أبدأُ بما هو بديهيٌّ حدّ التفاهة: في الحروب تحتدّ المشاعر. تحتدّ وتنفجر فتنوب عن الأفكار والتفكير لحين من الزمن. وعلى عكس ما قد يبدو للوهلة الأولى، فإنّني بقولي هذا لا أُطلِق أيّ حكم قيمي. ذاك أنّني لا أسعى إلى الحطّ من قدر المشاعر ولا إلى الإعلاء من شأن الأفكار والتفكير، بل أحاول فقط أن أُعيِّن واقعة. وهي أنّنا في الحروب، وبالأخصّ في بداياتها، نروح نُفكِّر بواسطة مشاعرنا. لكن ماذا يعني أن نُفكِّر بواسطة المشاعر؟
لنتخيَّل شخصاً يقلق باستمرارٍ وبشكل مرضيّ. إنّ شخصاً كهذا تُقلِقه أتفه الأمور وأقلّها مدعاة للقلق. عطلٌ في الغسّالة مثلاً، أو في البرّاد. لنتخيَّل أنّه لاحظ أنّ قوّة تبريد برّاده قد تضاءلت بعض الشيء– فينفجر القلقُ توّاً في داخله كما لو أنّ أفظع المصائب قد حلّت به. إنّه، في البداية، قلقٌ صافٍ لا موضوعَ محدّداً له: إنّه، في هذه اللحظة الأولى، هلعٌ وليس قلقاً. لكنّها لحظةٌ لا تطول، إذ سرعان ما يقبض هذا الهلعُ على فكرةِ أنّ البرّادَ أصابه عطلٌ، فيستحيل قلقاً مُحدَّدَ الموضوع. المشكلةُ بسيطةٌ، يُطمئن هذا الشخصُ نفسه، إنّه مجرّد عطل طفيف. إذّاك يخفت القلق قليلاً، لكنّه لا يلبث أن يحتدّ من جديد، منذراً بالتحوّل، مرّة أخرى، إلى هلع. ما يمكنه أن يحول دون ذلك هو أن يمسك القلقُ بأفكارٍ ويتشبّث بها، مُدَّعياً بأنّه ليس هو الذي استحضرها، مُتظاهراً بأنّها هي التي استدعته، بأنّها هي مُسبِّبُه. ومن بين هذه الأفكار: ماذا لو فسد الطعام ليلاً وتعفّن؟ ماذا لو تبيَّن أنّ إصلاح البرّاد مكلف جدّاً؟ ماذا لو لم يعد يمكن إصلاحه من الأساس؟ ماذا لو اضطررتُ إلى العيش أسابيع بلا برّاد؟ وهكذا دواليك إلى أن يَستنزف القلقُ نفسَه بعد ساعات أو أيّام، فيخفت ويبهت ويزول.
المثالُ أعلاه يُصوِّر تصويراً دقيقاً ما أعنيه بالتفكير بواسطة المشاعر. فالشخص الآنف الذِّكر يحمله الشعور الذي يتملّكه على توليد أفكارٍ كثيرة ومُتناسلة تروح تنتظم في سيناريوهات كارثيّة. هو يظنّ أنّ تلك الأفكار والسيناريوهات هي ما يسبّب له القلق، لكنّ العكس هو الصحيح: أيْ أنّ الشعور بالقلق، حتّى لا يتفاقم بسرعة جنونيّة فيبلغ ذورةً لا يمكن احتمالها، يستحضر أفكاراً تمنحه معنى، وترسم له حدوداً، وتُبطئ من وتيرة تفاقمه.
في الحروب إذاً، وخصوصاً في بداياتها، تثور المشاعر مثل الخوف والذعر والهلع والغضب والحقد والكراهية والحماسة... إلخ – تثور حتّى تكاد تصل إلى درجةٍ من الغليان لا تُحتمَل. ولكي لا تبلغ هذا الحدّ، فإنّها تستحضر أفكاراً وتتشبّث بها، أفكاراً مثل البطولة والكرامة، التخاذل والخيانة، الظلم والحق، البربريّة والشرّ، العدالة والحريّة... إلخ، وهي أفكارٌ تُؤَطِّر المشاعرَ وتمنحها بعضَ المعنى، ممّا يحيلها قابلة للاحتمال. وبعد مرور وقت قد يطول، تَفْتُر هذه المشاعر لدى مَن لا يعيشون في خطر دائم ولم يخسروا أحبّاءً أو أقارب، فلا تعود بحاجة إلى التمسّك بالأفكار. بالطبع، لا تختفي تلك المشاعر، لكنّها تخفت إلى حدٍّ كبير. إنّه، ببساطةٍ، التأقلم مع الحرب.
ليس في هذا كلّه ما يُثير الاستغراب، فهذه حال الدنيا سواء أعجبنا ذلك أم لا. لكن هناك أمرٌ مُدهِشٌ يحصل في الحروب، وهو أنّنا نرفض قبولَ حقيقةِ أنّ مشاعرنا قد خفتت، فنتشبّث بها بعناد. نريدها أن تبقى كما هي، مُشتعلةً مُلتهبةً كما لو أنّنا لا نزال في لحظة اندلاع الحرب. إلّا أنّ المشاعر تقع، عموماً، خارج نطاق إرادتنا وليس لنا بها يَد. هي تتأجّج وتَفْتُر على هواها، فما العمل إذاً؟ كيف نبقيها على حالها؟ ما السبيل إلى ذلك؟
ثمّة حلٌّ سحريٌّ: افتعال المشاعر. افتعالها وتصديق أنّنا نختبرها بالرغم من أنّ الحال ليست كذلك. اصطناعها، أيْ تأديتها كممثِّل التحم بدوره حدّ الذوبان فيه، فنسيَ أنّه على خشبة مسرح. نسي ذلك، لكنّ وقوفه على خشبة المسرح شرط شارط لذلك النسيان.
إذا ابتعدْتُ عن التشابيه، أمكنني القول إنّ ما يحدث عند افتعال المشاعر هو استحضار تلك الأفكار التي كانت المشاعرُ قد استحضرتها وتشبّثت بها سابقاً. استحضارُ أفكارٍ مثل البطولة والكرامة، التخاذل والخيانة، الظلم والحق، البربريّة والشرّ، العدالة والحريّة... إلخ – استحضارها والتشبّث بها، علّ ذلك يُعيد إلى تلك المشاعر زخمَها الآفل. هكذا تكون الآية قد انقلبت: فبدل التفكير بواسطة المشاعر، صرنا أمام حالة من الشعور بواسطة الأفكار. حالة تنوب فيها الأفكار – التي نُجاهر بها بعنفٍ – عن مشاعر لا نريد الإقرار بأنّها خبت.
لكن لماذا لا نريد الإقرار بذلك؟ ولماذا هذا الافتعال؟
لأنّ الحرب ليست عطلاً في البرّاد. فعلى عكس ذاك المُبتلي بقلقٍ مرضيّ، الذي لا يبتغي سوى زوال قلقه، فإنّنا، في أزمنة الحرب، لا نرتضي لأنفسنا ألّا نتفجَّع باستمرار. ألّا نتفجَّع، أو ألّا ننتشي بنصر قريبٍ... إلخ. لأنّنا نرفض رؤيّةَ عاديّةِ الحرب وتفاهتها. لأنّنا نرفض رؤيتها كشيء طبيعي، مع أنّ سلوكنا وأفعالنا تشي بأنّنا طبّعنا معها. مشاعرنا تشي بالأمر عينه أيضاً، إلّا أنّنا ننكر ذلك، مصطنعين مشاعرَ لا نشعر بها.