من الأوّل: عن الياس خوري وله وإليه
14
دقيقة

من الأوّل

لست أدري متى وكيف بدأ الأمر وكيف صرنا نناديك «عمّو الياس». أغلب الظن أنّ هذه التسمية أتت منك، ففي سنواتك الأخيرة صرت تنادي الشابات والشباب من حولك ممازحاً بكلمة «عمّو»، لا تصغيراً لمن حولك، ولكن استهزاءً بالعمر الذي نال من جسدك ولم ينل من روحك. بدورنا، صرنا نردّ لك الصاع صاعَيْن ونناديك تحبُّباً بـ«عمّو الياس»، لذلك اسمح لي أيها الشاب السبعيني الذي زاده الموت ألقًا وحضوراً، أن أسمّيك في هذه السطور وداخل هذه الحكايات كما تعوّدت أن أُسمّيك دائماً: عمّو الياس.

يوم جنازتك وصلنا إلى مقبرة «مار الياس» في بيروت، مشينا خلفك في دروب المقبرة، وعندما همّوا بإدخال التابوت الى القبر، خفت أن تأخذك منّا طقوس الموت سريعاً من دون ان تسمعها تلك العبارة في رحلتك الأخيرة، فلم أتمالك نفسي وناديتُك بأعلى صوتي من بين الحضور: عمّو الياس... من الأوّل. 
لم أنتظر جوابك، وكيف أنتظر جوابك يأتيني من داخل النعش؟ فالموتى لا يتكلمون، أما الحكاية فكما علّمتنا تتكلم ولا تموت. الحكاية تغرق موتنا بالكلام. الحكاية تولد من بطن الحكاية وتزيح الموت عن صدورنا. 

في المقبرة، اقتربت مني صديقتي رلى وسألتني: ليش ناديت «من الأوّل»؟ 
قلت لها: إنه يونس في باب الشمس. إنه الياس في بيروت...

لم أكن في تلك اللحظة الحزينة أبحث عن التشبيه السهل، فأنا لست أدري إلى اليوم إذا كان يونس في رواية باب الشمس هو الذي يشبه الياس، أم أن الياس هو الذي يشبه يونس! كل ما عرفته وخبرته في مواكبتي لك وعملي معك على مدى ربع قرن، أنّ الحكاية تتماهى مع الواقع والواقع يستعير الحكاية، وأنّ لا حدود بين الياس ويونس، إلا ما يفرضه تلكّؤنا في أن نحكي حكاياتنا وننتزعها من براثن الموت والنسيان. 
يقول أوّل الحكاية إن يونس شبه ميت ممدّد على سرير المشفى، ولا أمل بإيقاظه. ويقول أوّل الحكاية إنّ الياس بقي ممدّداً ومتألّماً على سرير المشفى لأكثر من عام ولم ننجح في إنقاذه.  
الموت حقّ، ولكن للحكاية حقّ علينا. 

في باب الشمس تقول راويا عن يونس بلسان خليل:

هل تذكر حين كنت تقول من الأول، وتضرب رجلك في الأرض. هل تذكر ماذا فعلت بعد استقالة عبد الناصر عام 67. كان الناس يتجمعون في أزقة المخيم ويبكون. كان ليل ورطوبة وأشباح تبكي في العتمة. يومها وقفت في وسط الناس، وبصقت أرضاً، وقلت من الأول. 
وبعد 1970، وعودتك سالماً من مذبحة الأحراش في جرش وعجلون. وقفت في المخيم، وقلت للمرأة التي جاءت تسألك عن ابنها، «من الأول يا امرأة». لم تقل لها إنّ ابنها مات، بل قلت من الأوّل ومشيت.
وبعد دخول الإسرائيليين بيروت. وبعد... وبعد... وبعد...، كنت تبصق كأنك تمحو الزمن، وتقول من الأوّل.  

من الأشرفية إلى الفدائيّين

وبعد… وبعد… يا إلياس أتريد الأوّل؟ إذن لنبدأ الحكاية من أوّلها: كان أو ما كان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، كان فتى اسمه الياس، ولد في عام النكبة، ونشأ وترعرع في حي الاشرفية في قلب بيروت لعائلة مسيحية أرثوذكسية ربّت أبنائها وبناتها كما يحلو للأساطير المُؤسِّسة أن تردّد على أنّهم كانوا عرباً قبل أن يأتي الإسلام والمسلمون، وظلوا عرباً مع الإسلام والمسلمين. في الأشرفية، جبلك الصغير، تعرّفت في حكايات جدّتك على نديمك الأول امرؤ القيس، الشاعر والأمير المسيحي العربي، قبل أن تقرأ عنه في أمّهات الكتب. 

في هذه الأجواء البيروتية المسكونة بما تبقّى من أفكار النهضة العربية عشت وترعرعت بين الطوائف والمذاهب، ناشداً الدين لله ومحاولاً الوطن للجميع. دخلت حركة الشبيبة الأرثوذكسية وعمرك لم يتجاوز الأربعة عشر عاماً، وبدأت تجربتك في الكتابة في مجلتها «الكلمة» قبل أن تلتقي بمعلمك الأول مؤسس الحركة المطران جورج خضر الذي دلّك منذ اليوم الأول أن المسيح لا يرقد في المغارة ولكن في خيام اللاجئين وآلام المضطهدين، وعندما أتيته في أواخر الستينيات مفاتحاً: بعدما أنتهي من البكالوريا سوف ألتحق بالعمل الفدائي وأنا مخجول منك يا سيدنا لأنه هيدا حرب، أخذك في حضنه مجيباً: «متل بعضا، ما تخاف، المسيح كان أول فدائي».

لا لم تخف ولم تتردّد، وصرت بعد هزيمة الـ67 فدائياً في فتح ومن ثمّ في كتيبتها الطلابية «الجرمق»، وغدوت طالباً جامعياً وناقداً أدبياً في جرائد بيروت ومجلاتها الأدبية كمجلتي «الآداب» و«مواقف» التي أصبحتَ أصغر أعضاء هيئتها التحريرية، قبل أن ترافق صديقك الأقرب محمود درويش الواصل لتوّه إلى بيروت في مغامرته التحريرية في رئاسة مجلة «شؤون فلسطينية»، ماضياً هو في بناء معلقته الشعرية، وماضياً أنتَ في صناعة معلقتك الروائية.

صحيح أنّ الكتابة أبعدتكَ شيئاً فشيئاً عن الخنادق وقرقعة السلاح، لكنّكَ عرفتَ منذ اليوم الأوّل كيف تجعل قلمك حجّةً وضميراً على انتهاكات الرفاق، قبل الأعداء، في حرب أهلية لبنانية أكلت الأخضر واليابس لكنها لم تأكل من استقلاليتك ومن انحيازك إلى جانب المضطهدين والمهمّشين.

كانت إصابتك بانفجار قذيفة البازوكا التي تركت أثرها على نظرك، ومن بعدها استشهاد صديقك الأقرب ابن بيروت محمد شبارو في معارك جبل صنين في 26 تموز 1976، نهاية عهدك بالقتال وبحمل السلاح، لكنها كانت بداية عهدك بإبقاء ذاكرة الوفاء للفدائيين ولفلسطين حيّةً في لبنان، لذلك لم يكن غريباً أن تسمّي ابنك باسم محمد شبارو الحركي «طلال». وكما يحدث في الروايات تشاء الصدف أن يصبح طلال خوري مصوِّراً سينمائياً مكرَّساً، كما كان محمد شبارو يحلم أن يصير لو لم يخطفه الموت من على قمم جبل صنين. 

لا لم أكن بجانبك في تلك الأيام، هي حكاية سمعتها عنك أو منك، ولربما قرأتها هنا أو هناك، لست أدري!

في كلّ هذه المحطات، لا أعرف إن كنتَ تضرب رجلك بالأرض وتبصق لتمحو الزمن ولتبدأ من جديد. لكني أكاد أجزم أنك في كلّ مرّة قلت لنفسك ولمن حولك: من الأوّل.

زمن الاحتلال

«من الأوّل»، قلتَها وأنتَ تترك جريدة السفير وقسمها الثقافي في العام 1981 احتجاجاً على التضييق عليك لمواقفك المعارضة للهيمنة السورية على لبنان ومحاولة وأد القرار الفلسطيني المستقلّ.
«من الأوّل»، قلتَها مجدّداً، عاليةً وصاخبةً، في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي للبنان واحتلال بيروت، عندما عدتَ مجدّداً للكتابة في جريدة السفير بداية العام 1983 مدشِّناً سلسلة المقالات التي صدرت تحت عنوان «زمن الاحتلال». يومها كان يُنظَر لك بين زملائك أنّك مشروع شهيد، لجرأتك في الكتابة متحدِّياً الاحتلال وعملاءه، ومؤكِّداً على الحقّ في الوطن والحقّ في المقاومة، ومعرِّياً محاولة النظام السوري وحلفائه تدجين هذه المقاومة. ويقال إنّ طلال سلمان، رئيس تحرير السفير، كتب في تلك الأيام نعوتك، لقناعته أنهم سينالون منك في النهاية، ولم ينالوا. 

وأتى حصار وحرب المخيمات في منتصف الثمانينات. لم ترضَ يومها الامتثال لقواعد الصمت والتواطؤ التي فرضها النظام السوري وحركة أمل على المثقفين والإعلاميين اللبنانيين تجاه الحصار والتجويع الذي تتعرّض له المخيمات، فكتبتَ ورفعتَ الصوت عالياً، لا بل يقال إنّك، تسلّلتَ عدّة مرّات إلى داخل مخيم شاتيلا المحاصر للقاء قائد معركة صموده علي أبو طوق، صديقك ورفيقك منذ أيام الكتيبة الطلابية. فعلتَ يومها ما يفرضه عليك ضميرك ووفاؤك لأصدقائك، لا بل فعلت ما فعله توأمك يونس في رواية باب الشمس متسلِّلاً من جنوب لبنان إلى الجليل. ومع انتهاء الحصار واستشهاد علي أبو طوق، خضتَ رغم أنف المخابرات السورية وحركة أمل، معركة إعادة تأهيل المقبرة الجماعية لشهداء شاتيلا وشهداء حصار المخيمات، وجعلتَ من ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا مناسبة سنوية للذكرى والتذكّر ولوضع أكاليل الورود على قبور الشهداء، يلتئم من حولك في المقبرة الكثير من الوجوه الثقافية والاجتماعية الى جانب من تبقّى من أهالي المخيم في فعل تحدٍّ للتواطؤ والنسيان. 

الذاكرة والملحق ومسرح بيروت

في كل تلك المحطات، ربّما، كنتَ تبصق كأنك تمحو الزمن وتقول وتردد عبارتك الأثيرة «من الأول». لكنك في كل هذا، لم تكن تريد أن تمحو الذاكرة، بل كنت تريد انتزاعها من عبث تجار الذاكرة والحروب، لذلك عندما حطت الحرب الأهلية اللبنانية رحالها وأتى زمن اتفاق الطائف وسلام زعماء الطوائف والمليشيات بداية التسعينات، وبدأ مشروع إعادة إعمار بيروت وما تضمّنه من طحن للأماكن ولناسها ولذاكرتها، أدركتَ مبكراً فداحة هذا التحالف بين الأمن المخابراتي السوري ورأس المال تحت خيمة التوافق السوري السعودي. 

تزامن ذلك مع إعادة افتتاح «مسرح بيروت» تحت إشرافك وعودة «الملحق» للصدور عن جريدة النهار وتبوّؤك لرئاسة تحريره بطلب مباشر لا يتجرّأ عليه، إلا مغامر بيروتي آخر هو غسان تويني، الذي استشفّ أهمية أن تضمّ جريدته هذا الجيب اليساري التنويري. يومها أدركتَ فداحة وخطورة التحديات الثقافية والسياسية التي تنتظرك، وتنتظرها، هنا في مدينة بيروت التي أردتَ لها أن تعود عاصمةً للثقافة العربية الحرّة في مواجهة أنظمة الاستبداد العربي، في حين أراد لها بعض حكامها أن تتحوّل إلى مدينة للخدمات السياحية والمالية للدول النفطية في ظلّ سلام شرق أوسطي منتظَر لم يأت أبداً. يومها لم تقل «من الأول»، بل أوردتَها بعبارة «نبدأ من جديد» التي تصدّرت مقالك الأول في الملحق بتاريخ 14 آذار 1992، كتبتَ يومها: 

نبدأ من جديد. هكذا تعلمنا أن نعيش في بيروت. نبدأ حيث تبدو النهاية في كل مكان. نبدأ في النهاية لأن لا نهاية إلا الموت، ولا موت في بيروت… كل هذا الموت الذي حاصرنا خلال سنوات الحرب الطويلة، تحوّل إلى حكاية. وفي الحكايات لا وجود للنهاية. 

ومع الملحق ومع مسرح بيروت، وبوجود الياس خوري، لن يكون هناك موت في بيروت، بل ثقافة وإبداع وتمرّد وتفكير خارج الصندوق. من الانفتاح على التجريب والحداثة والأفكار النقدية في كل مجالات الأدب والفن والأفكار، إلى الانحياز للأجيال الجديدة وللفئات المهمّشة والمضطهدة، إلى مواجهة العسف السياسي والطائفي وهيمنة المخابرات السورية، إلى معركة الدفاع عن الحريات العامة، إلى إعادة صياغة فكرة فلسطين في بيروت بوصفها قضية كونية، الى استعادة اليهود العرب كجزء من بنيان الثقافة العربية.

أتذكر كيف حالت التهديدات دون قدوم الكتاب والمثقفين العرب اليهود المعادين للصهيونية لبيروت للمشاركة بندوة عن اليهود العرب ضمن نشاطات عديدة في الذكرى الخمسين للنكبة نظّمتَها في مسرح بيروت في العام 1998. يومها، وكما هي عادتك دائماً، لم تخضع للتهديدات ولم تُلغِ الندوة بل أبقيتَ على كراسي إبراهيم سرفاتي ونعيم قطّان وسليم نصيب وشمعون بالاص شاغرةً على المسرح، وأفهمتَ الحاضرين أنّ علينا أن نبدأ «من الأول»، وقرأت مع صحبك بعضاً من نصوصهم وحوّلتَ غيابهم حضوراً، وذكّرتَ الجميع أنّ الوجه الآخر للنكبة ولتهجير الفلسطينيّين، هو نجاح الصهيونية بتواطؤ مع الأنظمة العربية، بتهجير مئات ألوف اليهود العرب من بلدانهم إلى فلسطين.

لبنان وفلسطين وسوريا

منذ نهاية التسعينات من القرن المنصرم، وبداية كتابتي في ملحق النهار، تعرّفتُ إليك عن قرب، وأدركتُ متعة أن يخوض المرء الى جانبك معاركه الصغيرة، الخاسرة منها والرابحة، في سبيل الحياة إذا استطعنا لقضايانا العادلة سبيلاً. كان ذلك عشية النزوع الأخير للديكتاتور وتهيئة ابنه للتوريث. لم يكن الشأن الداخلي السوري بعيداً عن دائرة اهتماماتك، وكيف يكون وأنتَ لطالما خبرتَ أن قضية الديمقراطية والحريات في العالم العربي، لا يمكن لها أن تكون متعارضةً مع حرية فلسطين أو استقلال لبنان. كنتَ تدرك وتعرف باكراً أنّ الاستبداد هو أقصر الطرق التي تؤدي إلى الاحتلال والهيمنة وانهيار البلدان.

لكن بالله عليك دعنا من كلّ هذه الكلمات الفضفاضة، فبلاد الشام كما كان يحلو لك أن تسمّيها، كانت بكلّ بساطة امتدادك وكانت بلادك. يومها كان العديد من المثقّفين والصحافيين اللبنانيين المعارضين للوجود السوري في لبنان يخافون أن تطأ أقدامهم الشام، أما المؤيدون، وما أكثرهم، فكنا نراهم يتوافدون فرادى وجماعات للقاء الرئيس أو الوريث أو للقاء مستشاري القصر وكبار ضباط المخابرات. أما انت، فكنت تستقلّ التاكسي بكل بساطة من بيروت لدمشق، وتأتي لزيارة أصدقائك، من دون أن تستأذن أحداً ومن دون حتى أن تستعلم إن كان اسمك سُطِّر في لائحة المطلوبين على الحدود! تأتي لزيارة أمكنة تصوير الجزء الأول من فيلم «باب الشمس» في الساحل، وتلتقي في الموقع بيسري نصرالله وأسامة محمد، أو تذهب لدمشق لزيارة عبد الرحمن منيف أو للقاء رياض الترك، وتغادرنا في المساء أو في اليوم التالي وحيداً لبيروت. 

لم يكن غريباً أن ينشر الملحق في ذلك الزمن، أوّل لقاء مع رياض الترك غداة خروجه من سجن طويل امتدّ 18 عاماً، وأن يفتح صفحاته تباعاً لملف الحريات والاعتقال السياسي في سوريافي ذروة هيمنة المخابرات السورية على لبنان، وفي ظل إصرارك، وإصرار الكثير من المثقفين السوريين واللبنانيين، على زعزعة هذه الهيمنة في سوريا كما في لبنان.

وبعدما نشر رياض الترك في الملحق مقالته الشهيرة والجريئة «من غير الممكن أن تبقى سوريا مملكة للصمت» في 18 تموز 2000، عشية خطاب القسم وانتهاء مسرحية التوريث، كان لديك إصرار عنيد تجاه كلّ أصدقائك من المثقفين السوريين ألا يُترَك الترك وحيداً في محاولة كسر جدار الصمت والخوف. ولا أفشي سرّاً إن قلت أنّ نص بيان الـ99 مثقفاً سورياً، المطالِب بالحريات الديمقراطية والذي دشّن ربيع دمشق، وُلد في مكان ما من إصرارك العجيب على دفعنا لرفع السقف إلى مستوى التحدّي الذي مثّله آنذاك رياض الترك في مواجهة مملكة الصمت والخوف.

لن أنسى ما حييت يوم أتيتُكَ بداية العام 2001 حاملاً بجعبتي المقابلة المطوّلة التي أجريتُها مع الشاعر السوري فرج بيرقدار الخارج لتوّه من مسلخ سجن تدمر الصحراوي، أو كما سمّاه هو «مملكة الموت والجنون». تركتُكَ وحيداً في مكتبك تقرأ أوراق المقابلة وما تضمّنته من وصف لأساليب التعذيب الهمجية، ولآليات المقاومة بكتابة الأشعار في السجن وتدوينها في الذاكرة لغياب الورق. جلستُ بالخارج أنتظر انتهاءك من القراءة لسماع رأيك وملاحظاتك، ومن شقّ الباب لمحت من بعيد معالم وجهك تزداد احمراراً واحتقاناً، فالتفتُّ لزاوية أخرى وشغلتُ نفسي عنك. انتظرتُ طويلاً، من دون جدوى، أن يأتيني صوتك من الداخل، فتوجّهتُ للمكتب لأراكَ انزويت جانباً غارقاً بدموعك، تبكي بصمت وغضب. في الأسبوع التالي، صدر الملحق تحت عنوان «الحرية التي بداخلنا أكبر من السجون التي نحن في داخلها»، وكانت أول شهادة موثقة تخرج عن أهوال سجن تدمر وصاحبها لا يزال داخل سوريا.

في صيف العام 2001، سيكون لرياض الترك مداخلة على الهاتف في واحد من برامج قناة «الجزيرة» ذكّر فيها الشعب السوري ببديهيّةٍ حاول الجميع التواطؤ لدفع الناس لنسيانها، قائلاً بالحرف الواحد من داخل سوريا: مات الديكتاتور. وتمّ على إثر ذلك اعتقال الترك قبل أسبوع من بداية مهرجان أيلول الذي أدرتَه مع باسكال فغالي، وكان مقرّراً فيه تقديم العرض الأوّل لفيلمي التسجيلي «ابن العم» الذي أنجزته بتحريض منك، وقدّمتُ فيه تجربة الترك في الاعتقال في سجون الأسد الأب. تعرّضتْ إدارة المهرجان لضغوط هائلة حتى يتم إلغاء العرض في بيروت، قامت على أثرها الممثلة المسرحية نضال الأشقر، المسؤولة عن مسرح المدينة في بيروت، بنقض العقد الذي وقّعتْه مع مهرجان أيلول رافضةً عرض الفيلم. ولم تتجرّأ أيّ صالة أخرى على عرضه، رغم المساعي التي بذلتْها باسكال مع العديد من الأطراف. بالنسبة لك كان الموضوع محسوماً، لا يمكن لبيروت إلا أن تعرض الفيلم مهما كلّف الثمن، وعلينا أن نبدأ كلّ شيء «من الأوّل». وبطلبٍ منك، لم يتردّد الفنان المسرحي روجيه عساف وفتح لنا «مسرح بيروت»، الذي بات يشرف عليه، وتحمّل معنا الضغوط التي مورست لإيقاف العرض. أمّا أنت، فكان همُّك تأمين أماكن سرّية بديلة في المدينة نتوجّه إليها لمشاهدة الفيلم، في حال قامت قوى الأمن بمداهمة المسرح ومنعتْنا بالقوّة من عرض الفيلم.

ومن الأوّل ابتدأ كلّ شيء، من حيث أراد له الاستبداد أن ينتهي. فبعد حملة الاعتقالات التي طالت رموز ربيع دمشق، أخرجنا عدداً من الملحق تحت عنوان «هل انتهى ربيع دمشق»، خصّصناه بأكمله لمقالات الكتاب والمثقفين السوريين في محاولة الإجابة عن هذا السؤال. وبعدها، أبقيت صفحات الملحق مفتوحة للتذكير بقضية معتقلي ربيع دمشق وللمطالبة بالإفراج عنهم. لا بل ونظمت بالاشتراك مع مجموعة من الشابات والشباب تتقدّمهم الرائعة سهى بشارة، الخارجة لتوّها من سجون الاحتلال الإسرائيلي وعملائه، اعتصاماً في قلب بيروت في شارع الحمرا على تقاطع مقهيَي «الوينبي» و«المودكا»، للمطالبة بالإفراج عن رياض الترك في ذروة سطوة المخابرات السورية على بيروت، مبيِّناً مع صحبك، بالممارسة لا بالأقوال، أنه لا تعارض بين مقاومة الاحتلال ومقارعة الاستبداد ومواجهة الظلامية. 

اغتيال سمير وحرية بيروت

ذات مرّة أجبتَ سونيا ميشار في مقابلة أجرتها معك وضمّنتْها في كتابها عن رواياتك الصادر في العام 2001، متحدّثاً عن أفول دور بيروت في الثقافة العربية، وقلت: 

اليوم أشعر بأنني أعيش في بيروت. وفي الوقت نفسه، هذه ليست بيروت. لدينا هامش من الحرية لا يقارن في بعض النواحي بالدول العربية المجاورة، ولكن بيروت ليست مكاناً حراً. لو كانت بيروت مكاناً حراً اليوم لكان شخص مثل نصر حامد أبو زيد قد وجد منفاه في بيروت وليس في هولندا. لكان قد أصبح بيروتياً مثل أدونيس أو محمود درويش قبل الحرب. 

لا لم تكن بيروت في ذلك الزمن مكاناً حرّاً بالمعنى الكامل للكلمة، لكنّ فسحة الحرية المتبقية فيها كانت أوسع بوجود مثقفين من أمثالك في فضائها العام. ولم تمضِ شهور على هذه المقابلة، حتى كان الملحق ينشر مقابلةً مطوّلةً على ثلاث صفحات كنتُ قد أجريتُها مع نصر حامد أبو زيد، واخترتَ أنتَ العنوان العريض على الغلاف «القرآن نص تاريخي وثقافي»، في استعادة لأفكار أبو زيد التي كانت تشير إلى أنّ قدسية النص القرآني، يجب ألّا تمنعنا من البحث فيه كنصّ يحمل سمات ومعالم عصره في القرن السابع الميلادي. ولم يمضِ عام على تلك المقابلة حتى كان نصر حامد أبو زيد شخصياً في مسرح المدينة محاوراً ومحاججاً جمهوره البيروتي، بكل الحرية والشغف الذي منحتْه له بيروت.    

في 14 شباط 2005، استشهد الرئيس رفيق الحريري، ووقفتَ أنتَ الى جانب شعبك في ساحات 14 آذار ضد آلة القتل والتركيع والخوف. وأتى استشهاد حبيبنا سمير قصير في 2 حزيران 2005، فإذا بدائرة الموت تضيق من حولنا أكثر فأكثر. لن أنسى أبداً ذلك اليوم المشؤوم، حال وصول الخبر توجّهتُ الى مبنى النهار، حبستُ دموعي لحين وصولي إلى مكتبك، أغلقتُ الباب خلفي وانفجرتُ بالبكاء. لم تقُلْ لي شيئاً، تركتَني أبكي في الزاوية كطفل صغير حتى جفّت دموعي وتمالكتُ أنفاسي واستعدتُ توازني. عندها التفتُّ نحوك متسائلاً ماذا بعد؟ لم تتطلّع في عينيّ المحمرّتين، بل نظرتَ عبر النافذة نحو بيروت وأجبتَني بهدوء غريب وصوت عميق كأنك تحدّث نفسك: لا شيء… من الأوّل.

أتى بعدها اغتيال جورج حاوي وجبران تويني وكرّت مسبحة الاغتيالات. كنتَ في نظر الكثيرين على رأس قائمة المستهدَفين للدور الرئيس الذي لعبتَه في معركة الحريات ومواجهة الاستبداد، في سوريا قبل لبنان. وقتَها طلب منك الجميع أن تتّخذ الإجراءات الضرورية للحفاظ على أمنك الشخصي، لكنكَ رفضتَ بشدّة أن تغيّر شيئاً من عاداتك وتنقّلاتك ومكان إقامتك على عكس العديد من صحافيّي النهار، وبقيتَ تمضي كل صباح في سيارة السرفيس من الأشرفية الى مبنى النهار، تحرّر عدد الملحق، تشدّ معنويات مَن حولك، وتخطّ مقالك الأسبوعي، بذات نبرة التحدّي، وتعود نهاية اليوم وحيداً إلى البيت. وعندما كان يزداد إصرارنا أن تنتبه إلى نفسك وتتّخذ الإجراءات الضرورية، كنتَ تجيب بغضب بين الجدّ والمزاح: أنا فدائي والفدائيه ما بيخافوا الموت.

لا لم تهب الموت، لذلك عندما بدأ العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 2006 حاملاً معه الموت والدمار لأبناء شعبك، وقفتَ حيث يليق بأمثالك أن يقفوا، من دون أيّ لبس او تلكّؤ في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية، ومن دون أي مداهنة او تملّق أمام تجار المقاومة في سوريا وإيران. 

كانت بيروت تعيش بداية عصر جديد انسحبت فيه القوات السورية من لبنان، وتمّ فيه الانقضاض على مكاسب ثورة 14 آذار، وبسطتْ فيه إيران نفوذها من خلال الدور المحوري والمتعاظم الذي بات حزب الله يلعبه في السياسة الداخلية اللبنانية. 

كانت بيروت التي تعرفها تذوي، وتولد من أحشائها بيروت أخرى. وفي تلك الفترة تركتَ الملحق الأدبي لجريدة النهار، التي لم تعد تتّسع لأمثالك، وعملتَ، وعملتُ بقربك، لوضع حجر الأساس لمركز سمير قصير الإعلامي (سكايز)، قبل أن تعود لشغفك الأول فلسطين وتنتقل لإدارة مجلة الدراسات الفلسطينية. ترافقَ كلّ ذلك مع ضمور في الحياة الثقافية والفضاءات العامة في بيروت، واندثار تدريجي للصحف ودور النشر اللبنانية.

الثورات العربيّة والعودة من الأوّل

مع اندلاع ثورات الربيع العربي في العام 2011، عادت الروح تدبّ فجأة في أحشاء المدينة وعدنا إلى الأوّل. ومن الأوّل عدتَ لتضع فلسطين في قلب معركة الكرامة والديمقراطية والحريات التي كانت تخوضها الشعوب العربية، وخرجتَ علينا متحدّثاً وكاتباً عن عروبة الناس التي تولد بدل عروبة الأنظمة، عن الناس الذين يريدون أوطاناً للعرب كي تكون مكاناً للحرية والكرامة الإنسانية. كنت متحمّساً وممتلئاً بالأحلام والمشاريع، لكنّ تواطؤ الاستبداد العربي والقوى الظلامية لم يمهلنا طويلاً، وعادت الثورات المضادة لتُمعن فينا قتلاً وتدميراً وتشريداً. 

في زمن الثورات المضادة، زمن براميل بشار الأسد، زمن حرف النون الذي خطّته داعش على بيوت النصارى عندما اجتاحت مدينة الموصل، صار جرحك عميقاً وغائراً، وكتبتَ دامياً ومضرّجاً أنا نصراني في الموصل، أكتب النون بيدي على مدخل بيتي، وأقول للمغول تعالوا واطردوني. 

وفي النهاية تحاملتَ على وجعك، ووقفتَ كالجبل الشاهق والمكسور، ضربتَ قدمك بالأرض، ضربةً دفينةً وقوية، وبصقتَ بشدّة وجبروت، لكنّ بصاقك كان مالحاً ومرّاً هذه المرّة، وقلتَها من جديد «من الأول»، وكتبت: 

هذا الزمن الأرعن بكل ما فيه من مآسٍ ووحشية وجنون، يجب أن يزيدنا إصراراً على تأكيد القيم التي مات من أجلها رفاقنا وأصدقاؤنا الذين سقطوا في مواجهة الاستبداد والاحتلال والطائفية. يا ويلنا إذا تراجعنا أو أصابنا الوهن، يا ويلنا من عيون سمير قصير وعلي أبو طوق ومروان كيالي وحمزة الخطيب وباسل شحادة، يا ويلنا من آلام الروح وأوجاع الذاكرة.

لا لم تتراجع ولم تتخاذل في مواجهة القوى الظلامية والطائفية. وكما كنتَ وكتبت «أنا نصراني» في الموصل والرقة في مواجهة داعش وأخواتها، كنتَ وكتبتَ في لبنان، و بالخط العريض أنا الموقع أدناه، أعلن أنني صرت لاجئاً سورياً، في مواجهة موجات السعير الطائفي والعنصري التي أطلقتها بعض القوى السياسية ووسائل الاعلام اللبنانية تجاه اللاجئين السوريين. وعندما أمعن التيار العوني ورئيسه جبران باسيل في حملات التحريض ضد اللاجئين، كتبتَ مقالا في «القدس العربي» بتاريخ 17 حزيران 2019 تحت عنوان «في تعريف الزْمِكّْ»، شارحاً أنّ كلمة «زمِك» التي وصفت بها رئيس هذا التيار، هي الأكثر قدرة على التعبير عن الاحتقار والاستهجان والشعور بالغثيان في مواجهة العنصريين، ومبيِّناً، بالفعل لا بالقول، علوّ كعب الثقافة في مواجهة الطبقة السياسية اللبنانية ورموزها.

ثورة تشرين وهجرة الحفيد

وكرمى لعيون سمير قصير ورفاقه، ستعود للميدان شاباً مناضلاً، لا سياسياً متمرِّساً، غداة اندلاع ثورة 17 أكتوبر 2019 في بيروت، تعود لتقول للجيل اللبناني الشاب «من الأول»، فتصل صباحك بمساءك وأنت تشارك من أرض ساحة الشهداء في تنظيم الاعتصامات والتظاهرات، وكتابة المناشير والبيانات. هي برهة من الحرية والهواء الطلق، ستستعيد فيها مدينتك وتستعيدك شوارع المدينة وساحاتها، قبل أن ينقضّ النظام الطائفي والانهيار الاقتصادي وانفجار المرفأ على الأحلام والرغبات ويحيلها رماداً. أخالُكَ قلتَ لنا يومها: من الأول، فلا رماد في بيروت. المدن لا تموت ولا تولد من رمادها. ولكنها تعيش وتتجدد من أحلامها وناسها.

وفي كل هذه الخسارات لم تكن لك عبارة «من الأوّل» عبارة تقال او تُكتَب، بل تُعاش وتمارَس. وفي كل هذه الخسارات، ظللتَ واعياً أنّ الخسارة الوحيدة التي لا تُعوَّض هي خسارة الذات.  

بعد انفجار المرفأ، قرّر ابنك طلال وعائلته الصغيرة، كحال الكثير من الشباب اللبناني، الهجرة من بيروت إلى باريس. كتبتَ يومها، بالدموع لا بالحبر، مقالة «المهاجر الصغير» في وداع حفيدك الوحيد يامن، وبشّرتَه إن بيروت لا تستطيع أن تهاجر من بيروت، وأنها ستبقى على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض، فاتحةً ذراعيْها للغرباء الذين يشبهونه.

حفيدك يامن، برحيله عن بيروت، أخذ شيئاً من سحر مدينة الغرباء وروحها، لكنّكَ بقيتَ متشبِّثاً بما تبقّى من الروح وما تبقّى من المدينة، وظلّ لغز بيروت معك وبك حتى النهاية. وكما يحدث في الروايات التراجيدية الكبرى، تشاء الأقدار أن تكون بيروت وبحرها، بيروت وموتها، بيروت وتماهيك معها، موضوع مقالتك الأخيرة في «القدس العربي»، التي كتبتَها قبيل الجلطة التي نالت منك في 11 تموز، ونُشرت المقالة تحت عنوان «حوار مع البحر» في 17 تموز 2023. وفيها ناجيت مدينتك المنكسرة ورثيتَ نفسك بما يشبه النبوءة: 

من البحر، تكون المدينة المنكسرة هي الإشارة الأخيرة. لكنها لا تطلب الرثاء، لأن المراثي لا تستحقها، لا تطلب أن تعود لتحيا من جديد، لأنها لا تحب الموتى الذين لا يعترفون بموتهم، بل يكابرون فيسيئون إلى معنى الموت. تجدها كشجرة مقطوعة لا تطلب لنفسها شيئاً، ولا تطالبك بشيء، كأنها أنت، تشبهك المدينة المنكسرة حتى نهاية الموت، وحين تريد أن تعلن أنك حزين، تكتشف أن الحـزن صار مضحكاً، لأنهم لم يتركوا موقفاً لم يدمّروه، فتخرس أحزانك وتضحك. 


ماذا أقول في النهاية عمّو الياس؟ هل أقول لك «من الأوّل»؟ 

نعم لقد هزمك الموت كما هزم مدينتك. فيا لبشاعة المنتصرين، عندما ينال منهم اليقين والمطلقات والحسابات الدقيقة، وما أجمل الخاسرين، عندما يسكنهم شغف الحياة والأحلام والشكوك.

أراك تضرب قدمك بالأرض... أراك تبصق وتمحو الزمان.

في الأوّل أراك، وفي النهاية أراك. أراك ولا أراك. 

 من الأوّل عمّو الياس، من الأوّل…

 

مصدر الصور: محمد علي الأتاسي، مجلة رمان الثقافية
من الأوّل: عن الياس خوري وله وإليه

اخترنا لك

نص

الياس خوري: غفوة الكاتب في زمن الاحتلال

المعتصم خلف
الياس خوري (1948 - 2024)
17-09-2024
تقرير
الياس خوري (1948 - 2024)
ما هو «الملحق»؟
زمن «الملحق»
إعادة إحياء اليسار في لبنان ما بعد الحرب الأهليّة
فكرة

إعادة إحياء اليسار في لبنان ما بعد الحرب الأهليّة

خالد صاغيّة

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
تحقيق لجيش الاحتلال حول مقتل 6 أسرى إسرائيليّين بغزّة 
جائزة الشجاعة لوائل الدحدوح
عودة الناس، رحيل الأماكن
الصحافي فراس حاطوم يواجه «الحوت» هشام عيتاني 
تجميد الحسابات المصرفيّة لشقيق الوزير أمين سلام
4,047 شهيداً 16,638 مصاباً منذ بداية العدوان الإسرائيلي على لبنان