كيف تصبح رجلًا؟ أو ما هو الرجل الذي أصبحته؟ كيف تتحايل على تمارين الرجولة الموروثة، لتجد مساحات صغيرة لابتكار هويات مختلفة أو رجولة مختلفة؟ يعود عمر مسمار إلى سنوات طفولته ومراهقته ليتذكر محطات مختلفة من تشكيله كرجل، محطات تتقاطع فيها ألاعيب الأطفال مع خجل رجل قيد التكوين.
يفتح الطبيب سحّاب فستان ناهد ليفحصها، فيفضح بقعة من الألوان على ظهرها.
- إيه الألوان دي؟
- ألوان؟ ألوان إيه؟
يمسح بقعة الألوان بقطنة: دي باين لها ألوان زيت. يقدّم القطنة الملطّخة لناهد.
تردّ بضياع ألوان زيت؟ جات منين؟
يكمل الفحص ويطمئنها، ما فيش حاجة أبداً.
تمسك القطنة، تتحسّسها بيديها ومن ثمّ تقبض عليها بيد واحدة.
أنا زيّ ما كون حلمت حلم مبارح. حلم كان فيه ألوان، صور...
حتّى هذه اللحظة من الفيلم، لم تكن ناهد تدرك أنّ ما تمسك به بين يديها هو مرضها ووصمة عارها.
وُجّهت رسالة إلى أهالي الطلّاب في صفّ الحضانة تطلب منهم أن يرسلوا مع أطفالهم بنطلوناً إضافيّاً، غياراً، في حال شخّوا تحتهن. تدير مس أستر عملية التغيير في نادي الشخاخين هذا، والذي كنت من أعضائه المداومين. كلّما شخّيت تحتي، اجتزت الرواق الطويل لأصل إلى غرفتها بجانب الحمامات بخطى من يعرف بأن عليه أن يستعجل وهو ممنوع عليه الركض. تتقشّف أستر بالترحيب وتُسهب في الأحكام الضمنية، تشلّحني بنطلوني وكيلوتي المبلّلين. تفتح خزانة الغيارات، تسحب منها كيساً عليه اسمي، وتلبسني البنطلون الجديد. تكوّر الثياب المبللّة وتضعها في الكيس البلاستيك نفسه.
بِطَلّة منتعشة، أعود وأعبر الرواق بكوكتيل من العار يشغل الحواسّ: دَبِق ومصنصن بين رجليّ، ثقيل ومخشخش في الكيس البلاستيك. عار عليه اسمي.
أقضي معظم أمسياتي بعد المدرسة في محل أبي، «الأولد شو»، في تعنايل، طريق الشام العام، بين أحذية رجالية ونسائية بأسعار مغرية وشلّة رجّالية من أصحابه. أعتقد أنّني أصبحت مصدر ترفيهٍ لهم: الأصدقاء السنّة يطالبون بعُمَر لهم، والأصدقاء الشيعة يذكّرونهم بأننّي فعليّاً منهم بالرغم من التسمية المموّهة التي لا يحسبونها سوى تمرّد أبي على الورق، ورق شهادة الميلاد في هذه الحالة.
فرجي الهبّورة لعمّو هي الأكثر طلباً من بين العروض الترفيهية. تُستدعى على الأرجح كدليل إثبات في المعارك الهوياتية المحتدمةـ فالهبورة الشيعيّة تفرق عن نظيرتها السنّية. ولكن تُستدعى بالتأكيد كتباهٍ ذكوريّ كان منتظراً منّي أن أنضح به، رجولة على الطلب.
لم أُفرجِ الهبّورة لأيّ عمّو. ماذا لو لم ترقَ إلى مستوى توقّعاتهم؟ ماذا لو لم ينبهر عمّو بالهبّورة؟ عُمر من أكون عندها؟ هل أبقى عُمراً؟
أنا ميراي! أعلنُ لأصدقائي ونحن نلعب البيت بيوت يوماً في دار البناية. لا أعرف سبب إلحاحي على هذا الاسم بالذات. هو زهريٌّ من دون أن يفضح لونه المحظور. قد يكون أوحى لي بنعومة وخفّة. لا يتطلّب نطقه تشغيل البلعوم، بعكس عين عُمر.
أترك اللعبة وهلةً لأجلب قطعة مثلّث جبنة «راميك» من البيت أطعمها لقطّة كانت تختال بيننا.
أمّي المنهمكة في المطبخ تسألني:
- شو عم تلعبوا؟
- بيت بيوت.
- وإنت شو دورك؟ صبي أو بنت؟
- صبي.
أقولها بنبرة عسكري يضرب سلاماً لقائده.
أعود هارباً إلى اللعب.
كان تصريح السفر إلى سوريا باسم أمّي، وكان يخوّلنا المرور بالخطّ العسكريّ المخصص للشخصيات العسكرية والسياسية وذوي الشأن.
يوم الأحد. نركب البويك البيضاء، أمّي وأبي، وإخوتي الأربعة، وأنا. غالباً ما كنّا نذهب إلى الشام لنتغدّى. كانت أقرب إلينا من بيروت، وأرخص. يفضّل والداي مطعم القصر، طعاماً وبرنامجاً فنيّاً. يتردّدان إليه آملَين أن تكون ميرنا تؤدّي على مسرحه. شعرها أسود ناعم لامع، تشدّ ربطه إلى الخلف فينسدل كذيل الحصان. بشرتها صافية وحمرتها خمريّة مع كونتور غامق مخلِص لإطلالات منتصف التسعينيات. تلبس تايوراً من جاكيت وتنورة قصيرة، والعود في حضنها.
تلمح أمّي وتغنّي أنا قلبي إليك ميّال، تعرف أنّها المفضلة لديها. يُطرب والداي لصوتها.
ترمقني بنظرة لوم وتعضّ على شَفَتها السفلى. مألوفةٌ هذه العضّة، تحلّ إيماءً مكان كلمة «عيب». تكمل غناءَها. أجهش بالبكاء.يُحاول أبي إقناعي بأن أصعد إليها على المسرح، وأن أقدّم لها وردةً من الورود البيضاء التي تزيّن الطاولة. يلقّمني الكلمات. أرفض، أتردّد، الجوع إلى الشهرة يغريني بينما تصدّني رهبة المسرح، فأخضع للطلب. أعتلي المسرح، أمرّ بين الموسيقيّين وأجتازهم لأصل إلى ميرنا وهي في منتصف جملة موسيقية. أقدّم لها الوردة وقد أصبح الجمهور أمامي، تأخذها بسرعة بين النوتة والنوتة، وتبتسم. أقترب منها وأهمس في أذنها: هيدي الوردة حلوة متلك.
ترمقني بنظرة لوم وتعضّ على شَفَتها السفلى. مألوفةٌ هذه العضّة، تحلّ إيماءً مكان كلمة «عيب». تكمل غناءَها. أجهش بالبكاء. أركض عن المسرح إلى حضن أبي. تفشل أيضاً هذه النسخة الجنتلمانية من فرجي الهبّورة لعمّو.
لم أُفرجِ الهبّورة لأيّ عمّو، فضّلت العبث مع صبيّ من عمري.
تضع السيجارة بفيلترها الطويل في فمها وتشعلها. تأخذ رشفة من كأسها على البار. شعرها أحمر طويل، فوق عيونها أومبر ذهبي لمّيع، على شفتيها لون أحمر فاقع، وعلى خدّها شامة. نظرها موجّه على رجل يجلس وحده على طاولة، أمامه دفتر مفتوح وبيده قطعة فحم. ينظر إليها ويرسم في دفتره. تدخّن، تنظر إليه، ينظر إليها ثمّ إلى دفتره. تأخذ نفساً من السيجارة، تمسك جزدانها الأحمر الصغير، وتنزل عن كرسيّ البار متوجّهة صوبه. فستانها أحمر ترتر يخشخش عند الحركة، الفتحة حتّى أعلى الفخذ. تصل إلى طاولته وتسحب الدفتر منه.
- إنتَ بترسم؟
- همم، أيوه.
تمشي إلى كرسيّ بجانبه. يقف لها ثم يجلس.
- عجبِك الرسم؟
تجلس.
- مش بطّال. لكن ليه رسمت وشّي بس؟ جسمي مش عاجبك ولّا إيه؟
- الحقيقة... أصل الورق حجمو صغيّر.
- عندك ورق أكبر؟
- عندي. بس مش هنا.
- أمّال فين؟
- في الاستوديو بتاعي.
- والاستديو بتاعك ده فين؟ بعيد؟
- عندي تاكسي عند اللزوم.
تنظر حولها.
- عاوز ترسم حدّ تاني هنا؟
- هنا؟ لا لا لا، أبداً.
يوضّب الدفتر مسرعاً ويضعه في ملف.
تقف ميرڤت وتقول:
- ياللّه بينا.
ندخل أنا وحيدر– حيدورة– ابن الجيران، وأوّل الأصحاب، إلى الحمّام الأزرق في منزل والديه.
كان ذلك في العام السابع من صداقتنا، الذي يصادف أيضاً العام السابع من عمرنا. نغلق الباب خلفنا.
نقشّط بنطلونينا ونقف وجهاً لوجه، هبّورة أمام هبّورة، متمعّنين بهذه الفرجة. ننظر ونضحك، نتلبّك. لا نلمس، ولكن نتشارك إحساساً معيّناً في الهبّورة لا نجد مصطلحاً له سوى أنّه أشبه بالنفخ، متل دولاب البسكلات. فكّينا البنطلون وسبرنا دنياه قبل أن نفكّ الحروف ونضعها في جمل مفيدة.
يُفتح باب الحمام على غفلة. تطلّ جدّته التي كانت تزورهم من سوريا.
نسينا أن نقفل باب الحمام. قد يكون دخولها علينا من أوّل تجلّيات مفهوم الكارثة. صحيح أنّها تافهة مقارنةً بأحداث العالم وكوارثه، لكنّها تُداهم عالمي، تُغرقه وتقلبه، تعيّره قبل أن يخلق.
تشهق شهقة مسلسلات، دراميّة ورنّانة، وتصيح: يا عِيب الشّوم عليك وعليه وتخرج.
نسينا أن نقفل باب الحمام. قد يكون دخولها علينا من أوّل تجلّيات مفهوم الكارثة. صحيح أنّها تافهة مقارنةً بأحداث العالم وكوارثه، لكنّها تُداهم عالمي، تُغرقه وتقلبه، تعيّره قبل أن يخلق. نقف منتصبين بصمت. شو منعمل؟
يبدأ برسم خطوط حمراء. ينظر إليها وهي إليه. يرسم الجفون. تغمزه. يستحي. كانت ميرڤت قد خلعت الفستان الأحمر ووقفت بالكومبينيزون وراء تمثال أبيض لامرأة عارية بدون رأس وبيد واحدة تغطي صدرها. وضعت ذقنها على رقبة التمثال وغمرته بيديها من الخلف، فأكملت الصورة وبدت مخلوقاً هجيناً من رخامٍ ولحم.
تترك التمثال وتقف بجانبه أمام اللوحة. تمسك بزنده وتربّت ساعدَه وصولاً إلى يده. تسحب الفرشاة وتضعها جانباً. يقتربان أكثر وتقبّله. يقبّلها. ينطفئ الضوء وتحمرّ الغرفة. يستلقي فوقها على السرير. تشيح الكاميرا نظرها عن تفاصيل السكس، لا لتصوّر ستاراً يداعبه الريح، بل لتدور على الأعمال الفنيّة في الاستديو. نرى تتمّة المشهد ـ رجلٌ وامرأة عاريين، جسده الأسمر فوق جسدها الأبيض، شفتاه على خدّها وشعرها الأحمر منسدل على السرير ـ وإنّما كلوحة زيتيّة.
تكمل الكاميرا هروبها من السكس، تجيّر قمعها إلى وسائط أخرى، كالرسم والنحت، لتوحي من خلالها بما لا تقوى هي على تصويره. من تمثال نصفي لرجل إغريقيّ ربما، إلى لوحة زيتيّة مجرّدة، إلى تمثال نصفي لامرأة داكنة البشرة، ربما نوبيّة، إلى صورة عن تمثال «القبلة» لرودان، حيث ينصهر فيه جسدان عاريان لامرأة ورجل. تصل الكاميرا إلى باليت الألوان الخشبي وترسو على لونَيْه الأحمر والأصفر المتداخلَين الناريَّين. يتغبّشان تدريجياً.
تعود ميراي إلى البيت بيوت مع قطعة الجبنة، تطعمها لقطّة لا يُشبعها هذا المثلّث الصغير. تصعد أختها رشا لتجلب المزيد من الجبن، وبعد لحظات، تطلّ أمّهما عن البلكون منادية: عمر، عمر، تفضّل عالبيت.
الرحلة من البيت بيوت في موقف السيارات إلى البيت في الطابق الأوّل رحلة انسلاخ طويلة.
كانت أمّي قد استجوبت رشا. نكرت ثم عادت وطقّت تحت الضغط. اسمه ميراي.
أخيراً أصل من رحلتي. تسحب ملعقة الخشب من جارور المطبخ وتنهال علينا بالضرب. تقول إنّ هذه القتلة لأنّنا كذبنا. لكنّ الأكاذيب السابقة لم تلقَ كلّ هذا الاحتفاء. تُعاقبنا بعدها بإجبارنا على الركوع بصمت في غرفة النوم لمدّة ربع ساعة، للإذلال، لا للصلاة. علمت حينها أنّ الإيمان هو العار مصقولاً.
أسحب مخدّة عن السرير وأضعها تحت ركبتيّ.
نستجمع أنا وحيدورة قوانا، نجمع ثيابنا ونتسلّل من الحمام. أحاول أن أتمرّن على تسويغٍ للمشهد. منقلها قرّرنا نفنتر سوا لأنّو كتير بيست فريندز نحنا، متل ما خيّاتنا البنات بيعملو؟ لا نحتاج إلى هذه الذريعة لأنّ جدّته تلوذ بالصمت. تشيح بصرها عنّا فالنظر نوع من الإكرام. نفرت ممّا رأت، لا يستأهل بكارة عيونها ولا عذب كلامها.
بعد أيّامٍ من هذا الريجيم البصري القاسي، والذي كان كفيلاً بطمس ما رأته، تعود وتنظر إلينا. نظرة حذرة، متقشّفة، شغلها الشاغل تذكيرنا بسبب تقشّفها وتذكيرنا بأنوثتنا التي عززها هول مشهد الدّكر عالدّكر بالحمام.
هي معلّمة لغة عربية، تمضي وقتاً كبيراً من زياراتها إلى لبنان بتدريس حيدورة، وهو الضعيف في جميع المواد، خصوصاً العربي والخطّ. تجبرني على الجلوس معهما مع أننّي لا أحتاج إلى الدروس الإضافية، ولكن كتحفيزٍ له. تُعلّمنا كتابة الأحرف والكلمات بخط الرقعة، مشدّدةً على ضرورة طمس الحروف. كنّا غالباً ما ننسى طمسها؛ بس نحنا مش هيك عم نتعلّم بالمدرسة تيتا، أشكو لها مبرّراً إخفاقي. لا تكترث، تصرّ على الطمس.
الميم والعين والغين والواو والفاء والقاف تُطمس بحالات مختلفة، بحسب موقعها في الكلمة. نخفق وننسى، لكنّ الطمس عندها مبدأ، هوس لم نفهم أسبابه ولم نجرؤ على مساءلته. معَوَفَقْ، تقول لنا، كلمة تجمع كلّ الحروف التي تُطمس من دون أن يكون لها أيّ معنى. نمضي بتسكير فضاءات الحروف، نخنقها، نطمّ فَتحاتها.
وإنّا لاتّخذنا المَعَوفَقْ، مذّاك، سُنّةً لجنسانيّةٍ تُصقل بالقهر.
لا دموع بعد اليوم. وإن كان لا بدّ منها، فإنها تُذرَف في الحمّام. فالبكاء العلني عورة الجنس اللطيف، يفضح جبناً وخنثاً، راميك وميراي. تغرورق عيناي بالدموع في منتصف حصّة الرياضيّات في الصفّ الرابع ابتدائي، بدون أي سبب ملموس سوى إحساس غامر بالوحشة. الحمامات بعيدة والدموع قريبة، لا منفذَ لها سوى خدّيّ.
تنساب الدموع على خدَّيّ. وفي لحظة إلهامٍ أدّعي التثاؤب ملء فمي. أفتحه على مداه، أشدّ عضلات وجهي، وأعصر عينيّ. تنزل الدموع مُبرّرةً. تنظر إليّ صديقتي وتقول فكّرتك عم تبكي.
أردّ: لا تتاوبت. نعسان وزهقان.
تنزل ميرڤت من التاكسي وتدخل البيت خلسةً. تتسلّق الدرابزين، وتقفز إلى داخل غرفة النوم.
تشعل الضوء وتجلس أمام المرآة. تضع يدها على شعرها الأحمر الطويل وتسحبه باروكةً. تخرج الدبابيس من شعرها، تفرده بيديها وهو أسود قصير وناعم. بمنديلٍ أبيض وبتأنٍّ، تمسح الحمرة عن شفتيها، ومن ثمّ الشامة عن خدّها حتى تختفي. تمرّر أصابعها فوق الأومبر الذهبي فتمرّغه قليلاً، لتعود وتقشّره بأظافرها من على جفنيها. تفتح الخزانة وتسحب من جوفها شنطة سفر، تضعها على السرير وتفتحها. بصعوبةٍ تفكّ السحّاب الخلفي للفستان. تخلعه وتودعه في الشنطة الفارغة، مع الباروكة والجزدان. تقفل الشنطة بالمفتاح وتعيدها إلى باطن الخزانة. تفتح قفل باب الغرفة قبل أن تسقط قميص النوم بابتسامة راضية. تستلقي على السرير مع الابتسامة نفسها ثم تطفئ الضوء وتنام.
حتّى هذه اللّحظة من الفيلم، لم تكن ميرڤت قد اكتشفت أنّها ناهد، ولا عرفت ناهد أنّها ميرڤت.
ألغي عضويّتي النهارية من نادي الشخّاخين في المدرسة وأؤجّجها في الليل. أصحو في العتمة، إمّا في عزّ الشخّة أو بعدها مباشرةً، وأنا أسبح في بركة بَولي. أمشي فرشخةً إلى غرفة نوم أهلي وأوقظ أمّي. تثب من سريرها بنفس النقزة كلّ مرّة، مهما كَثُرت المرّات وتوالت. تشطّفني وتلبسني غياراً جديداً. بعزمٍ تحفّ الشراشف والفرشة بمسحوقٍ ما. انطور لقبّع الملاحف. أنتظر. تتقبّع الملاحف وتتبدّل، تتشمّس الفرشة وتتهوّى، بينما الشخّات تتكرّر وتتغلغل إلى قلبها. لم يعُد الحفّ يجدي نفعاً. قد يعقّم الفرشة ويسحب صنصنتها، لكنّه لا يزيل البقع الصفراء الباهتة المتكالبة على وجهها.
أخلد إلى النوم في إحدى الليالي وأجلس على السرير فيصدر خشخشةً. أستلقي عليه فأجده خشناً. أرفع الغطاء عن الفرشة لأكشف عن رسمة لفواكه مشكّلة مطبوعة على قماش يشبه البلاستيك.
إنّه المشمّع: يمنع تسرّب البول إلى سطح الفرشة.
مع المشمّع: لا نحتاج إلى التعاطي مع تاريخ الفرشة. عند الشخّ تحتي، يُمسح المشمّع وتُغسل الشراشف بدون أي ضرورة لدعك الفرشة أو مواجهة بقعها.
على المشمّع: كلّ شخّة وكأنّها الأولى.
تحت المشمّع: كحلقات شجرةٍ مقطوعة، أعدّ البقع سنيناً.
يعجّ الصالون بضيوف يجلسون في حلقة. عيد ميلاد خالتي الثلاثون. الكبار يشربون ويدخّنون ونحن نحاول جذب انتباههم. تعلو الموسيقى فيطالب بي الجمهور على حلبة الرقص أقف في الوسط وأصفّق.
كيف يرقص الصبيان؟
أودّ أن أهزّ وأتلوّى، أن أخلع وأتشخلع، أن ألتهم الموسيقى. يرحم أيّامك يا ميراي، تغييبك أثقل الحركات وقلّم الأطراف وأقفل الرسغين.
تعلو الموسيقى أكثر ويتجيّش الحضور، مطالبين بليونة أكبر. أستحضر المخدّة تحت ركبتيّ وأرخي: أخاطر بخلعة كتفٍ تتزامن مع هزّة خصر وبرمة رسغ.
ثم أشدّ.
يسكر السكارى.
أرتخي مجدّداً، أهزّ أكتافي بانسيابية على إيقاع الموسيقى مع محاولات خطيرة لهزّ الخصر لا ينقصها سوى اكتمال النموّ. يصفّق أبي من على الكنبة فأرقص له. ينزل خالي إلى مستواي، يحاكي حركاتي بجديّة، فأرقص معه. يعطونني مسبحةً تشعل هزّة أكتافي وحركة يديّ. تقع منّي فلا أبالي. أستقلّ عن أبي مبتعداً إلى منتصف الحلبة مع شريكي في الرقص. أركع وأرجع بجسمي إلى الخلف لتصبح رجلاي تحتي، ورأسي على الأرض. أرقص مستلقياً، متباهياً بهذه الحركة التي عمّمتها الراقصة هويدا الهاشم. «وقعة هويدا الهاشم» حركتي المفضّلة التي لم ألحظ حتّى لاحقاً، الآن بالتحديد، أنّها الـ Turkish drop، سلف الـshablam، أو الـdeath drop.
أعود لأرقص أمام أبي وهو على وتيرة التصفيق نفسها. أمسك بيده لأدور تحتها، أفلتها في منتصف الدورة وأركض إلى الحلبة بتوليفة لوقعة هويدا الهاشم: أهبط برشاقة على ركبتيّ، بيَدٍ تدعمني على الأرض، وأخرى في الهواء تعلن انتهاء العرض.
لم يلقَ هذا الرقص لا استهجاناً ولا توبيخاً ولا تركيعاً فيما بعد، مع أنّ رائحة ميراي فيه. أحتار. لا أفهم المنطق ولا أرسو على عبرة. أتذكّر أنّي ركعت خلال الرقص، فهل يكون ذلك هو السبب؟ استباق العقاب وإدراجه بفعل الجريمة كمكوّنٍ بنيويّ؟
من بين المجموعة الأكبر من أولاد جيران البناية التي تدركبت إلى مطلع سن المراهقة، تأتلف شلّة أصغر مؤلفة من أربعة أشخاص: أنا وتامر وأسمى وربى. بدكن نلعب «اللعبة»؟ نهمس لبعضنا. ننسحب واحداً تلو الآخر من ألعاب المجموعة، بطاباتها وركضها في دار البناية، ونعتمد باب الدرج بين الطابقين الثالث والرابع مقرّاً لنا. لا أذكر كيف بدأت هذه اللعبة؛ قد نكون نحن الأربعة اختبأنا هناك مرّة خلال الغمّيضة واكتشفنا أنّ في الاختباء حقل تجارب تتجلّى فيه رغبات كامنة.
نسمّيها «اللعبة» ونقولها كأنّنا نضعها بين مزدوجين من دون الإيماء باليدين.
في هذه التسمية تمسّكٌ بطرف طفولة شارفت على نهايتها، نستورد منها اللعب وقد اعتدناه بريئاً، وسرعان ما ندرك أنّ براءة اللعب ليست فطريّة إنّما هي جزئية من جملة تركيبات محتملة.
في هذه التسمية تمسّكٌ بطرف طفولة شارفت على نهايتها، نستورد منها اللعب وقد اعتدناه بريئاً، وسرعان ما ندرك أنّ براءة اللعب ليست فطريّة إنّما هي جزئية من جملة تركيبات محتملة. في هذه التسمية إعادة اللعب إلى جوهره، فلا سبع حجارٍ ولا پولٍ ولا وقعت الحرب ولا إمّي إمّك ولا كرش خالي العالي ولا شامبر نوار ولا غمّيضة ولا لقّيطة. فقط «اللعبة»، اللعب بمفهوم اللعب وهو اقتفاء اللذّة.
هي البيت بيوت بتصنيف 13+. لم يكن السيناريو ذا أولويّة ولا ابتكاراً، بل إعادة إنتاج الأدوار المعيارية المغايرة في قالبٍ غير مغايرٍ. أنا وتامر نشكّل ثنائيّاً وأسمى وربى تشكّلان ثنائيّاً آخر. يذهب كلٌّ من تامر وأسمى إلى العمل، ونبقى أنا وربى لتدبير المنزل والدرج. لا يهمّ ما يجري في العمل ولا في المنزل، ولم يجرِ الكثير، لأنّ اللحظتين المنتظرتين كانتا لحظتَي التوديع والاستقبال. قبل أن يذهب تامر إلى عمله، ندنو من بعضنا بعضاً، نقرّب أفواهنا، وقبل أن تتلامس الشِّفاه بميلليمترات، نشفطها ونزمّها إلى داخل الفم. تحتكّ مناطق أعلى الشفتين وأسفلهما عندي بنفس المناطق عنده. نودّع بعضنا ملتصقين هكذا لفترة، اللّا-شفاه فوق اللّا-شفاه على وقع حركة رأس طفيفة، ثمّ يذهب لعمله. بعد دقائق معدودة نحسبها يوم عملٍ وفق توقيت اللعبة، يعود من عمله فأستقبله بالبوسة ذاتها. تقوم ربى وأسمى بالمِثل.
هكذا، بطمس الشفاه، بختانها، نتمكّن من ممارسة هذه الحميميّة الضالّة. علّلناها: الرجالات لا تبوس بعضها البوش آ بوش، ولا النساء، ولكن البوش آ بوش لا يُحتسب، لا بل يُغتفر، إن توارى كِلا البوشَيْن. بوش آ بوش.
كان طمس الشّفاه مؤقّتاً. في إحدى اللّابوسات، نلتصق بجسدينا، نزمّ الشفاه ونستفيض لا-حراماً. تنساب أنفاس الأنفين دون شفاهٍ تردعها، نستنشقها ونمرّرها. أضعف ثمّ أستجمع قواي؛ أفلت عنان شفتيّ. ينقز تامر، ثم يبتسم، فتتحرّر شفتاه. نتذوّق طعم لذّةٍ سرعان ما تتحوّل مرورةً، بفعل الندم. نتعهّد ألا نعيدها. كالألسنة، للشِّفاه زلّات.
- دلّوعة دلّوعة.
يدوّي صوت رجل من جهاز لاسلكي.
- دلّوعة دلّوعة.
- إيه، دلّوعة سبيكينغ.
- شو عم تعمل الحلوة؟
- قاعدة، زهقانة.
- شو لابسة؟
- سوتيان وكيلوت... شوب.
- يقبرني اللّه.
- هههههه. انشاللّه.
- أيمتا رح شوفِك؟
- صعبة، أهلي ما بيخلّوني إضهر.
مع مين عم تحكي ولي؟ يصرخ رجل بجنب دلّوعة. تقفل اللّاسلكي بوجه المعجب.
نفرط أنا وحيدورة من الضحك، فخورين بنجاح هذا الأداء.
اقتنى حيدورة جهاز لاسلكي وأصبح الجهاز تسليتنا. نقلّب بالموجات ونتحدّث مع غرباء. أستلم الحديث مرّة فيحسبني شابٌّ صبيّة. أغتاظ من هذا الظنّ وأنا في خضمّ معركتي ضدّ توصيف «الإنتاية» الذي ينهال عليّ يميناً وشمالاً. المشية والطلّة والسلوكيات والإيماءات أسهل، تُلجم، تُطوّع نحو المتوقّع، تؤطّر بالمألوف. لكنّ الصوت يبقى معضلة. تفشل محاولات تخشينه وترجيله، فتأتي مبالغة أو كوميدية أو قصيرة المدى تعوز استراحة لالتقاط النفس أو للتفكير بكيفية نطق الجملة التالية. يكون الأكثر نعومةً على التليفون، والآن اللاسلكي.
أقول له إننّي شابّ، فيغيّر الموجة.
يدخل شابٌّ آخر على الخطّ. نتحدّث. «كيفِك؟» لا أكذّبه وأذعن لصوتي، تغمز الصنارة. نتغازل ثم نتواعد على نفس الأثير في اليوم التالي. نكمل أنا وحيدورة التقليب بين موجة وأخرى، بين معجب ومتيّمٍ.
في مطلع الألفية، اشتهرت «دلّوعة البقاع» في العوالم اللاسلكية، مدغدغةً مخيّلة شبابه الجنسيّة بإضافة صوتية تعزّز مشهداً ذكورياً بحتاً، من جهة، فيما تنسلّ جنسانية مختلفة، من جهة أخرى.
من اللاسلكي يُزهر الافتراضي، فأترك البقاع الأوسط لأُوصل مواصيلي إلى بقاع الأرض مستخدماً مواقع إلكترونية مثل MIRC وgaydar.
الأوّل لاسلكي نصّي، يطمس الصوت وقرفه. تمام.
والثاني أيضاً يحيّد عن الصوت، ولكنّه يصبّ بالصورة، فتزخر صفحات الشبّان بأجسام وعضلات ـ وأحياناً بوجوهٍ خصوصاً عند الأجانب ـ تفتل القلب. تخلو صفحتي من أي صورة.
يطلب منّا الأستاذ في أوّل صفّ فوتوغرافيا أن نستخدم فيلماً أبيض وأسود لالتقاط بورتريه لشخصٍ من اختيارنا، وتُعرض أعمالنا كـslideshow على الشاشة في ردهة القسم في الجامعة. تصوّرني صديقتي صورة بروفيل وأنا أضحك. تعطيني نسخةً عن صورتي.
لم يستمِل بروفايلي على gaydar الحجّاج الهائمين وهو بدون صورة، وكأنّي أتعاطى معه كـwalkie بدون الـtalkie. بعد فترة من الحيرة والتَّوق، أقرّر أن أحمّل صورتي الجديدة بنفحتها الإنترناشونال كـprofile pic. لم أقوَ على عرض نفسي على الملأ هناك ولم يطمئنّي منطق من يراك على gaydar هو أيضاً على gaydar. أفتح الصورة على تطبيق paint وأرسم مربّعاً أسود فوق وجهي، أستحي عليه.
لا يراسلني أحد.
أستحي عليه أقلّ وأقلّص المربّع إلى مستطيل أسود رفيع فوق عينيّ. يبدو كخرقة ترتق صورة، صورة تُعرّي الوجه فيصبح عرضةً للتصدّع. يتحسّب الترقيع هذا أيّ تسرّب فيحبسه ويحفظ ماء الوجه.
أحمّل الصورة وأجرّب عن جديد.
ما شفتيش الصورة دي قبل كده؟ يسألها الطبيب وبيده لوحة القماش التي وجدَتها صدفةً في جارورٍ لها.
شفتها، رؤوف ورّاهالي كانت في مجلّة، تجيبه ناهد وهي مستلقية على سرير الفحص.
تقطع الكاميرا سريعاً إلى صفحة مجلّة فيها صورة عن اللوحة.
ناهد وخطيبها رؤوف على طاولة في جنينة، يشربان الشاي، بيدها المجلّة.
- دي الصورة فيها شبه كبير منك يا ناهد. تعرفي انّها سلّتني طول السكة في الديزيل وانا جاي.
- صحيح فيها شويّة شبه منّي.
- بس إنت أجمل وأحلى.
تبتسم بخجل.
- الخيال دايماً أجمل من الحقيقة.
تتشوّق لرؤية اللوحة، فيذهبان إلى صالة الفن.
- ناهد! أهي.
تلتفت ناهد وتزوّم الكاميرا على اللوحة. تتفحّصها من أعلى إلى أسفل. تكشّر ناهد وجهها.
- رؤوف، يلّا أنا حاتخنق من الزحمة.
نعود إلى عيادة الطبيب النفسي. يمسك حقنة ويقترب منها. يسألها إن تضايقت من الزحمة أو من الصورة.
لا تعرف. يعطيها الحقنة، تتنشّط ذاكرتها.
- الصورة. الصورة ضايقتني. بقى متهيّألي إنّها بتبصّلي وبتكرهني.
- طب مين اللّي جاب الصورة عندك وخبّاها في الدُّرج؟
- مش فاكرة. مش فاكرة.
- حاولي تفتكري. مين يا ناهد؟
- مش فاكرة. مش فاكرة...
تقطع الكاميرا إلى صالة الفن في الليل على صدى «مش فاكرة.» تمشي ميرڤت صوب اللوحة. تضع الشمعة من يدها وتقصّ قماش اللوحة عن الإطار.
- !Kamashtak
رسالة من كلمة واحدة تصلني على gaydar. أفتح بروفايل المرسل لأجده فارغاً، لا كلاماً ولا صوراً. أرتاب، تعرق كفّاي وأردّ:
- ?Meen? Ba3erfak
يجاوبني:
- ?Ana ba3erfak. Baddak ni7ki aktar? MSN
أتردّد. لا أعطي أم. أس. أنّي إلّا في مرحلة متقدّمة من الدردشة والإعجاب، وأكيد لا أعطيه بدون صورة واحدة بالمقابل، على الأقلّ.
أرخي قوانيني فالوضع متشنّج.
تنتقل علاقتنا إلى الـMSN. هناك أسأله:
- ?Kif bta3rifni
- Min your pic. Kint 7ases inno ra7 le2ek 3a gaydar
- ?Leish
- Mbayyan gay. Bil jem3a b2oulou saffkon killo baneet, mish 29 bint w sabi
- I’m not gay
- ?Sho 3am ta3mil hon lakan
لا أعرف كيف أردّ، ولا أعرف لماذا أنكرت. لم يقلها لي أحدٌ من قبل بهذا الشكل المباشر، ونحن الذين كنّا قد اعتمدنا المعَوْفَق.
- ?Who are you
- Mish ra7 2illak 2ella iza 3tarafet innak gay
متنمّري يريد مصلحتي: مصالحتي مع نفسي وتلقيني دروساً عن وضعيّات تنفعني.يا ابن الكلاب. لا أردّ.
في اليوم التالي، أفتح خزانتي في استديو الجامعة لآخذ معدّات الرسم. أجد فيها ظرفاً مربّعاً ورفيعاً ليس لي، مع أنّ اسمي عليه مع خطّ تحته: OMAR
أفتحه وبداخله سي دي أنتظر انتهاء صفوفي بفارغ الصبر. عند المساء، أدخل السي دي في الكمبيوتر. عليه كوكتيل أفلام بورنو شواذّ.
متنمّري يريد مصلحتي: مصالحتي مع نفسي وتلقيني دروساً عن وضعيّات تنفعني.
تدخل ميرڤت عيادة الدكتور النفسي، تغمره وتحاول إغراءه. ينزع يديها من على رقبته ويقول:
- ناهد!
- ناهد؟ ليه بتجيب سيرتها؟ إنت عايزني انا ولا عايزها هي؟
تضع يديها على وجهه. يبعدهما وينبر بحزم:
- ناهد!
- إنت ليه مش عايزني؟ اشمعنى إنت؟ اشمعنى إنت؟
تصرخ محاولةً تقبيله.
- يا ميرڤت سيبيني أتفاهم مع ناهد.
- إنت عايز تقلها إيه؟ دي دمّها تقيل. بكرهها!
يواسيها بأنّ ناهد تحبّ ميرڤت. لا تقتنع.
- أنا عارفة، أنا عارفة إنّها بتجيلك عشان عايزاك تموّتني، عايزة تموّت ميرڤت. وميرڤت مش ممكن تموت، مش ممكن…
- لا بتحبّك، تحبّي تتأكّدي؟ أنا حندهالك هنا عشان تشوفيها بنفسك.
يمشي نحو الباب، ترتعب ميرڤت، تلحقه وتلقي بجسمها على الباب حتّى لا يفتحه: أنا مش عايزة أشوفها! ما قدرش! ما قدرش!
- طب خلاص، بلاش. أنا عايزك إنت تهدي. مش حتشوفيها. تعالي معايا.
يمسك بيدها وجسمها يرتعش. يُجلسها على الكرسي.
تتوه، تصفن، تلتفت حولها وتسأله:
- أنا إيه اللّي جابني هنا؟ ده رؤوف مستنّيني في البيت.
تقف وتنتبه للفستان عليها، تمرّر يدها على الترتر الأحمر، على صدرها المكشوف، وعلى الباروكة الطويلة.
- إيه الفستان ده يا دكتور؟ أنا لبسته ازّاي؟ إيه اللّي حصل يا دكتور؟ مين اللّي جابني هنا؟
آخذ السي دي وأذهب إلى أمين سرّي وصديق طفولتي جاد في مساكن الطلبة في حرم الجامعة.
أخبره ما حدث، يشاهد مقاطع من الأفلام.
- جود ستاف عمّورة.
- يا شحاري. مش هيدا الموضوع.
- فيني خلّي السي. دي. لأنسخه؟
- فيك. بدّي ياك تساعدني أعرف مين هالحيوان. لازم يكون من الجامعة لأنّو عرف صورتي.
- شو بعمل؟
- ابعتلو من بروفايلك على gaydar واتحشّر فيه. إغريه. وبعد كم مسج طلوب إنكن تلتقوا. بس ما تجيب سيرتي.
كانت خطّة محكمة. يشتغل جاد شغله وهو خبير النغنشة والغزل والتلاقي والسكس، تحت الاسم المستعار toyboy.
نلتقي بعد أيّام ويخبرني أنّه التقى بالشابّ.
- بتعرف؟ حسّيتو مهضوم.
- إيه شو اسمو؟
- اسمو هاني.
- هاني؟؟؟؟
أُصعق. هو في نفس القسم معي في الجامعة. لم يخطر لي أن أدرجه في لائحة المشبوهين، كان آنذاك شاباً هادئاً خجولاً وقليل الكلام، تحت الرادار.
مع ذلك، أفرح بنجاح الخطّة وبالمَمسك الذي مسكته عليه. تمضي الأيّام بعدها ولا أعلم ماذا أفعل بهذا المَمسك. لا أواجهه إطلاقاً، وكأنّي استلذذت، وارتحت، بمجرّد المعرفة.
يزورني جاد مراراً في مبنى الجامعة، وفي إحدى المرّات يرانا هاني سويّاً فيستدرك أنّنا أوقعناه بشباكنا. يومها علم أنّي أعلم، فأصبحت اللذّة أكبر، من نوع آخر: لذّة رؤية العار يعود ويسكن من استعمل التعيير سلاحاً.
يرنّ الهاتف في غرفة رؤوف.
- أيوه؟ هه؟ واحدة عايزاني؟ مين؟ ما تعرفش؟ طب أنا نازل.
ينزل إلى ردهة الأوتيل، ويجد المرأة التي رآها في اللوحة، التي سلّته طول السكّة في الديزيل، أمامه في أرض الواقع.
- ناهد؟ إيه الّلي عاملاه في وشّك ده؟
- فاكر ميرڤت يا رؤوف؟
- ميرڤت؟
- أيوه ميرڤت اللي كلّمتك في التلفون وسرقت التمثال وبعتتلك الجواب؟
- إيه معنى الكلام ده يا ناهد؟
- أنا مش عارفة أقلّك إيه. أقلّك زيّ ما قلّي الدكتور، إنّي ليّ اسمين وليّ شخصيتين، أقلّك إنّي كنت معاك ناهد ومع غيرك ميرڤت. أنا ما كنتش عارفة أي حاجة من اللّي كنت بعملها، مع انّي عملت حاجات فظيعة، فظيعة.
تفرط بالبكاء ويمشي بها إلى كنبة قريبة. تجلس وتعترف:
- رؤوف، أنا عارفة إنّي اللّي حقولهولك صعب عليك زيّ ما هو صعب عليّ، بس أنا ما اقدرش أخبّي عنّك حاجة، ما اقدرش أكذب عليك يا رؤوف. أنا كنت بخرج بالليل واسهر مع رجّالة، واصحى من النوم من غير ما افتكر أي حاجة. الليلة بس عرفت الحقيقة كلّها. الدكتور قلّي إنّي ميرڤت ماتت، لكن بعد إيه؟ يا ريتني متّ أنا كمان. يا ريتني متّ قبل ما اعرف أيّ حاجة. سامحني يا رؤوف، سامحني.
تخلع الدبلة من اصبعها، تضعها على الطاولة، وتمشي.
في كريشندو العار هذا، المصحوب بموسيقى درامية، تخرج ناهد إلى الطريق الضبابي. يلاقيها والداها بالسيارة. تنزل الأمّ إليها، تخلع جاكيتتها لتستر بها ابنتها. يخرج رؤوف ليرى ناهد بحلّة ميرڤت تركب السيّارة. يتعذّب، ولكن لا يحرّك ساكناً. تبتعد سيارتهم ويمشي هو نحو سيّارته.
أحاول أن أساير الدراما وأن أتأثّر بهذا المشهد الذي يلامسني، أنا الذي أيضاً كنت بخرج بالليل وأسهر مع رجّالة، واصحى من النوم من غير ما افتكر أي حاجة. تدمع عيناي، أحاول أن أبكي، فأتثاءب.
صور وفيديو: عمر مسمار
العار كثير الحضور في حياتنا. هو حالة شعورية تسيطر علينا في أكثر اللحظات حميميّةً، لكنّه أيضاً مصطلح فكري نعود إليه عقب التحوّلات التاريخية الكبرى. هو حاضر أيضاً في اللغة التي تكثر فيها عبارات مشتقّة عن الخجل والحياء، والتي تتناول العين والوجه مسرحاً للعار الفردي والجماعي.
يطرح ملفّ «العار والحياء» أسئلةً حول كيف نتلقّى نظرة الآخر الرافضة؛ كيف نستدخلها فتتغيّر نظرتنا إلى ذاتنا؛ كيف نعيش العار فردياً وجماعياً في لحظات شديدة الخصوصية وأخرى تاريخية؛ كيف نجاهر بالعار أو نستخدمه أداةً لضبط الذات أو لتأديب الآخر. يقرأ كلٌّ من أحمد ناجي، وزينة الحلبي، وأنجيلا بروسيل، وعمر مسمار، وريما رنتيسي وفريق الإعداد في ميغافون العار في مقاربات نثريّة وبصريّة مختلفة، إضافةً إلى أوّل ترجمة عربية لنص سيلفان تومكينز التأسيسي الذي وصف العار بـ«مرض الروح» وصور غير منشورة من مشروع «التخيلات الجنسية» لميريام بولس.
حرّرت الملف زينة الحلبي لميغافون وفَمْ-مجلة بيروت الأدبية والفنية، بدعم من مؤسّسة آفاق.
اخترنا لك
آخر الأخبار
مواد إضافيّةتهديد إسرائيلي لمبنيَين في الغبيري وآخر في حارة حريك
نشر المتحدّث باسم الاحتلال الإسرائيلي خرائط تهديد جديدة، تطال مبنىً في حارة حريك قرب مسجد الرضا، ومبنىً مقابل روضة الشهيدين في الغبيري وآخر مقابل المدافن الجديدة. تُسمع الآن طلقات نارية في محيط المباني المستهدفة لتحذير السكّان، وهذه هي موجة التهديدات / القصف الثالثة التي تطال هذه المناطق اليوم.