يوميات أزمة الذكورة
دارين أبو سعد

درّاجتي، والذكور، وأزمتهم

1 نيسان 2023

قرّرتُ أن أشتري موتو. قبل عامَين، بدأت رحلة البحث عن أنسب موتو، توازياً مع رحلتي في التدرّب على motorcycle، أي «موتو مع غيارات». لمدّة شهرَين قصدتُ الكرنتينا، مرّةً بالأسبوع لمتابعة التعليمات. هناك التقيت سليم، مدرّب قيادة الدراجة، الذي سألني عن سبب شرائي للموتو. أذكر أنّ جوابي كان مزيجاً ما بين ليك زهقت إعلق بالعجقة وأصلاً النقل صارغالي، وبدّيش حدا يتحرش فيني بقى لا وانا وبالباص، ولا بالسرفيس ولا بالشارع. 


خلال رحلة البحث عن الڤولتي، قصدتُ عدّة متاجر لبيع الدرّاجات النارية. وأجمع الجميع على أن يتفاجأوا بإصرار شابّة على شراء ڤولتي لا سِواها. حاولوا إقناعي بخياراتٍ أخرى «تُلائم حجمي»، و/أو منظري و/أو جندري.

إذا بدّك تشتري موتو، جيبي سكوتير عالقليلة. 

الـnuance دقيقة للغاية. هنا، لا يتوقّف خيار الموتسيكل على ما يزعمون أنّه يتلاءم وشكلي فقط، بل يتعدّاه إلى مفهوم «العربشة»: لا حاجة لعربشةٍ تُذكر لركوب السكوتير، أمّا الفولتي، فعلَيّ «أن أُعربش» بغية تسلّقها. والبنت، عيب تعربش! وعند تحديد الموتو المناسبة للمرأة، يحدّدون الموتو المناسبة لهم، للذكور.

الـnuance أدقّ: فنحن نتكلّم هنا عن تجربة حسّية متكاملة: صوت السكوتير خجول، خافت. أمّا صوت الفولتي فيه شيء من الفحولة المزعومة، صاخب، وتتناسق ضخامة صوت الدرّاجة مع ذكورة صاحبها. غالباً ما يتبارزون حول صاحب الدرّاجة النارية الأسرع/ الأكثر إثارةً للأصوات. والضخامة والرخامة والصوت الغميق من شؤون الرجال، ولا يجوز لامرأةٍ أن تشاركهم التجربة. لا يحقّ لها أن تتمتّع بهذا التيستوستيرون الذي يفيض. فلتكتفِ بالسكوتر. أنعَم. صوتها واطي.

ع فكرة، الـvespa صوتها بعد أوطى، نصحوني فيها كتير.


بالنهاية، اشتريتُ الفولتي التي أُريد. لم أكن محتارةً؛ لكن كان عليّ أن أغوص بدرب التفاوض المضنية مع أصحاب المحلّات، الذكور، و«نصائحهم» هم حول رأيهم هم بما يستحسن لي أنا أن أقود.

لم أُعلم أهلي بهذه الخطوة. أخبرت بضعة أصدقاء، وتراوحت التعليقات من «بكرا بتتعلّمي وما بتعودي تشتري موتو»،  وصولاً إلى «بطلة».

جاهزة؟ يقول سليم، مبتسماً. 

ركبت الموتو، بخوفٍ بالبداية.

اوثقي بالموتو! يصرخ سليم. ما تخافي منها، إذا ما بتخافي منها ما بتوقعي عنها.


لكنّ التعليقات تتخطّى نوع الدرّاجة. فقد تبيّن أنّ الأزمة تتعلّق عموماً بأن امرأةً قرّرت أن تشتري هي، لها هي، درّاجة نارية. وأن تقودها هي، بنفسها، دون ذَكَرٍ تجلس خلفه، لا بل تضطرّ إلى احتضانه طول الطريق. ما عادت سلامتها معلّقة بخاصرة الرجل الذي تغمر. ولا بمزاجه على الدرّاجة، بل بمزاجها هي. هي وحدها.

عليها فقط أن تثق بالموتو. صارت العلاقة مباشرة، بينها وبين هذه الموتو، بلا جميلة الوسيط.
هكذا أريَح. أنا التي تقود، دون أن «أنقاد».


تحمّست. تحمّست للتنقّل في بيروت براحةٍ تامة. أن أذهب أينما شئت، متى ما شئت. أن أشاهد المدينة بتفاصيلها، بكادرٍ مفتوحٍ من الجهات الأربعة، دون أن تحدّه نافذة السرفيس. كرهت شوارع بيروت من خلف شبابيك الباصات والڤانات والسيرفيسات. كرهتها لا لما كنت أراه خارج الشبابيك، بل بسبب ما كان يجري داخل الشبابيك. لشدّة ما تعرّضت للتحرّش داخلها. ومثلي كثيرات، فالتوجّس من التعرّض لتحرّشٍ ما داخل وسيلة النقل دائم الحضور. نادراً ما نركب سيّارةً مع غريبٍ دون أن تراودنا فكرة أنّنا قد نتعرّض للتحرش. وهذه الـ«قد»، مزعجة، تضعنا في تأهّبٍ دائم، حيطة وحذر وتوتّر. لا أقصد بهذا التعليق أن أُلصق فعل التحرّش بالنقل العام. لا أقصد أن أحقّر من وسائل النقل المشترك المُفترض بها أن تكون متاحة للجميع. لكن للأسف لا يراها بعض الذكور إلّا صناديق للتحرّش. وكونهم يملكون هذه الصناديق ويقودونها، يعتقدون أنّهم يملكون فيها كامل حريّة وشرعية التصرّف. ايه لأ.

كانت الڤولتي حيلتي لتجنّب تحرّش وسائل النقل، لكني أعلم أنّها حيلة شخصية، ليست في متناول الجميع، ولا ترغبها جميع النساء. كانت الفولتي مشروعي لاستعادة حقّي بالنقل الخالي من المضايقات. 


ولمّا اعتقدتُ أنّي بلغت مرحلة «الخلوّ من التحرّش» في ما يتعلّق بالمواصلات، تبيّن أنّ اقتناء درّاجة نارية يفتح الباب على عالمٍ جديدٍ من التحرّش:

ايه يقبرني الله والڤولتي!

ذكرٌ يحدّق بي كأنّني مخلوق فضائي. آخر، على الموتو، يُسرع عمداً ليصبح بمحاذاتي. ثمّ يسرع أكثر بعد ليُريني سرعته، «فحولته الموتسيكلية». كأنّ فيه رغبة دائمة في تذكيري أنّ باستطاعته أنّ يقود الدرّاجة أسرع منّي. وأن يربح. بس انه يربح شو؟ أنا أصلاً لا أتسابق معه.

طبعاً، من الصعب تفويت فرصة «إسداء النصح»، التعليم: اعملي هيك/ ما تعملي هيك/ ع مهلك/ ما تسرعي/ انتبهي كيف بتقطعي عن السيارات…
ثم تأتي مرحلة التحدّي: قبّيها/ شيلي دولاب…
ثم يأتي «التصديق»، مثل ختم المختار. يوافق الذكر على أهليّتي في قيادة الموتو: والله قلبك قوي/ ما بكي شي…
ثم الحكم المهضوم: مجنونة/ متهورة…

استبعدتُ احتمال التحرّش الجسدي، صحيح. لكن لا يمنع أن أطيافاً أخرى من التحرّش تُهيمن على عالم الدرّاجات.

 كان هذا العالم مجهولاً بالنسبة لي قبل عامَين. لم أكن أعرف. ولمّا قرّرت، اعتقدتُ أن الخطوة بسيطة بساطةَ أن استيقظتُ صباحاً، اشتريتُ الموتو، طلعت عالموتو، وسقتها. فقط.

لكني الآن أعيش تجربةً مختلفة. فيها هذا الجانب «المُشرق». تجربة حسية، متكاملة. أشعر بمحيطي. أشعر بالهواء على جسدي. أرى. أُرى. خرجت من الصندوق. ذاك الصندوق الذي كان يملي عليّ ما أرى: السائق أمامي، عينا السائق أمامي في انعكاس المرآة، يده على المقود، الراكب بجانبي، عينا الراكب بجانبي، يده على…

الآن أرى. الآن أشعر. الآن أستطيع أن أتخيّل حريّةً ما، ولو مؤقَّتة. عالمي الخاص أنا والموتو، عالم أنفي منه هيمنة الذكور وأزمتهم وحاجتهم لحلّ هذه الأزمة على مقود درّاجتي.

هذا النص جزء من ملف «أزمة الذكورة وسؤال الذكور: ماذا يعني أن تكون رجلاً» والذي ينشر ضمن سلسلة «العمل النسوي وأسئلته المتجددة» بالتنسيق مع شبكة فبراير.

آخر الأخبار

تراجُع أميركيّ يفتح الباب لاجتياح رفح 
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 28/3/2024 
الخارجية الأميركية عن تقرير ألبانيزي: مُقرّرة معادية للسامية
حدث اليوم - فلسطين الخميس 28 آذار 2024 
اقتراح قانون شامل لمناهضة العنف ضدّ المرأة
الادّعاء الإسباني يطلب السجن عامَين ونصف لروبياليس