عملتُ منذ عامَين في مكتبٍ لأرشفة وتوثيق مشاريع هندسية قديمة، وحدثَ أن كنت أتابع مشاريع معماريٍّ عمل في الخارج، في الخليج تحديداً. وبين لفائف الورق المُهترئ، حَطَّت بين يديّ مصادفةً خريطة منزلٍ كبير، تعود إلى منتصف الثمانينيّات، مكتوب بأسفلها: Villa Rafiq Hariri – Omman. قصر، فيه مسبح، وملعب تِنِس، وغُرف للضيافة، ومرآب لسيّارات... ثمّ كرّت السبحة، وجدتُ منزلاً ثانياً، وثالثاً، ومشروعاً سكنيّاً، ومشفىً– كلّها مصمّمة للشيخ رفيق. ثمّ وصلتُ إلى مشاريع التسعينيّات، لكن تغيّر العنوان: أصبحت كلّها في لبنان، مضافاً إليها مساجد عدّة، إلى أن وصلتُ لمسوّدة عمل المشروع- الإله: المنطقة المُحتلّة من سوليدير.
كانت هذه مرحلة عودة الحريري- الأب، على جوادٍ أبيَض، ليخلّصنا من دمار الحرب. حسبه هو، هذا الجواد هو السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي تقوم على الريوع والخصخصة وتثبيت سعر الصرف. وترجم البزنسمان هذا الفكر مَيدانيّاً بتنظيمٍ مُدني برجوازيّ، يعزّز الفرز الطبقي ومراكمة الغنى في قطبٍ واحد. وكان الثالوث: الحريري-برّي- سلامة.
إلّا أنّ الحريري هذا، سقط عن صهوة جواده. لا أتحدّث هنا عن اغتياله وسقوطه الجسديّ، بل سقوط نهجه السياسي- الاقتصادي، المولّد للأزمات بطبيعته. لكن للأسف، كنّا نحن- أي الفئات الشعبيّة، مَن شعرنا بوطأة السقوط، من الأزمات المالية والدَّيْن العام إلى تفتّت القطاع العام، إلى سلب مناطق برمّتها من أهلها.
ثمّ أتى الحريري من جديد، أيضاً على جوادٍ أبيَض. هذا الحريري كان سعد، وهذا الجواد كان شعبيّة الحالة الـ14 آذاريّة وتبنّيها له عام 2005، بعدما كان قد ورثَ أباه واستلم تيّاره ومؤسّساته وبات هو الواجهة السياسيّة لآل الحريري بينما انكفأ إخوته بعيداً من الشاشة، وأصبح الوريث الشرعيّ للحريريّة السياسيّة في الحكم.
أخذ الجواد يتعثّر، بعقباتٍ لم يكن الفارس حربوقاً بما فيه الكفاية لتجاوزها. وأتت الضربة القاضية مع 17 تشرين. فرافقه مذّاك لقب «المخلوع». أضف إلى ذلك فشله الذريع بإدارة مؤسّساته وإفلاس معظمها وتسريح موظّفيها دون تسديد معاشاتهم، والتراجع التمثيلي إثر انتخابات 2018 النيابيّة. جفَّ الرصيد السياسي للحريري-الإبن، واضمحلّت شعبيّة جواده.
إلّا أن آل الحريري، على ما يبدو، يملكون (فوق الدكّة) اسطبلاً للخيول. فها هو الحريري يعود اليوم على جوادٍ أبيَض. هذه المرّة، الحريري هو بهاء، والجواد، للمفارقة، هو الاستفادة من جثّة الجواد السابق.
لسوء حظّه، لم ينخدع العامّة ببدعة الجواد الأبيَض. وها هو يَعرج منذ البداية لأسبابٍ عدّة، أهمّها أنّ الكاسيت أصبح معلوكاً، ناهيك بالشبهات التي تحوم حول المقرّبين منه في لبنان، ومنها أيضاً أنّ راكب الجواد كان الأكثر استفادةً من قانون اليوم الواحد لإلغاء ضريبة نقل الإرث بعد اغتيال أبيه.
منذ صراخه «يا قوم» في تشييع والده، خبا نجم بهاء. لكنّه عاد ليسطع عند «خطف» أخيه (2017). ثم ثانيةً في 14 شباط، عندما عُلِّقَت صور الأب مع لقب «أبو بهاء» عوضاً عن اسمه. ثمّ اليوم. وسط هذه المعمعة كلها، لا تهمّني الديناميّات الداخلية للعائلة الملكيّة. ما يشغل بالي أمرٌ واحد: لعبة الفارس الذي يأتي على صهوة جواده ليخلّصنا. هذه اللعبة مكلفة، وها هي تُلعَب للمرّة الثالثة في ثلاثة عقود. ألم يحن الوقت لإنهائها؟ أما آن لنا أن نقول لآل الحريري: Game Over؟