على مدار السنوات الأخيرة، لم نختبر حزب الله إلّا وهو منتصر. فمنذ عام 2000، إن لم يكن من قبل، وحزب الله ينتقل من نصر إلى آخر، وكان ثمن هذه الانتصارات تكثيف وتعميق الهيمنة الداخلية. فبعد حرب تموز 2006، جاء 7 أيّار 2008. وبعد المشاركة بالحرب السورية، جاءت معركة الجرود الشرقية، ومن بعدها الهيمنة الكاملة على الداخل، إلى أن وصلنا إلى انتفاضة 17 تشرين ومعها انهيار النظام بأكمله. فاعتدنا على هذا الربط بين «الانتصار» الخارجي والهيمنة الداخلية، هذه الثنائية التي شكّلت مصدر مشكلة لكثيرين مع فكرة المقاومة التي باتت بالنسبة لهم عنوانَ هيمنة وليس تحريراً.
لكن ما لم نختبره بعد، هو «هزيمة» حزب الله. فإذا كان انتصار الحزب في الماضي انتصاراً «له» وهيمنة «علينا»، يبدو أنّ هزيمته هي هزيمتنا كلنا، وعلى كل البلد دفع ثمن هذه الهزيمة. هكذا جاء العدوان الإسرائيلي الأخير ليُنهي سلسلة «انتصارات» حزب الله، ومعها «ثنائية الانتصار/ الهيمنة»، ليخلّف مكانها سؤالاً عن طبيعة النظام اللبناني ما بعد هيمنة «حزب الله»، أو شكل هذه الهيمنة بعد الهزيمة.
تصعيد المهزوم
الموت ولا تسليم السلاح، هكذا اختصر رئيس كتلة الوفاء للمقاومة، النائب محمد رعد، المشهد خلال إطلالته الجمعة على شاشة «المنار»، ليؤكّد موقف حزب الله الرافض لقرار حصر السلاح في يد الدولة، ويلمّح من خلاله للداخل أنّ لا شيء تغيّر بعد الحرب. التقط الشارع الرسالة. شيعة شيعة شيعة والشعب يريد 7 أيار جديد وشعارات أخرى ردّدها جمهورٌ غاضب على القرارات الحكومية الأخيرة خلال مسيرات رفعت أعلام حزب الله وحركة أمل، وأخرى إيرانية، في بيروت، وذلك للتذكير بمصير آخر محاولة رسمية لسحب سلاح حزب الله.
لكن في هذا التصعيد طعم التنفيس الرمزي للاحتقان داخل بيئة الثنائي، نتيجة الخيبة من نتائج الحرب ومعها الإحساس بالضعف الداخلي. تصعيد رمزي عبّر عنه محمد رعد عندما قال خلال الإطلالة التلفزيونية نفسها: أجواؤنا أنّ هذا القرار فتح لنا الطريق إلى كربلاء. الموت في سبيل الدفاع عن السلاح الذي كان يهدف إلى تفادي الموت، في دوامة أسلحة تدافع عن نفسها من دون أي نهاية تلوح في الأفق. فالموقف الغاضب يبدو أقرب إلى «تتييس» أو «تنحرة» من يحتاج إلى بعض الوقت لتقبّل الواقع الجديد. يروحوا يبلّطوا البحر، هذه خلاصة موقف الحزب الذي سيطر على السياسة اللبنانية في آخر 25 سنة.
هيمنة طعمها مرّ
لكن رغم ضعف حزب الله، وعنتريّات ممثّليه الفارغة، فإنّ انتهاء هيمنة المنتصر لا يعني خروجه من منطق الهيمنة، وكأنّ حزب الله لا يستطيع تخيّل علاقته مع باقي المكوّنات اللبنانية إلّا من خلال علاقات الهيمنة والاستتباع، لكن مع فارق مهمّ. فهيمنة المنتصر كانت تتلطّى بخطابات أوسع من خطابات الهيمنة المذهبية المباشرة. أمّا هيمنة المهزوم، فهي مباشرة، ليس لها الكثير لتقوله خارج المشاعر الأوليّة وعلاقات السيطرة. هي هيمنة طعمها مرّ. فإلى جانب كلام رعد، حملت إطلالات مسؤولين وإعلاميين خطاباً مباشراً يحرّك المشاعر الأوليّة عن الوجود. خطاب بدأ بعبارة «حصار الشيعة»، للتعبير عن الحالة بعد سقوط الأسد، وكمّل بعبارة «غدر الشيعة»، بعد فرض رئيسَين جديدَين للجمهورية وللحكومة مطلع العام. ثمّ جاءت أبواق الثنائي للحديث عن مشروع «تهجير الشيعة». فالمنطقة بأكملها، حسب حزب الله، تتحرّك لضرب الشيعة.
تسكير الطائفة وتهديد البقيّة. بعد قرار الحكومة لا نعلم ما هي الضمانات للسلم الأهلي، قال رعد. كان واضحاً أن حزب الله يدافع عن سلاحه، لكنّه لن يهدّد إسرائيل. تهديده موجّه إلى الداخل. والخيارات واسعة: أزمة أهلية يُمكن أن تنطلق بمسيرة درّاجات نارية أو بشرارة اعتداء فردي يتطوّر، أو حتى موقف سيارة، أو بقرار سياسي مُعلن، مواجهة سياسية مع الحكومة وقراراتها وصولًا إلى إسقاطها في الشارع أو نزع الثقة عنها في البرلمان. بكلام آخر، هيمنة المهزوم تحكم من خلال التهديد اليومي بخراب النظام، بالمقارنة مع هيمنة المنتصر التي كانت قادرة على إطلاق «وعد» لمن يلتحق بها ببعض الاستقرار.
إسرائيل خارج الحساب
يدور الصراع الداخلي حول السلاح، لكنّ إسرائيل خارج هذا «التفاوض». لا نستطيع إرغام إسرائيل على شيء، عبارة ثابتة في مواقف المبعوث الأميركي توم برّاك، خلال زياراته إلى بيروت. فنحن مهدّدون بعدوان إسرائيلي جديد إن لم يتمّ تسليم سلاح حزب الله. وهو عدوان يستهدف كل لبنان، خلافاً للزعم الإسرائيلي في العدوان الأخير بأنّ الحرب كانت ضدّ حزب الله حصراً. أي عدوان يقضي على ما تبقى من مؤسسات وبنى تحتية مهترئة، ويترافق مع موجة تهجير جديدة لمناطق جغرافية أوسع، فضلاً عن المجازر المتنقلّة والإذلال العام. و«العجز عن الإرغام» لا يشمل فقط منع إسرائيل من العدوان على لبنان، إنما يشمل أيضاً الاعتداءات اليومية ومنع عودة الجنوبيين إلى قراهم وإعادة إعمارها، وغيرها من الجوانب. بهذا المعنى، باتت إسرائيل أشبه بـ«كارثة طبيعية»، يمكن التحضير لها ولكن لا يمكن التأثير على مجراها.
لكنّ إسرائيل ليست فقط خارج حساب المبعوث الأميركي والحكومة اللبنانية، بل باتت تخرج أكثر فأكثر من حسبان حزب الله، مع التحوّل من «هيمنة المنتصر» إلى «هيمنة المهزوم». تدّعي إسرائيل إنها دمّرت ترسانة أو ترسانات حزب الله. بالمقابل، يرفض الحزب تسليم ما تبقى من سلاح. لكنّ السلاح الفعلي الذي نراه، هو ذلك المتفلّت الذي يمكن أن ينتشر في الشوارع. ومهمّة ضبط هذا النوع من السلاح أعقد وأصعب من حصر السلاح الثقيل المخزّن في الأودية والجبال والمستودعات. وإذا تخيّلنا استمرار حزب الله في مسار التحوّل من هيمنة إلى أخرى، قد يصبح التخلي عن السلاح الثقيل أسهل من التخلّي عن السلاح الخفيف، الرادع في الصراعات الأهلية القادمة.
ربّما كان محمد رعد قد أطلق عبارته لتهديد باقي المكوّنات السياسية اللبنانية. لكنّ عبارته باتت أقرب إلى تحديد مصير مشترك في هذه البلاد: «لنبلّط البحر معاً».