الحرب والأمن الغذائي
تلعب روسيا وأوكرانيا دورًا مهمًّا في إنتاج الغذاء وتوفير امداداته على مستوى العالم، وهذا ما بات واضحًا بعد شهر على بداية الحرب التي يشنها النظام البوتيني على أوكرانيا.
روسيا وأوكرانيا هما المصدّران الأول والخامس للقمح على مستوى الكوكب، ويوفران معًا 19٪ من امداداته من الشعير، و14٪ من القمح، ويورّدان أكثر من ثلث صادرات حبوبه. نصف صادرات العالم من زيت عباد الشمس يأتي من روسيا وأوكرانيا، وهما مورّدان أساسيان لبذور اللفت والذرة. وتعتبر روسيا المنتج الرئيسي للأسمدة عالمياً. أما اوكرانيا، فتحمل لقب «سلة خبز أوروبا».
تعيد الحرب الجارية طرح إشكاليات مختلفة عن علاقة الغذاء وإنتاجه من جهة، والأنظمة السياسية، من جهة أخرى، أكانت ديمقراطية أو قائمة على نظام حكم أكثر تمركزاً. في العدد الأخير من مجلة ايكونومست مثلاً، تناولت احدى المقالات اشكالية التجارة الحرّة مع الدول المستبدّة، وتناقض التجارة الحرّة والأمن القومي. وهذا ما يفتح على عدد من اشكاليّات إضافية، عن العولمة والتقوقع القومي والعدالة في توزيع الثروة في النظام الاقتصادي العالمي.
منطقة الشرق الأوسط
للنقطة الأخيرة، خاصة بما يخصّ توزيع الغذاء، تأثيرها الخاص على منطقة الشرق الأوسط التي تُعرف بضعف إنتاجها المحلي للغذاء واعتمادها الحادّ على الواردات الغذائية لتحقيق أمنها الغذائي. وهذا ما أدّى، حسب بعض المؤرخين وعلماء الاجتماع، إلى الربط بين الحركات الاحتجاجية التي نشأت في المنطقة، سواء في القرن الماضي أو الحالي، وفشل الحكومات في كبح أسعار الأغذية. وهذا ما يثير خوفاً ممّا قد يصبو اليه أمن المنطقة الغذائي بفعل الحرب الجارية، ويلح علينا لإعادة التفكير بموقعنا من شبكة التوريد والتبادل العالمي للغذاء.
جاء مؤخراً في مقال منشور على موقع منظمة «هيومن رايتس ووتش» أن الغزو الروسي لأوكرانيا يؤدي إلى تفاقم الجوع في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
في لبنان مثلاً، وبحسب أرقام الجمارك اللبنانية، جاء في عام 2020 حوالي 80٪ من إجمالي واردات لبنان من القمح من أوكرانيا والـ15٪ الأخرى من روسيا.
أما في سوريا، والتي تعاني من أسوأ موسم حصاد قمح منذ 50 سنة، فقد استوردت في السنة الماضية مليون ونصف طنّ من القمح، أكثره قمح روسي، مما أدى بالحكومة في الشهر الماضي إلى إعلان سياسة تحصيص مخزونها من القمح.
اليمن التي يعاني أكثر من نصف سكانها من انعدام الأمن الغذائي منذ سنوات، تستورد ما لا يقل عن 27٪ من قمحها من أوكرانيا و8٪ من روسيا. وبذا تتفاقم حالياً أزمة اليمن على مستوى الغذاء والطاقة، وسط مخاوف من تعرض المأساة اليمنية الى النسيان مع انشغال العالم بالحرب الأوكرانية.
استوردت افريقيا من روسيا منتجات زراعية بقيمة 4 مليار دولار في عام 2020. حوالي 90٪ من هذا كان قمحًا، و6٪ زيت عباد الشمس، وقد استحوذت مصر على ما يقرب من نصف الواردات.
الأمن الغذائي العالمي
لا تختلف حالة باقي الدول، وإن كان لها خصوصياتها، عن منطقة الشرق الأوسط من حيث تأثّرها بالحرب. في الفلك الغربي، تضرّ الحرب الروسية - الأوكرانية بمزارعي القمح الأميركيين، وذلك على اثر ارتفاع أسعار الأسمدة قبيل موسم الزراعة الربيعي. فقد استوردت الولايات المتحدة في السنة الماضية ما يعادل 1.3 مليار دولار من أسمدة المحاصيل من روسيا، أي أكثر من 10 بالمئة من استيرادها الكلي لهذا المنتج. أمّا في أوروبا، فيأتي 45 بالمئة من الغاز غير المحلي في الاتحاد الأوروبي من روسيا، ولا يزال السبب الأساس في ارتفاع أسعار الأسمدة الزراعية في الاتحاد هو ارتفاع أسعار الغاز المعتمد في تصنيعها.
لا يحصَر تأثير الحرب على الفلك الغربي والدول النامية في أفريقيا وآسيا، بل يطال تأثيره الدول الصاعدة في السوق العالمية، كالصين والهند وتركيا. فوفقًا لتقرير للأمم المتّحدة حول تأثير حرب أوكرانيا على التجارة والتنمية، تبلغ حصة القمح والذرة والشعير وبذور اللفت والبذور وزيت عباد الشمس المستورد من روسيا وأوكرانيا 25.9٪ في تركيا و23٪ في الصين و13٪ في الهند.
التحوّلات في سياسات الأمن الغذائي
يحاول صناع القرار في بعض الدول تقليص اعتماد الدولة على الصادرات الروسية في قطاعي الغذاء والطاقة عبر اعتمادهم سياسة تنويع مصادر تأمين حاجاتها. لكن يحذّر الخبراء من أن يعتمد صناع القرار سياسة تقليص التعرفات الجمركية على الاستيراد بشكل أعمى بغية تقليص حجم ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء. فأفق السياسات التي يمكن لصناع القرار اتخاذها يعتمد على ما تحتويه الدول من امتيازات يمكن عرضها في صفقات تجارية أو سياسية مع دول أخرى، كما يعتمد على مقدار المناورة التي يمكن للنظام القيام بها باعتبار طبيعة العلاقة التي تربطه بالمجتمع والآليات المستخدمة في اعادة انتاجه، منها آليات توزيعه مخزون الدولة من الغذاء على المستوى المحلي.
وهذا ما يفرض علينا مجدداً السؤال عن طبيعة أنظمتنا الاقتصادية في المنطقة ودورها في النظام الاقتصادي العالمي.