تعليق فلسطين
عبير بشتاوي

اقتحام «مسرح الحرية»: لا أريد أن أنجو بعد الآن! 

20 أيلول 2023

عن وهم النجاة وتجنّب الموت لدى أبناء الداخل المحتل عام 1948.

المسرح محاصر، وأربع أرواح تستشهد إلى خالقها.
لا أعلم إن كان دافعي لكتابة هذه المقالة هي دوافع أنانية، إلّا أنّني أعلم أنّه في اللحظة التي رأيت فيها خبر اقتحام المخيم ووجود إصابات برصاص الاحتلال، تنفست الصعداء، كون إصابتي وطاقم المسرحية بفيروس كورونا مَنَعت تواجدي في «مسرح الحرية» الواقع في مخيم جنين، عند اقتحامه. كان من المقرّر أن أتواجد برفقة صديقتي الفنّانة والراقصة حلا سالم لنشارك جزءاً من عملنا المسرحي الجديد بعنوان undo، تليه ورشة تفاعلية مع النساء، ضمن مهرجان المسرح النسوي بنسخته الثانية التي انطلقت نشاطاته في بداية هذا الأسبوع، والتي من المقرّر استمرارها حتّى الخميس 21 أيلول.

اقتحمت قوات الاحتلال المخيم مساء الثلاثاء 19 أيلول، خلال عرض الفنانة المسرحية الحيفاوية سلوى نقارة (وهي معلّمتي) مسرحيتها «دانتيل». داهمت القوات المسرح وقامت بقطع الإنترنت والكهرباء عنه. أضاء الحضور فلاشات هواتفهم النقّالة ليروا ما تبقّى من عرض سلوى، اثر الاقتحام، إذ أنّها أكملت عرضها رغم قطع التيار الكهربائي… لحظات، ويعلق أكثر من مئة وعشرين شخصاً داخل مبنى المسرح، بينهم أطفال، وتُسمع طلقات النار وسلاح الجَو الذي يستهدف مخيّماً لا تتجاوز مساحته نصف كيلومتر مربّع. تُسمَع كمؤثّرات صوتية للمسرحية، إلا أنّها في الحقيقة صوت الواقع الذي يغلب صوت المسرح في كل مرة.

تنتهي هذه الليلة مميتةً على عائلات محمود السعدي ورأفت خمايسي ومحمود عرعراوي، مع أنباء عن وجود شهيد رابع؛ وبالفعل، نستيقظ اليوم في 20 أيلول على خبر استشهاد عطا موسى، ووجود ما يفوق الثلاثين إصابة. يودّع المخيم أهل وأصدقاء الشبّان زافّين وحاملين إياهم على النعش، باكين تارةً ومحاولين إخفاء آثار الفاجعة عن وجوههم تارةً أخرى. 
مخيّم جنين الذي تتالت عليه الاجتياحات منذ بداية العام، وليس حصراً في هذا العام، يُعتبر معقلًا للمقاومة، وأحد أهداف الاحتلال الإسرائيلي الدائمة. 

ودَّعت جنين ثلاثة من شبّانها في هذه الليلة، ويقول لي من حولي أنّني نجَوت! «منيح انّك ما رحتي»، يا لوقاحة النجاة! هذه المقولة لم تحطّ على مسمَعي بلحنٍ فضائي، فهي نتاج تاريخ كامل لدى أبناء الداخل من «وهم النجاة». هنا، وهم النجاة من اقتحامات الجيش، ربّما. لكن يبقى أنّ أساليب وتكتيكات ضَمان موت الفلسطينيّين في الداخل المحتلّ موجودة بالفعل، ولا تختلف إلّا شكلياً عن تلك الموجودة في الضفة الغربية أو غزة.

لا يأتي هذا الشعور منفصلاً، فجنين تبعد عن الناصرة، حيث أسكن، مسافةَ 25 كيلومتراً فقط: تُحسَب جنين من أراضي الضفّة الغربية، والناصرة من أراضي الداخل المُحتلّ عام 1948. للوهلة الأولى، يُعتبر هذا التقسيم تقسيماً جغرافياً، لكن الجغرافيا غير مُذنِبة بتاتاً بمحاولتها سلخ الشعب عن شعبه وفرض وتشكيل هويّات مختلفة، تُشعر الفلسطيني ابن الناصرة أنّه مختلف تماماً عن الفلسطيني ابن جنين. فمنذ فرض الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي عام 1948، وبعد ثمانية عشر عاماً من الحكم العسكري في الداخل المحتل، وإدارة ولاية الأردن للضفة الغربية حيث تقع جنين الآن، وحيث تقع هذه التقسيمات المُختَلَقَة؛ تُصرَفُ ملايين الشواقل من قبل الاستعمار سنوياً على محاولات صهر الوعي لدى طلّاب المدارس والجامعات في الداخل الفلسطيني المحتل، وذلك لإنتاج علاقة مشوّهة بين ابن الناصرة وابن جنين على سبيل المثال، وعلاقات تجارية لا غير بين شخص من الداخل وآخر من الضفة الغربية (لأنّ شراء مستلزمات البيت والبضائع من جنين يُعتبر أرخص، مثلاً)، من دون أن ينفي ذلك وجود تقييدات إسرائيلية مُبررة «قانونياً» تتحكّم بسيرورة وماهية وحدود كل العلاقات بين أبناء الشعب الواحد، حتّى التجارية منها. 
هنا، نرى القليل فقط من غربة أبناء الشعب الواحد بعضهم عن بعض، وحاجة مَن هم حولي لأن يخبروني أنّ «الله سترني». والآن، لماذا يغيظني هذا التعبير؟ لأنّه، وبكل بساطة، لن يجد أي شخص من جنين مكاناً يذهب إليه كي يستره الله، ويحميه من اقتحامٍ و/أو قصفٍ و/أو إصابة و/أو اعتقال، و/أو حتّى استشهاد. تباً للنجاة. 

«الاجتياح من خلال عيون النساء»؛ كان هذا عنوان المهرجان المسرحي، وهو ما طُبّقَ، حرفياً، الليلة الماضية في جنين اثر الاقتحام، فرأت النساء، جميعهنَّ، وخاصّةً أربعة منهنَّ، رصاصاتٍ تخترق أجساد أبنائهن. مروحيات عسكرية تحلّق فوق رؤوسهنَّ، بيوت محاصرة، أطفال يبكون، حصار بيوت وأرواح. أبقى أنا في الناصرة، مكاني، يعود فنانّو ومسرحيّو رام الله إلى رام الله، ويظل المخيم مكانه: مقاومون، أشخاص، واجتياحٌ مستقبلي. أقتبس من صديقي الفنان المسرحي خليل بطران الذي، بعد مغادرة المخيّم عائداً إلى رام الله، كتب عبر الانستغرام: «أنا تمام لكل حدن سأل، بتصير تفكر للحظة أنا طالع من هون. بس مين الي ضايل بالمخيم؟ ومين كل يوم بعيش على توقّعات! فيه كثير أسئلة داخل المخيّم ما حدا بجاوب عليها غير إلي بعيش بالمخيم». وأعود، فيما أختم هذه المقالة، إلى فكرةٍ أدور حولها: كان من المفترض أن أكون هناك.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
نتنياهو يهدّد المحكمة الجنائية وكل من يتعاون معها
حدث اليوم - الخميس 21 تشرين الثاني 2024
21-11-2024
أخبار
حدث اليوم - الخميس 21 تشرين الثاني 2024
25 شهيداً في عدوان يوم الأربعاء 20 تشرين الثاني 2024
3,583 شهيداً، 15,244 مصاباً
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 21/11/2024
هكذا أصبح نتنياهو وغالانت مطلوبَيْن للعدالة