قضية الأسبوع مخيّمات
ميغافون ㅤ

مخيّم - سلاح - إعلام - مخّدرات

تجّار العنف وجدوا وصفتهم

1 تشرين الثاني 2025

القضية

الحدث بذاته مؤلمٌ: شاب بالعشرين من عمره، لم يتوقّف على حاجزٍ أمنيٍ في البلد. مسلّحون أطلقوا النار بتهوّر على السيّارة المسرعة، فسقط قتيلًا. لا يحتاج الأمر مزيداً من المعلومات كي يكون جريمةً يستنكرها الجميع. 
لكنّ الأمور في لبنان غالبًا لا تقف عند هذا الحد، إذ يتحوّل أيّ حدثٍ أمنيٍّ إلى مناسبة للتذكير بأنّ البلاد لم تتحرّر بعد من أشباح الحرب الأهلية، وأنّ المجتمع هذا ما زال منجذباً إلى العنف على نحوٍ فِتيشيّ، منجذباً إلى كلّ هذا التدمير، هذا الكره، هذه الرغبة الجامحة بالقتل.

الشاب: مسيحي.
الحاجز: اللجنة الأمنية الفلسطينية.
المكان: مدخل مخيّم شاتيلا. 
الملابسات: مجهولة – رغم حسمها في رواياتٍ متضاربة.

تحوّلت الجريمة الأليمة إلى مناسبة إعلامية-سياسية لتفجير خطاب طائفي وعنفي، أعادت البلاد إلى زمن الحرب الأهلية، وكثّفت المخاوف والقلق الكامنَين في المجتمع. فمن هويّة الأطراف المختلفة في الجريمة، إلى مكان وقوعها، وصولًا إلى أسبابها المجهولة، فجّرت الجريمة الكامن، لتظهر هشاشة مجتمعنا ونزعته الدائم نحو القتل.  


المخيم

البداية مع مكان الجريمة: مخيّم شاتيلا، هذا المكان الأسطوري الذي يجسّد كل رغبات المجتمع العنفية. 

والمخيّم له موقعٌ خاص في المخيّلة الجماعية: كأنّه بقعةً من العمار العشوائي، خارجة عن سيطرة الدولة أو حتّى الأخلاق العامة، والتي تجسّد كل هواجس المجتمع حيال العنف، سواء أكان متخيّلاً أم محقّقاً. في داخله، حسب هذه المخيلة، يحدث ما لا يمكن أن يتخيّله المرء، تحكمه الفوضى إلى حدٍّ يتطلّب تسييجه، لمنع مَن وما في داخله من التمدّد إلى المدينة الهانئة النقيّة. عند من يقطن خارجه، المخيّم هو تركيب خيالي يجسّد كل مخاوفه، كما رغباته للعنف. ومن بين الكوابيس المتداولة عند من هو في الخارج، أن يضيع، ويجد نفسه في أزقّة المخيّم الضيقة والمكتظّة والخطيرة.

لذلك، في المخيّلة العامة– خاصّةً للأطراف التي لم تتخلَّ بعد عن فِتيش العنف– المخيّم لا يتعدّى المقاربةَ الأمنية المرتبطة بخطورة السلاح الخارج عن سيطرة الدولة، تالياً، ضرورة الإسراع في مسار نزع سلاح المخيّمات الفلسطينيّة. في هذه الخطابات، سطحيّةٌ في اختزال مفهوم المخيّم بالبُعد الأمني، أي بوصفه مجرّد مربّع متروك للأمن الذاتي. وعند تسطيح المسألة بهذه الطريقة، يصبح من الممكن افتراض أنّ الحلَّ الأمني وحده مجدٍ في معالجة أحداث أمنيّة من هذا النوع. 

المخيّم هو مكان تجسيد الرغبات العنفية، ليغدو الحلّ تطويعه فحسب، وبعنفٍ أكبر.

لكنّ المخيّم أكثر تعقيداً من ذلك. إنّه نتيجة تقاطع عدّة عوامل قانونيّة واجتماعيّة واقتصاديّة. إنّه البيئة المعزولة اجتماعياً واقتصادياً، وحزام البؤس المُفقَّر والمهمَّش والذي يسكنه (إلى جانب الفلسطينيين) لبنانيون وسوريون، وكلّ مَن لَفظتهم المدينة، والشريحة المحرومة من أبسط حقوقها المدنيّة، مثل تملّك المسكن أو ممارسة العمل النظامي واللائق. إنّه بيئة حُمّلت تنميطات عنصريّة موروثة من ذاكرة الحرب الأهليّة، والخوف من الآخر.
الواقع الأمني الإشكالي ليس حالةً معزولةً عن كل تلك العوامل، بل هو نتيجتها الطبيعيّة. وهو، مع الأخذ بالاعتبار العامل السياسي، ما سمح للفصائل ببعض الهامش في تنظيم نفسها. وأحزمة البؤس اللبنانيّة، في الضاحية وطرابلس والبقاع، تحمل تحدّيات أمنيّة لا تقل حدّة عن تلك الموجودة في المخيّمات. 

بدل ذلك، فضّل البعض الخضوع لوهم العنف، فنزعوا الثياب المدنية للبس البدلة العسكرية «على طريق الشهادة من أجل السيادة».


السلاح

بعد المكان، هوية الفاعل: اللجنة الأمنية الفلسطينية.

لوكان الشاب الذي قُتل مسلم، لما كانت البلاد حالياً على حافّة حرب أهلية. ولو كان الفاعل من «الميليشيات» المقبولة سياسياً، لانتمائها العريق للوطنية اللبنانية، كجنود الربّ مثلًا (الذين قتلوا منذ فترة مسؤولاً في القوّات اللبنانية من دون أي اعتراض يُذكر خارج بيان استنكار)، لما كانت البلاد حاليًا على حافّة حرب أهلية. لكن تركيبة الهويّات في هذه الجريمة — ضحيّة مسيحية ومرتكبٌ هو تنظيم فلسطيني — كانت كفيلةً في إعادة البلاد أكثر من نصف قرن إلى الوراء، إلى زمن الحرب الأهلية، وتفجير كل الرغبات الكامنة تجاه العنف.

تصاعدت صيحات السيادة، وعادت المخيّلة الحربية بتحريكٍ من أبواق إعلامية معظمها لم يعش الحرب الأهلية أصلاً، فاستبدلتها بفِتيش العنف الموروث عن آبائهم.

أكثرية المنتفضين حالياً لا يكترثون حقّاً بالضحية. هوسَهم الحالي أنّ المرتكب من اللجان الأمنية الفلسطينية، والتي أعادت إلى الذهن تاريخ الحرب الأهلية ومسألة سلاح المخيمات. لكن ما لم يلحظه العديد من الذين استنفروا في الآونة الأخيرة، هو أنّنا لم نعد في الـ75، ومسألة الوجود الفلسطيني لم تعد عاملاً طاغياً على الساحة السياسية. أما سلاح المخيمات، فقد بدأت عملية تسليمه، وإن كانت بطيئة. هذا بالإضافة إلى أنّ تسليم أمن المخيّمات للفصائل كان أساساً بالتعاون مع الجيش، الذي لا يريد الدخول وتنظيم تلك المناطق الفقيرة. وكان ذلك لمصلحة معظم من هم خارج المخيّمات، بما أنّ تلك الفصائل قد ضمنت ألّا يتعدّى سكّان المخيم حدوده. مع الوقت، لاعتباراتٍ داخلية وخارجية، تحوّلت معظم هذه الفصائل من لاعبٍ سياسيٍّ إلى عصابة شارع، تدير منطقة لا يريد أحدٌ أن يراها حتّى.

رغم ذلك، كثرٌ رأوا في ما جرى مناسبة لإعادة إبراز فتيشهم العنفي، ليشنّوا حرباً سياديةً ضدّ بعض العصابات، من ثمّ جرّ البلاد إلى رغباتهم العنفية.


الإعلام 

الحادثة أليمة، وتتطلّب بذاتها تحرّكاً قضائياً لمعالجتها. لكنّ إعلامنا العريق لم يرد أن يضيّع فرصةً لإظهار شوقه للعنف. 

استُدعي المعجم الطائفي الجاهز، وأُعيد تدوير مفردات الحرب الأهلية، ليتحوّل الخبر إلى مناسبة لإحياء ثنائيات، «شرقية / غربية»، و«لبناني / غريب»، بدل مساءَلة الوقائع وأدوات الأمن والعدالة. سارع الصحافي طوني أبي نجم إلى تسييس المأساة، محوّلاً إيّاها ذريعةً لترويج منطق التطبيع تحت شعار السيادة. دعا أبي نجم إلى «فرض هيبة الدولة» و«حصر السلاح بالقوة» بالطريقة نفسها التي يُفترض فيها «فرض السلام مع إسرائيل». وذهب رامي نعيم، نائب رئيس تحرير صحيفة «نداء الوطن»، أبعد من ذلك نحو إعادة إنتاج كاملة لمعجم الحرب الأهلية. في مقاله المعنون «إيليو أبو حنا أخطأ فقُتل في الغربية»، استعاد مصطلحات مثل «الغربية» و«طريق القدس» و«المسيحي الذي عرفته المقاومة من اسمه»، مستحضراً صور مجازر السبعينيات والثمانينيات ومذكّراً بخطوط تماس بين «المسيحي» و«الفلسطيني». أمّا صالح المشنوق فاستعاد اتّفاق القاهرة عام 1969 ليُرجِع أزمات لبنان المتتالية إلى التنسيق مع الفلسطينيين والسوريين سابقاً ثم حزب الله، مُعيداً تدوير سرديّة قديمة تعتبر كلّ أزمة حصيلة «السلاح غير اللبناني» و«الآخر الوافد». هؤلاء كانوا وجّ الصحّارة، بالمقارنة مع تدفّق العنصرية والكراهية والمطالبة بثأرٍ بلا رقيب.

بالمقابل، لجأ «الصحافي» علي برو، والذي لم يعد له دورٌ إلّا الاستفزاز ليبرّر وجوده المبتذل في الحيّز العام، إلى استفزازٍ معكوس. فنشر صورة الشهيد إبراهيم سلامة، موظّف بلدية بليدا الذي أعدمته قوّات الاحتلال قبل يومين، مع عنوان: «صورة خاصّة للمواطن إيليو أبو حنا»، في محاولةٍ لتحقير الضحية المسيحية، وتفريغ الموت من معناه عبر المقارنة التهكّمية بين الضحايا، وإعادة إنتاج سرديّة «المظلومية».

حادثة أمنية أليمة تحوّلت– مع رغبة العنف– إلى ما يشبه تمهيداً لحربٍ أهلية بين تجّار العنف الذين باتوا يهيمنون على المشهد الإعلامي اللبناني. 


المخدّرات

المخدّرات أنقذت البلد من حربٍ أهليةٍ.
فبعد حملة التطييف التي أطلقتها الأطراف المسيحية، جاء الردّ على شكل «تسليح» موضوع المخدّرات. فتمّ نشر مقاطع فيديوهات مقرفة عن مستخدمي مخدّرات، قيل إنّهم وصلوا إلى المخيّم لشراء المخدرات، ثم ركّزت الكاميرا على أي إشارة تدلّ إلى مسيحيّتهم، كتفسيرٍ مبتكَر لجريمةٍ وقعت في المخيّم، تتحمّل مسؤوليّتها الضحية. تفسير… تبرير… شرح… في المخيّلة العامّة، مستخدمو المخدّرات يستحقّون القتل. هذه المخيّلة، معطوفةً على عقلية الحرب الأهلية، تصبح كالتالي: مستخدمو المخدّرات مسيحيون، والتجّار مسلمون ويريدون إفسادهم؛ هكذا، يتحوّل موضوع المخدّرات الآن إلى تهديدٍ للسلم الأهلي، يتطلّب تدخّلات عسكرية لدرء خطره. 

في لحظةٍ يحاول فيها الأخصّائيون في موضوع المخدّرات نقل الملف من مقاربته الأمنية إلى مقاربةٍ نابعة من الصحّة العامة، ومن العقاب إلى العلاج، بهدف تخفيف العنف الأمني القضائي المزدوج على مَن يعاني من اضطرابات استخدام المخدّرات — في هذه اللحظة بالذات، جاء الإعلام اللبناني ليعيد تحويل الموضوع إلى ملفٍّ أمني، مرتبط بالحرب الأهلية وطائفيّتها، من دون المبالاة بأنّه بعد انتهاء سكوب المخيّم، سيكون هناك حيوات قد دُمّرَت، لإرضاء حبّ الإثارة عند البعض والكره الدفين عند البعض الآخر.


قُتِل شابٌ وهو يمرّ على حاجز أمني. هذه الجملة بذاتها كفيلة للمطالبة بتحقيق العدالة وفرض تدابير تمنع تكرارها. لكنّ تجار العنف لم يرضِهم ذلك، فعندهم رغبة للعنف عليهم استرضائها، حتّى ولو كان على حساب العدالة للضحية ومستقبل البلاد.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً