انتصر الجميع إذاً. لا غالب ولا مغلوب، بحسب العبارة المبتذلة في السياسة اللبنانية. المعجزة الروتينيّة حدثت: فاز الفريقان معاً، فريق حصر السلاح وفريق المقاومة.
في 5 آب الماضي، كلّف مجلس الوزراء الجيشَ بوضع خطّة لحصر السلاح بيد الدولة قبل نهاية عام 2025، فإذا بقائد الجيش، في 5 أيلول الجاري، يأتي بخطّة لا مهل زمنيّة فيها، واكتفت الحكومة بـ«الترحيب» بها. صحيح أنّ أحد معاني «رحّب» في القواميس هو القبول بالشيء (بفكرةٍ أو اقتراحٍ مثلاً)، إلّا أنّ الحكومة استخدمت هذا الفعل كمَن يُفاجأ بزائر مزعج، فيُمطِر عليه عبارات التأهيل بحرارة وحماسة مصطنعتَين.
كانت جلسة 5 أيلول– جلسة الترحيب– رمزيّةً بامتياز، لكن بالمعنى «السلبي» للكلمة. أي أنّها أشارت إلى الشيء (حصر السلاح)، أو دلّت عليه، لكنّها لم تلمسه في عالم الواقع. بدت الحكومة كمَن يُشير بسبّابته إلى شيء ظانّاً أنّه يمتلك القدرة على تحريكه عن بعد، أو كمَن يتلو تعويذةً مُعتقداً بأنّها ستحقّق له مبتغاه. إنّه التفكير السحري في أنقى صوره.
لكنّ الحكومة لا يُعقل أنّها تؤمن حقّاً بامتلاكها قوى سحرية. فماذا يعني، تالياً، ذلك الترحيب؟ إنّه أشبه بعبارة «إن شاء الله» الشائعة الاستخدام في يوميّاتنا، والتي يُقصَد بها غالباً ثلاثة معانٍ في آنٍ واحد:
- المعنى الحرفي: سأفعل كذا أو كذا إذا أراد الله ذلك.
- الاحتمال: ربّما سأفعل كذا أو كذا.
- التسويف: سأفعل كذا أو كذا في وقت لاحق غير محدّد، قد يطول كثيراً وقد لا يأتي أبداً.
ترحيب الحكومة بخطّة الجيش يحمل هذه المعاني الثلاثة معاً: نترك حصر السلاح لمشيئة الله، وربمّا نحصر السلاح، وسوف نحصر السلاح في يوم من الأيام لا ندري متى يأتي. أي، باختصار، سنحصر السلاح... إن شاء الله.
أمّا الطرف الآخر، فريق المقاومة، فأعلن بعد جلسة 5 أيلول انتصاراً آخر يُضاف إلى سلسلته من الانتصارات الإلهية التي بات يستحيل إحصاؤها. رأى في ترحيب الحكومة تراجعاً، وقد أصاب في ذلك. لكن ماذا كسب فعلاً من هذا التراجع؟ الحفاظ على سلاح لا وظيفة له ولا يجرؤ على استخدامه. ومع ذلك ابتهجَ كما لو أنّ السلاح لا يزال يستطيع ردع العدو لا بل سحقه، وكما لو أنّ إسرائيل لا تغتال عناصره يوميّاً وتدمّر ما تبقّى من ترسانته شيئاً فشيئاً. ابتهج، إذاً، بالحفاظ على سلاح بات خردة أو تحفة أثريّة، وعَدّ ذلك انتصاراً.
وكحال جلسة الترحيب، فإنّ الانتصار هذا رمزيٌّ بامتياز، أي أنّه ينتمي إلى عالم مغلَق من الإشارات والدلالات لا صلة له بالواقع. السلاحُ رمزٌ للجماعة، والحفاظُ عليه، ولو كان خردةً، هو بمثابة «دليل» على أنّ الجماعة لم تُنكَب ولم تُهزَم، وما زالت محافظةً على هويّتها كبيئةٍ مقاوِمةٍ، حتّى بعد انتفاء المقاومة. إنّه، مرّة أخرى، التفكير السحري في أنقى صوره.
إنّنا إذاً أمام معضلة فكاهيّة: نؤجِّل نزع سلاحٍ لا قيمة له، ونؤجِّل حلّ أيّ مسألة أخرى، مهما كانت مُلحّة، إلى ما بعد هذا النزع الذي قد لا يحصل إلّا بعد سنوات. علينا أن نلتهي بصراع رمزيّ بات وهميّاً إلى حدّ كبير، وننسى أنّ العيش في هذا البلد صار لا يُطاق، بل شبه مستحيل لبعض الفئات: لا كهرباء ولا ماء ولا بنى تحتيّة ولا شبكة صرف صحّي ولا مصارف ولا تعليم. فقر وبطالة ودمار. مع ذلك نؤمِن– أو بعضنا على الأقلّ– بأنّ الدولة، متى حصرت السلاح بيدها، ستمحو بيدها الأخرى جميع مصائب لبنان وكوارثه.
وفي انتظار ذلك، نفرح لسوزان الحاج بترقيتها المُستحَقّة.