أغتيل لقمان سليم. نعم، لكنّه لم يمت. هذا ليس شعاراً. الرجل مات. لكن فكره وموروثه الثقافي والمسار النقدي الذي ينتمي له لن يموت. ألا يعرف القاتل ذلك؟ ممكن. لماذا قتله إذاً؟
الذي اطلق الرصاص ليس القاتل، بل هو الذي اغتال فقط (assassin).
المتعارف عليه أن اصل كلمة assassin مشتقّ من الحشّاشين، وأنّ الرحالة الايطالي ماركو بولو ذكر في كتاباته فرقة الاغتيال التي أنشأها حسن الصباح، والذي لُقّب أيضا بشيخ الجبل (ومن هنا أتى اسم الشخصية التلفزيونية الشهيرة)، منذ ما يقارب الألف سنة في إيران. وكان الصباح يسيطر على مقاتليه باستخدام الحشيش ووعدهم بمكاسب وجوائز.
إذا كان الذي استخدم كاتم الصوت هو اليد المنفّذة، فالذي صاغ وكتب «المجد لكاتم الصوت» هو العقل، وبالتالي الأخطر. فهو صاحب الفكر المؤدلِج.
الفكر هذا لا يشبه فكر لقمان لأنّ الرجل يعتمد الحوار ونقد الذات والبحث في التاريخ وإعادة المراجعة، حيث لا مقدّسَ، وكلّ شيء قابل للتحليل والمساءلة. أما في الحالة المقابلة، فالفكر قائم بشكل المُسلّم به أو الثابت الذي لا يُمسّ، نوع من تقديس الفكرة وفعل الإيمان بها بشكل عقائدي غير قابل للنقاش.
هذه الأيديولوجيا العقائدية، وإن حاورت الآخر وساءلت نفسها بشكل جزئي، لا تتعدّى سقف المقدّس فيها والمحرّم تناوله، وبالتالي تكون حمّالة تطرّف وأرضاً خصبةً له. هي تعتقد بنفسها صاحبة «الحق» و«الحقيقة». تفعل بسموّها وتفوّقها على باقي الناس، الأمر الذي يذكّر بمحاكم التفتيش الدينية او اليمين المتطرّف (وحتى بعض اليسار) التي انتشرت في أوروبا في القرن المنصرم.
لعلّ أوضح ما في البروباغاندا التي تمارسها هذه العقيدة هو تشييء الآخر أو «العدوّ» والانغلاق على الذات. فالعدو يغدو رقماً او اسماً على لائحة كالتي اصدرتها جريدة «الأخبار» وحصرتها حينها بمن أسمتهم «شيعة السفارة»، وكان لقمان سليم في طليعتها.
وللمفارقة، فإنّ مصطلح «شيعة السفارة» كان قد أُطلِق على مجموعات حزب الله عند صعودها في الثمانينيات، داخل سفارة إيران في بيروت ودمشق.
اليوم، تعود «الأخبار» وتعلن أنّها بصدد إصدار قريب للائحة أوسع من سابقتها، ولا تنحصر بالشيعة وحسب.
لا يأتي الانغلاق على الذات على شكل غسل الأدمغة، بل يكون بقطع كلّ قنوات البثّ وكل صوت معارض، وحصر جميع المعلومات والأفكار بجهة واحدة وتكرارها بحيث لا يعود هناك مكان لأي معلومة أو فكرة اخرى. فيكون العمل على حشو الدماغ بدل غسله.
من المرجّح أن يكون مطلق النار على لقمان لا يعرفه، لم يشاهد أيّاً من أفلامه، ولم يقرأ أيّاً من ترجماته أو يستمع إلى حواراته. كان يكفيه أن يتعرّف إليه كهدفٍ معادٍ للعقيدة، يجب إزالته.
وكأنّ الأمر كلعبة الفيديو الشهيرة «عقيدة الحشاشين» (assassin’s creed) التي لاقت انتشاراً واسعاً، واقتُبست فيلماً يحمل الاسم ذاته. ما يعرفه لقمان ومن مثله أنّ ارض الواقع لا تشبه اللعبة، فهنا لا مجال لإعادة التشغيل. أما القاتل، فيمكنه اللعب من جديد متى شاء.
ما لا يعرفه القاتل أنّ لكلّ أيديولوجيا نهاية مهما طالت وعظم شأنها. ببساطة، لأنّها تملك تخطيطاً ولا تملك مخيّلة.
أغتيل لقمان سليم. نعم. لكنّه لم يمت. إنّه يعيش في المخيّلة والفكر والوجدان والفنّ. إنّه البطل الذي يحيا في الفردوس الأعلى. والبطل لا يموت.