوظائف اليومية نتيجة مرض أو حادث. يصبح الجسد مصدراً آخر للعار عندما يفشل في تحقيق التوحّد مع الآخر أو تحقيق الاحترام للذات. عندما يُعتبر الجسد غير جذاب، قد يشعر الفرد بالعار بسبب عجزه عن إشباع مصلحته والفخر بجسده وذلك بسبب عجز جسده عن إثارة الآخرين والمحافظة على العلاقات الشخصية التي يرغب فيها.
- الشيخوخة: مع الكبر والمرض واقتراب الموت، يكبر مصدر العار في الجسد. هذا أحد الأسباب التي تدفعنا للظنّ بأنّ الاكتئاب هو من ظواهر الشيخوخة. يعاني المكتئب عادةً من نوبات اكتئاب سريعة وعابرة قبل أن يستسلم إلى فقدان الفرح والاندفاع نحو الحياة إلى حدٍّ يؤدّي إلى استشفائه. نظنّ أن تقاطع ضغوط عدّة، مثل تدنّي الطاقة الحيوية والجنسية، أو ازدياد الانزعاج الجسماني، أو مواجهة اقتراب الموت، أو فقدان الجاذبية الجسدية والمكانة والأهلية، أو خسارة الزوج أو الصديق، كلها تجارب تعمّق نوبات الاكتئاب لدى المسنّين وتطيلها. رغم أنّ ازدياد العجز الجسدي هو مصدر أساسي للعار والاضطراب والخوف، يجوز القول أيضاً إنّ الهاجس بالجسد المسنّ أو المعتلّ هو نتيجة للعار، كما هو مصدر له ولانفعالات سلبية أخرى.
العار بالوكالة
قلنا إن الآخر يُشعر الذات بالعار عندما يبدي تناقضاً في انفعاله أو احتقاراً أو انفعالاً سلبياَ. كلها أمثلة عن عار ينبثق من علاقة ثنائية أصلاً، أي بين الذات والآخر. ولكن قد يشعر الإنسان بالعار من الآخر حتى وإن لم يتفاعل الآخر معه بطريقة تسبّب له العار عمداً، أو قد يشعر بالعار حين لا يتفاعل مع الآخر إطلاقاً. من خلال التعاطف مع الآخر والتماهي معه، يستطيع الإنسان أن يعيش من خلال الآخر وأن يشعر بعاره.
من خلال التعاطف مع الآخر والتماهي معه، يستطيع الإنسان أن يعيش من خلال الآخر وأن يشعر بعاره.كلما استثمر الفردُ انفعاله بالآخرين، وبالمؤسسات، وبالعالم من حوله، أصبح أكثر عرضةً لتجربة العار بالوكالة. وبالتالي، إذا عانى طفل أو زوج أو صديق من صعوبات في العمل أو الحب أو الصداقة، أو من ثقته بنفسه أو من تكوين هويته، قد تَشعر أنت بالعار. قد تشعر بالعار لأن الآخر يشعر بالعار، ولكن أيضاً في ظل الظروف ذاتها التي تُشعر الذاتَ بالعار حتى إن لم يشعر الآخر بذلك. وبالتالي، فإنّ فشل الطفل في واجباته المدرسية، قد يُشعر والديه بالعار، حتى لو لم يشعر الطفل بذلك.
بالفعل، قد يشعر الوالد بالعار نيابةً عن ابنه، والصديق عن صديقه، فقط لأن الآخر لا يشعر بالعار من الظروف التي يظنّها الفرد أساسية لتفعيل العار. قد يؤدّي غياب الحياء لدى الطفل أو الزوج أو الصديق إلى عار أعمق من الظروف نفسها لأنّ غياب الحياء قد يُترجم كنقيصة. إذا رسب طفل في امتحان، قد يشعر الأهل بالعار، ولكنّ هذه استجابة محدودة لوضع قد يكون قابلاً للإصلاح. ولكن إذا كان الطفل غير مبالٍ تماماً برسوبه وغير قادر على فهم قلق الوالدين، قد يشعر الوالدان بالعار أكثر منه جراء فشله. إن شعرَ طفل أو صديق بالخيبة من حبيب أو صديق، قد نشعر بالعار بالوكالة. وفي حال عانى شخص قريب مني من اضطراب في هويته وعجز عن العثور على نفسه بسبب ذواته المتعدّدة والمتغيرة، قد أطأطئ رأسي من العار بالوكالة أمام اغترابه عن ذاته ويأسه.
وفي حال عانى شخص قريب مني من اضطراب في هويته وعجز عن العثور على نفسه بسبب ذواته المتعدّدة والمتغيرة، قد أطأطئ رأسي من العار بالوكالة أمام اغترابه عن ذاته ويأسه.ليس العار بالوكالة عن الآخر بالضرورة عارَ من هو قريب مني. قد أشعر بالعار من المذلة أو العذاب اللذين يلحقان بأي إنسان أو حيوان آخر، شرط أن أكون متماهياً مع فصيلة الإنسان أو مملكة الحيوان، وأجلّ الحياة بالمطلق. في حال تماهيتُ مع مؤسسات كتلك التي أعمل فيها، أو مع النظام التعليمي، أو مع النظام القانوني والتشريعي، مع الرئاسة، مع الوطن، أو مجموعة من الأمم، أُصبح معرّضاً لتجربة العار بالوكالة إذا ما رأيتُ نكوصاً أو فشلاً في تطوّر تلك المؤسسات.
قد أشعر بالعار بالوكالة إن شعر الآخر بالعار من احتقار الآخرين له، ولكن هناك عار بالوكالة ينتج عن الحسد. قد نشعر بالعار بالوكالة ليس فقط من خلال فشل القريبين منّا، بل من خلال نجاحهم أيضاً. إذا وسّع نجاح الآخر الهوّة بين ذاتي وأهدافها، قد يؤدّي نجاحه إلى شعوري بالعار. يبرز ذلك أكثر عندما يدخل شخصان أو مجموعتان أو دولتان في منافسة. التقدم الذي يظهره الأول، لا بدّ أن يدلّ على فشل الثاني، في مبارزة لا ينتصر فيها إلا واحدٌ فقط.
تجربة العار بالوكالة، كما تجربة الاضطراب بالوكالة، هي في الوقت ذاته مقياس الحضارة وشرط لها. العار يوسّع مروحة الأغراض الخارجة عن الذات، والتي قد تشغل الإنسان وتقلقه. عند الشعور بالعار جرّاء تعاطف فجائي مع الآخر، لن يتمكّن الفرد بعد ذلك من التخلّي عن الآخر أبداً. بما أن التعاطف شرط ضروري في تطوّر الشخصية والحضارات معاً، فهو شرط ضروري لتجربة العار. إن لم يكن هناك مصلحة كافية في آخر المطاف، سوف تخفّ احتمالات العار بالوكالة. قدر الإحساس بالعار تجاه شروط قابلة للتغيّر هو مقياس أساسي لتطوّر حضارة ما.
استحِ!
على عكس نظريات شعور الفرد بالعار الناتجة عن التطبّع الإدراكي بالتجارب السابقة مع العار، كل فرد معرّض لتجربة العار إذا ما أخلّ بأعراف اجتماعية ورثها بحكم انتمائه إلى مجتمع ما أو إلى أعراف أيديولوجية التزم بها. تقوم الأعراف الإجتماعية والايديولوجيات عادةً على شبكة من الانفعالات الإيجابية والسلبية التي لا تلبث أن تصبح انعكاساً لها. العار عمود أساسي من أعمدة الأعراف والأيديولوجيات الثورية، وهو ليس إلا انفعالاً بين انفعالات عديدة أخرى توظَّف في سبيل تدعيم الامتثال للأعراف والايديولوجيات.
في الايديولوجية الثورية، يحرَّض العارُ على العار.
في الايديولوجية الثورية، يحرَّض العارُ على العار.فالعار من الإخلال بأعراف اجتماعية هو مدعاةُ فخرٍ عند الثوريين. وبالتالي فإن الماركسي، مثلاً، يجاهر باحتقاره للعقلية البورجوازية المترسّبة لدى الناشط البرجوازي الثوري، ويستخدم التعيير أداةً فعالة لمعاقبة الردة البورجوازية والعواطف البورجوازية. أي تخفيف من حدّة الصراع الطبقي بسبب التطبيع مع الأعراف الاجتماعية للمنظومة الحاكمة، سيعرّض الثوري المرتدّ للتعيير. كما أنّ أي انحراف متطرّف عن القرار الحزبي تتمّ السيطرة عليه من خلال تعيير مَن شذّ عن اليسار نحو الاتجاه الآخر، نحو راديكالية متطرفة. لم يلقَ دور العار والاحتقار في النشاط السياسي الثوري اهتماماً كافياً. قلّما يختلف التهديد بالعار والاحتقار في تلك الحركات عن التهديد بالعار المضمر في الحرمان الكنسي الذي ساد في العصور الوسطى.
رسوم: ستيفاني مرهج (2022)
العار كثير الحضور في حياتنا. هو حالة شعورية تسيطر علينا في أكثر اللحظات حميميّةً، لكنّه أيضاً مصطلح فكري نعود إليه عقب التحوّلات التاريخية الكبرى. هو حاضر أيضاً في اللغة التي تكثر فيها عبارات مشتقّة عن الخجل والحياء، والتي تتناول العين والوجه مسرحاً للعار الفردي والجماعي.
يطرح ملفّ «العار والحياء» أسئلةً حول كيف نتلقّى نظرة الآخر الرافضة؛ كيف نستدخلها فتتغيّر نظرتنا إلى ذاتنا؛ كيف نعيش العار فردياً وجماعياً في لحظات شديدة الخصوصية وأخرى تاريخية؛ كيف نجاهر بالعار أو نستخدمه أداةً لضبط الذات أو لتأديب الآخر. يقرأ كلٌّ من أحمد ناجي، وزينة الحلبي، وأنجيلا بروسيل، وعمر مسمار، وريما رنتيسي وفريق الإعداد في ميغافون العار في مقاربات نثريّة وبصريّة مختلفة، إضافةً إلى أوّل ترجمة عربية لنص سيلفان تومكينز التأسيسي الذي وصف العار بـ«مرض الروح» وصور غير منشورة من مشروع «التخيلات الجنسية» لميريام بولس.
حرّرت الملف زينة الحلبي لميغافون وفَمْ-مجلة بيروت الأدبية والفنية، بدعم من مؤسّسة آفاق.
اخترنا لك
آخر الأخبار
مواد إضافيّةجيش الاحتلال يهدّد بتدمير بلدات الحوش ومعشوق وبرج الشمالي في صور
أصدر المتحدّث باسم جيش الاحتلال، أفيخاي أدرعي، تهديداً بإخلاء بلدات الحوش ومعشوق وبرج الشمالي، شرق مدينة صور الجنوبية، بزعم أنّ حزب الله ينشط فيها. وأرفق أدرعي تهديده بخرائط لوّن فيها البلدات الثلاثة باللون الأحمر بشكل كامل، وهي صيغة التهديد والإنذار التي يعتمدها الاحتلال عادةً قبل استهدافه المباني وتدميرها.
وكان العدوان الإسرائيلي على بلدات قرى قضاء صور قد أدّى خلال يوم أمس فقط إلى استشهاد 9 أشخاص وجرح 6 بحسب ما أفادت وزارة الصحة، ويكثّف الاحتلال عمليّاته في القطاع الغربي بين طير حرفا وشمع والبياضة بهدف عزل الناقورة عن صور.