عزيزتي ك.،
لقد مرّ زمن ولم أفكّر بك. لا أتحدّث عنك أمام الكثيرين ليس لأنّني أخجل بك ولكنّي أظن أنني لا أحتمل استذكار ما حدث معك.
فأنتِ لم تسعك الفرحة حين نجحت بامتحان الدخول إلى معهد الفنون الجميلة- قسم المسرح. كان حلمك أن تصبحي ممثلة. أمّك لم تهنئك حينها بل اكتفت بالقول: ما شفتِ مين مات؟ فجاوبتها: لا إمّي ما شفت مين مات. مين مات؟
أحببت الجامعة وتعرّفت إلى أصدقاء وأحببت الأساتذة والمعلمات، عالم جديد، عالم حرّ، يُطلب منك أن تتثقّفي، أن تقرأي، أن تُكَوّني شخصية خاصة بك، أن تتحدّثي بصوت عالٍ وأن تعبّري عن نفسك وأن تكوني حاضرة «الآن وهنا» وألّا تفكّري بشيء آخر حين تعتلين الخشبة. ضحكتِ حين سمعت للمرّة الأولى أستاذ مادّة التمثيل يقول اطلعي من حالِك. وجدتِ هذه العبارة غريبة، ولكن قلتِ في نفسك خلص رح إطلع من حالي ما هو الإستاذ وأكيد بيعرف منيح شو عم يعمل.
هو الأستاذ، الفنّان، الدائم الاستشهاد بالمراجع الروسية، حافظ مسرحيات تشيخوف عن ظهر قلب. هو المخرج، مدير المحترف، حتّى أنه يعلّم في جامعة خاصّة ويدير برمجة مسرحها.
فما المشكلة إن صرخ في وجهك من حين إلى آخر؟ هذه طريقته كيّ يجعل منك ممثّلة. وما المشكلة إن شتمك أمام كلّ التلامذة وشتم فتيات أخريات أمامك؟ وما المشكلة إن لمسك في بعض الأحيان على ثدييك كي تغضبي منه وتطوّري الذاكرة الداخلية لمشاعر الغضب؟ وما المشكلة إن ضربك على قفاك حين يلتقي بك في ممرّات الجامعة؟ وما المشكلة إن قبّلك على رقبتك كي يسلّم عليك متحجّجًا بقصر قامته؟
هذا حتمًا لا يعني شيئاً، فحين اشتكيتِ منه قالوا لك: هيدي طريقته! وحين علم أنك اشتكيت منه قال لك: أنا بعمل فيك يللي بدّك ياه وإذا بدّي بسقطك. وحين ذهبتِ لرئيس القسم وقلتِ له أنكِ تتعرّضين للتهديد والتنمّر والتحرّش، أجابك: ما تتطاولي على أستاذك.
أكملتِ العام الدراسي وثابرتِ على حضور حصصه مرّتين في الأسبوع، وحين أتت نهاية الفصل وضع لك علامة لاغية، وحين سألتِه عن السبب قال لك أمام جميع الطلاب: إنت ما عندك لا الجسم ولا الصوت لتصيري ممثلة.
أنت اليوم وحيدة، لم يقف أحد من الطلاب بجانبك. كتب زميل لك عريضة ولم يوقّعها أحد. حاوطاك أستاذتا مادة الإيماء والتعبير الجسماني واستمعتا لك. رئيس القسم قال لك: بظبطلك العلامة إذا مضيتِ على تعهّد بعدم التعرّض للأستاذ.
ورفضتِ.
هكذا رسبتِ سنتك الثانية.
تذهبين صباح كلّ يوم عند صديقك كي يقرأ لك بالفنجان. فيتنبّأ لك بحياة جميلة ومستقبل لامع ويطمئنك أن كل شيء سيكون على ما يرام وأنه تعلّم قراءة الفنجان من جدّته، فكلّ شي عم قلّك ياه رح يصير.
وأنا أقول لكِ اليوم صدّقيه، كلّ ما يقوله سيحصل. سيكون لك مستقبل لامع وستصبحين ممثلة وكاتبة ومخرجة مسرح. ستسافرين مع صديقاتك وأصدقائك وستخبرون قصصًا وحكايات على خشبات المسرح في العالم. عالمك سيتمحور حول المسرح، عالم الجماعة، عالم الحبّ والمساواة. وستنسين كلّ هذا الفصل من حياتك. وأستاذك سيكمل كلّ حياته كأنّ شيئًا لم يكن: التعليم والإخراج وإدارة المسرح. ولكنّك ستنسين. لمدّة طويلة ستنسين وأنا أيضًا سأنسى قصتك.
ولكن سيأتي يوم بعد سبعة عشر عامًا وسأكتب لك رسالة أقول لك: ما حدا مات، كلنا نجينا. لأنّ أحدًا لم يعد يسكت. فَضحنه وفَضحن غيره وغيره وغيره... شبّان وشابّات يفضحون ويفضحن أساتذة متحرّشين، كلّهن وكلّهم معكِ اليوم وهم في عمرك. يوثّقون الأحداث، يكتبونها، ينشرونها، يطالبون بمعاقبة كلّ من اعتدى على حرمة أجسادهن وأجسادهم، أساتذة تذرّعوا بالمسرح وبالفنّ واحتموا بأنظمة الجامعات والمدارس المهترئة وبسلطتهم وسمعتهم وواسطتهم، كيّ يمارسوا أحقر أنواع القمع البطريركي من تنمُّر إلى تحرّش إلى اغتصاب.
لن يسكت أحد بعد الآن، والقانون سيحميك، القانون الرامي إلى تجريم التحرّش الجنسي وتأهيل الضحايا قدّ صُدّق اليوم.
ومِن ضحية ستصبحين ناجية، ومن ناجية ستصبحين فاعلة تغيير.
والتغيير آتٍ، فكلّنا معك.