تحليل الثورة السورية
وضاح شرارة

نكبة حيّ التضامن الدمشقي: سياسات الأهل-«الدولة»

20 تموز 2022

حين نشرت الرئاسة السورية، في 30 نيسان/ أبريل 2022، مرسوماً تشريعياً يمنح عفواً عاماً عن جرائم الإرهاب التي ارتُكبت قبل تاريخ المرسوم، أسرع معلّقون ومراقبون إلى ربط المرسوم، وتاريخ نشره، بصدور تحقيق كتبه باحثان هما أور أوميتأونغر وأنصار شحود، ووسماه بعنوان قرابين التضامن، في مجازر أودت بحياة 288 سورياً وسورية. وارتكب أعمال القتل موظفان أمنيان، هما أمجد يوسف ونجيب الحلبي، من الفرع 277 في شعبة الاستخبارات العسكرية.

من إعدامات مجزرة التضامن

وكان شفيق مصة على رأس الفرع حين ارتكاب المقاتل أو المجازر الموصوفة. وخلفه كمال الحسن، وهو قائده اليوم. وتعاقب على قيادته «نخبة» الأمنيين الأسديين. فمنهم رستم غزالة، والي جهاز الرصد والاستطلاع في قوات الردع السورية بلبنان، خلفاً لغازي كنعان، «قتيل» مرحلة اغتيال الحريري، وأوّل «شهدائها» إذا استثني «الحاج رضوان» (عماد مغنية) في شباط/ فبراير 2008. وهذه قضية أخرى.

وقُتِل غزالة — وكان رقّي إلى رئاسة الأمن السياسي، في منازلة مع رأس الأمن العسكري — فيمن قُتلوا من قيادات أمنية وعسكرية اضطلعت بأعمال عسكرية وقتالية مجيدة في لبنان «السوري»، أو «اللبناني-السوري». واستحقت عليها، شأن غزالة «بندقية المقاومة» من يد «سيد المقاومة» عشية جلائها المهيب والكريم، في أواخر نيسان/ أبريل 2005، عن وطننا «الناقص» (أرضاً وجغرافية وهوية ومعنى وكرامة) على قول أحد المناضلين.

وفي أواخر أيار/ مايو المنصرم، أذاعت مصادر سورية رسمية (سانا) خبراً عن توقيف شفيق مصة، بعد كفّ يده. وجزء الخبر الآخر هو اعتقال أمجد يوسف، وتأريخ هذا الاعتقال بأشهر قبل الخبر. وقوّى الخبر المزدوج ربط المرسوم الاشتراعي رقم 7/2022 بالتحقيق في مقاتل سكان حي التضامن، القائم خارج بوابة دمشق الجنوبية، على طرف حي الميدان، بينه وبين حي السيدة زينب، وباب شرقي «قلب الحياة الليلية» الدمشقية، على وصف كاتبي التحقيق.

تظاهرة في حي التضامن، 26 أيّار 2012

وكان هذا نُشر بالإنكليزية، على موقع إلكتروني، في الشهر الثاني من السنة الجارية. ونقله موقع الجمهورية، السوري المعارض، إلى العربية (وتولّى الترجمة مهند أبو الحسن ودمر سليمان) ونشره في 27/4، وعن ترجمة الموقع أنقل.

 

«الحماية من الإرهاب»

ويتناول التحقيق مصدرين أو مرجعين هما، أوّلاً، 27 مقطع فيديو، صوّرها القاتلان في 16/4/2013، على الأرجح. وتصوّر المقاطع مشاهد من عمليات قتل 288 سورياً وسورية، أوقفوا على عشرات الحواجز التي نصبها «أمراء الحرب» الأسديّون وشبّيحتهم، ثم أعضاء قوات الدفاع الوطني «الرسمية» (شتاء 2012)، في 13 منطقة عسكرية، أو قطاعاً عسكرياً، قطِّع إليها حي التضامن.

والمرجع الثاني يعود إلى 2018، وهو ملف شخصي أنشأه الكاتبان على الشبكة باسم فتاة علوية من حمص سمّياها «أنّا»، وأوكلا إليها مراقبة منتهكي حقوق الإنسان السوريين، الناشطين على الإنترنت، والاتصال بهم ومحادثتهم. وعلى هذا، حادثت «أنّا» وزميلاتها وزملاؤها عشرات المحاورين من مؤيّدين وأنصار أسديّين و«أصدقاء». وبعض هؤلاء، وأمجد يوسف واحد منهم، نشروا في مواقعهم وعلى حيطانهم صورَهم، وصور أصحابهم وأهلهم وقتلاهم، وأجزاء من ملفاتهم، ومشاهد من أفعالهم أو أفاعيلهم. وكانت هذه ذريعة «أنّا»، ومن ورائها أور أوميت انغر وأنصار شحود، إلى طلب المحاورة، وإلى استدراج أصحاب الصور والمشاهد إلى الكلام.

وتصلح ملاحظات الكاتبين على عملهما، ومراحله ورسائله، مثالاً للتحقيق أو التقصّي الخبري — الصحافي أو «الاجتماعياتي» (السوسيولوجي)، إذا جازت الرطانة، أو البوليسي الأدبي — في ميدان تكتنفه التعمية المتعمّدة، وتتخلّله من أدناه إلى أقصاه.

وزعم أحمد الكزبري، رئيس «الوفد المسمّى من الحكومة» الأسدية إلى مفاوضات جنيف الدستورية، في دورتها الثامنة أو الأخيرة، أن 

مسؤولية مؤسسة الجيش (السوري) حماية الوطن ضد الإرهاب والاحتلال (...) ولا يوجد جيش حيادي في موضوع حماية الشعب، والفساد والفشل المؤسسي هي حالات فردية ولم تنل من صمود المؤسسات السورية والتزامها بواجباتها (...) واستعمال الاتفاقيات الدولية في مجال (حقوق الإنسان) باب لاختراق السيادة السورية.

والرد على مثل هذه المزاعم التي تكررها أجهزة النظام الدعائية، ويكرر شبهها ونظيرها «الحلفاء» الإيرانيون والروس، هو جلاء الوقائع الموثّقة و«محاضرها»، على شاكلة ما صنع أور أوميتأونغر وأنصار شحود. والتعليق على عملهما يقصد التذكير بالعمل، ويدعو إلى العودة إليه وقراءته والتأمّل فيه، من وجه. ويقصد، من وجه آخر ومُلازم، الإفادة من نقله المناقشة من الجيواستراتيجية المزعومة — على ما يصنع الحزب الأسدي ومحازبه أحمد الكزبري (مقابلة «الداخل» الحاكم والحسن بالخارج القبيح)، وعلى ما يصنع علي خامنئي في ذكرى وفاة سلفه المرشد الأوّل روح الله خميني (دمج «الرأي العام» في «المؤسسة الحاكمة» و«الشعب» في «النظام») — إلى التأريخ اليومي للوقائع، وتدوين روابطها في مدد طويلة تمتنع من التعليل بمقتطفات من المراسلات الدبلوماسية وقصاصات الأمنيين.

 

مقاتل التضامنيّين

والوقائع التي يرويها التحقيق عنف محض ومروّع. ففي 2013، وقد انقضى عامان على بداية الحروب الداخلية السورية وهجوم النظام العسكري والعصبي على الحراك المدني والأهلي، كان نصف الأراضي السورية خارج سيطرة نظام الأسد الابن. وخسر النظام في الأثناء معظم الغوطة الشرقية وضواحي دمشق الجنوبية. واقتربت فصائل المعارضة المسلّحة من المدينة.

وفي شباط/ فبراير 2012، شنّت بعض الفصائل هجوماً على كفرسوسة جنوباً، وعلى جوبر شرقاً. وأخفق الهجوم، لكنه خلّف وراءه طيف معاودته ونجاحه، وتهديد حي التضامن وسكانه الموالين للنظام بالاكتساح وتصفية الحساب.

نجيب الحلبي

وفي 14 آذار/ مارس دخلت بعض قوات المعارضة المسلّحة بلدة يلدا القريبة. وكتب أحد المسلحين أو أحد أنصارهم، على جدار من جدران حي التضامن، مؤرًّخاً، فتح بلدة يلدا 14/3/2013. في 16 نيسان/ إبريل 2013، أوقف أمجد يوسف — 27 عاماً يومها، مولود في قرية نبع الطيب العلوية بسهل الغاب، ومتخرج في 2004 من مدرسة المخابرات العسكرية بميسلون برتبة صف ضابط ومحقق في فرع 277 بكفرسوسة—، ومساعده نجيب الحلبي — ابن عائلة درزية نزحت من الجولان إلى التضامن حيث ولد وشبّ، وفتح ملهىً في باب شرقي، وأنشأ أوّل مجموعة من الشبّيحة مركزها على خط الجبهة، واختصّ في حفر الأنفاق والخنادق — أَوْقفا على حواجز الحيّ وجواره، ويبلغ عددها 60 حاجزاً، 41 شخصاً، وأعدماهم، ورمياهم في حفرة حفرها الحلبي في وسط أحد الشوارع غير المأهولة بالحي، في غضون 25 دقيقة. وأضرما النار في الجثث، وأحرقا إطارات سيارات في قعر الحفرة التي يبلغ عمقها 3 أمتار، فوق الجثث. 

ويُرى أمجد يوسف في فيديو وهو يقود جرافة، ويحفر الحفرة الجماعية، ثم يقصف الشارع الذي قتل فيه ضحاياه. فيعمّ الشارع دمار شامل، وينخر الرصاص الذي أطلقه صف الضابط المحقق الجدران. وتختلط آثار القصف بثقوب الرصاص، وملابس القتلى بالدم والإطارات. ويشبِّه المشهد ساحة حرب اندلعت بين متقاتلين، وأودت بمن أودت بهم وقتلتهم من غير قصد ولا فاعل. ولا مسؤولية.

أمجد يوسف

ويجهر القاتل أمجد يوسف «نظرية» في إعداد ساحة القتل على شاكلة ساحة حرب تضيِّع (لولا اعترافات الفيديو) آثار الإعدام الجماعي والعشوائي. فيقول: 

أفضّل (القتل) على خط الجبهة وينتهي الأمر. فلماذا أجلب عدوّي إلى السجن وأُتّهم بقتله وأعطيه رقماً وماءً وهو عبء على الدولة.

 

«موت ياع...»

ولكن ينبغي، في عرف القتلة، ألا يبطل المشهد الغفل والمختلط متعة القتل الممهور بتوقيع القاتل. ويتولى التصوير بالفيديو هذا العمل. فيُرى القاتل وهو يدخّن، ويخاطب عدسة آلة التصوير، ويُخرج الضحية معصوبة العينين من سيارة النقل الجماعي البيضاء، ويقتادها إلى حافة الحفرة الكبيرة، ويلقيها فيها وهو يطلق النار عليها من رشاش كلاشينكوف أو من مسدس. وبعض «زملاء» أمجد يُرَوْن وهم يطلقون النار من بنادقهم الآلية الروسية بيد واحدة، بينما اليد والذراع الحرّتان تهلّلان للرصاص ولعلعته، وتحتفلان به.

ويوهم القاتل، أمجد يوسف أم فادي الحلبي أم أحد أعوانهما، الضحية المعصوبة العينين، بتهديد قنّاص. فيدفعها إلى الحفرة وهو يحذّرها من القنّاص، ويحاكي حمايتها منه في أثناء قتلها. ويهتف فادي الحلبي بأمجد يوسف: لعيونك يا معلّم!. ويأمر كلاهما الضحية بالمشي أو بالركض أو بالطلوع. والضحية، رجلاً أو أمرأة أو ولداً أو شيخاً، التي لا تموت برصاصتين، ويقتضي موتها رصاصة ثالثة، تُلام على هذا بعبارة نموذجية: موت يا عرصة، ما شبعت؟

ويجمع المشهد المصوّر، وهو مشاهد على عدد مقاطع الفيديو السبعة والأربعين، سعي المصوِّرين القتلة إلى إخراج مقتلتهم إخراجاً احتفالياً ومسرحياً «باذخاً»، على قول «شعريّ» سائر، إلى إرادتهم محو الآثار التي قد تقود إلى تعقّبهم والدلالة عليهم. فهم لا يتخفّون، ولا يتقنّعون، ويواجهون عدسة التصوير حاسرين وعارضين أجسادهم في وقفات صيد — الضحية أو الطريدة تتوسّد الأرض بينما تُشهر البندقية سيفاً لامعاً وبارقاً بالقوة والسلطان — وانتصار شامخة. ويلاحظ أونغروشحود أن فيديو القتلة الأسديين، على خلاف فيديو «داعش»، يبرز القَتَلة ويُغفل القتلى

من إعدامات مجزرة التضامن

وضحاياهم الـ288 (مجموع القتلى في المقاطع كلها) معظمهم إما شبان في حوالى العشرين، وإما مكتملون في منتصف العمر. وفي العدد أطفال ونساء (يحصي المحققان سبع نساء، ستّ منهنّ «محجّبات»)، ومسنّون. ومعظم القتلى سُنَّة، وقلة إسماعيليون، على ما أظهرت تحقيقات موضعية تولّتها محادثات على الإنترنت ومعاينات ميدانية في الحي وجواره، ومع نازحين ومهاجرين.

ويغلب العمال وفئات «الطبقة الوسطى» على الضحايا. ولا يبدو الهزال الذي تخلفه المعتقلات في المعتقلين على الجثامين. وهذا يرجّح «صيدهم» على الحواجز المنتشرة على أبواب الطرق ومفترقاتها، وعلى مداخل الأحياء الفرعية، أو إخراجهم من منازلهم. وثيابهم — وهي خليط من ملابس منزلية و«معيشية» (تُلبس في غرفة المعيشة)، ومن بناطيل جينز لكل المناسبات والظروف، ودشاديش وقمصان — تنمّ بفقرهم ورثاثة أحوالهم.

واقتيد الضحايا إلى الموت وهم سكوت. وواحد منهم قضى ذبحاً من غير أن يُسمع صراخه أو أنينه. والتوسُّل كذلك كان قليلاً، شأن البكاء والصراخ. ولم تنطق ضحيّة واحدة بالشهادتين. ويستنتج من الصورة التي أُنجزت عليها أعمال القتل: عصب العينين، التحذير من قناص متوهّم، تمثيل ساحة حرب... أنه لم يكن في وسع الموشكين على الموت قتلاً الاستدلال بأمر مفهوم على ما يصنعه القتلة بهم، ويعدّونه لهم. فوقعَ الموت عليهم وهم يتلمّسون مواضع أقدامهم. ويُرى في فيديو آخر جثامين أطفال في غرفة مظلمة. ويعرّف أمجد القتلى: هم أطفال كبار المتموّلين في حي ركن الدين.

 

القتلة الموظّفون

والفظاظة والقساوة في القتل هاتان لا تعلّلان ولا تعقلان، على معنى الردّ إلى عوامل تحيط بسيرورات مفهومة أدت إليهما، وولدتهما ولادة متصلة و«طبيعية». والعنف الحاد الذي يتخلّل أفعال أمجد يوسف وفادي الحلبي، وعلى حفظه والإدلال به بعد انقضاء وقت على ارتكابه — لا يبدو هذا العنف، والحال هذه، ردّاً ظرفياً وآنياً على حوادث طارئة أو داهمة.

وهو ليس، من وجه آخر، سمة أو صفة فردية تخصص هذين وأمثالهما، وتعود إلى ملابسات نشأةٍ وسيرةٍ يتقاسمها الاثنان مع فئة أو فئات من الناس. فحصيلة هذا العنف — على «مستوى» السوريّين، والحروب الداخلية المختلطة والمركبة المستمرة منذ إحدى عشرة سنة وربع السنة، والبالغة مئات آلاف القتلى والمفقودين والجرحى وملايين المهجّرين والمقتلعين والمهاجرين — قرينة صارخة على وظيفيته وبنيانيته، وتغلغله في طوايا أو ثنايا العلاقات السياسية والاجتماعية السورية.

فالقتلة «موظّفون» في أجهزة أو أذرع، على ما يقال في فروع الأمن وعلى مثال الأخطبوط في آن، أُنشئت محاكاةً إدارية لنسيج المجتمعات (الجماعات) السورية، وتضاريسها المحلية والموضعية، من جهة، وعلى شرط ألا تفقد هذه الأذرع، في الأثناء، التحاقها المركزي من طريق روابط وعرى قوية، ومستقلة عن المراتب والأبنية الإدارية والبيروقراطية، من جهة أخرى.

من إعدامات مجزرة التضامن

فأمجد يوسف موظف أمني مختلط الهوية الوظيفية ومهجّنها. فهو التحق بمدرسة المخابرات العسكرية، بميسلون، في 2004، في الثامنة عشرة من العمر. وتخرّج برتبة صف ضابط محقق بعد تسعة أشهر من التدريب «الكثيف»، على ما يصف إعداده. وأُلحق، في 2011، بالفرع 277 في كفرسوسة. وصفّ الضابط الجديد لم تنقله وظيفته من مجتمع عائلي وضيعوي، إلى مجتمع آخر مختلف، مهني وإداري.

فأبوه عمل قبله، في الجيش وفروعه الاستخبارية. فتقلّب الولد، ثم الشاب، وهو ابن أسرته ثمّ «ابن الدولة»، على ما يقال في بعض الأرياف اللبنانية «العثمانية»، في بيئة أهلية تكاد تكون واحدة ومندمجة في النظام الأسدي، ولا تفصل فصلاً واضحاً ولا غامضاً بين معاملات الأهل ومعاييرهم، ومعاملات الوظيفة والعمل ومعاييرهما.

وعلى خلاف الاتصال الأهلي المهني هذا، تقيم جماعات السوريين في ضواحي دمشق الشرقية والجنوبية الغربية، والتضامن وكفرسوسة وجوبر والغوطة ويلدا منها، في مجتمعاتها «الخاصة» والواحدة على حدة من الأخرى. فهي، منذ نحو ستين عاماً، مهاجر وملاجئ، (ومعازل) لجأ إليها «مشرّدون»، من الجولان المحتل والسويداء وبادية حمص وسهل الغاب. وبعضهم هرب من الاحتلال الإسرائيلي، ولم يرجعه إلى أرضه إحجام الحكم عن إعمار البلاد التي جلا عنها المحتلّ. وبعضٌ آخر حمله الجفاف الذي ضرب الأرياف وأطراف البوادي في العقد العاشر من القرن الماضي، ثم في 2003، على النزوح، جماعة يجمعها «أصلها» ودمها، وعزلاء، إلى أماكن تفتقر إلى مقومات الاستقبال.

 

مجتمعات الانكفاء

فانكفأ دروز الجولان على مجتمعهم ومثلهم علويّو السهل وإسماعيليّوه، وسُنّة الجنوب الغربي وتركمان وكرد، ونزلوا أرضاً أحالها العوز والارتجال إلى عشوائيات. وأحالت البطالة شبّانها إلى صيد سهل لأجهزة الأمن المتربّصة، والمتوجّسة شراً من سكان «ليس عليهم رباط»، على قول لبناني مديني. فقايضت الأجهزة إجازة البناء الفوضوي بالعمالة لها، ومراقبة السكان والوشاية بهم، واستتباعهم (جعلتهم أتباعاً) — على وصف شعبان عبود، الباحث الاجتماعي السوري، أحوال هذه الجماعات (في فصل من سوريا حاضراً، بالفرنسية، دار سندباد، باريس 2007).

وعندما خرج سوريون كثر على الطغمة الأسدية، في آذار/ مارس 2011 وبعده، وتظاهر أهالي التضامن فيمن تظاهروا وأنشأوا تنسيقيات (ثلاث) محلية، ردّت الجماعات الموالية على المثال الذي ساس عليه النظام السوريين وجماعاتهم ومجتمعاتهم. فنشأت وأُنشئت ميليشيات عصبوية كثيرة ومتنافسة، قسّمت حي التضامن 13–15 منطقة عسكرية أو قطاعاً، ونصبت 60 حاجزاً، في إمرة أمراء حرب، موظفين في جهاز من الأجهزة الكثيرة، على شاكلة أمجد يوسف، أو عملاء خاصين و«أحراراً»، على شاكلة فادي الحلبي الذي يملك ملهىً ليلياً، في باب شرقي، يرتاده عراقيون مهاجرون أو مهجّرون، من أنصار صدام حسين وموظّفي وطفيليّي نظامه سابقاً.

حيّ التضامن، 2018 (AFP/Louai Beshara)

واختلطت المراتب الأهلية بالمراتب البيروقراطية «الرسمية» في الميليشيات الأسدية على نحو ضيَّع صفة الأعمال التي ارتكبها مسلّحوها. وضيّع صفة مرتكبيها، والآمرين بها، ومحا الفروق بين المهمة النظامية الإدارية والسياسية وبين الثارات الفردية والعصبوية، وأعمال السرقة والسطو، والبلطجة الخالصة في أرض سباء «هوبسية» (من هوبس، مفكر السياسة الإنجليزي) أو مسبعة، على قول عربي، يقتتل كلٌّ فيها مع كل. لا مخابرات كلنا جيش، المهمات نفسها.

وتوّج إنشاء الشبّيحة (قوات الاتحاد الوطني) في 2012، من الأقليات وفي ثياب مدنيّة ومن غير قيد بيروقراطي أو قانوني، هذه السياسة، اللصيقة بأبنية الديكتاتورية الأمنية والعصبية السورية (في عهد السلالة المتسلّطة). وأُوكل إليها، ما أوكله عناصرها لأنفسهم قبل تجنيدهم وبعده، اقتحام الأحياء، وتفريق التظاهرات، ومصادرة الممتلكات، وتعذيب الموقوفين، والخطف على الحواجز وفي الطرقات، واغتيال الناشطين و«الفاترين» المنتظرين، وارتكاب المجازر الجماعية إرهاباً واقتصاصاً وتثبيطاً وانتقاماً، بحسب الأحوال وعلى هوى «فرسان» النظام وقواته الخاصة و«رجال موته»، على ما لقّبت حاشية مؤسس السلالة بعض أجسامها الأولى.

وأمجد يوسف فقد أحد إخوته التسعة، فهو بكر عشرة أولاد لوالده ووالدته، في دوامة النزاع والحرب التي أصلاها الحكم المتظاهرين ثم المقاتلين. وكان ذلك في 1/1/2013. وعلى هذا يسعه القول: أنا انتقمت (...) أنا فخور باللي عملتو. وانتقامه وثأره الأخويّان والعائليّان، وقيامه بمهمة «نظامية» تترتب على انتمائه إلى جسم الدولة وتقتضي قتال الأعداء — الوجهان أو الأمران هذان شيء واحد، ويراه صف الضابط المحقق واحداً.

ويتصل أفراد الوسط الذي يتقلّب أمجد يوسف فيه بالمركز. فمعاون أمجد يوسف الثاني، بعد فادي الحلبي، ويدعى فادي (أو أحمد) صقر، تربطه علاقة مباشرة بالرئيس بشار الأسد. وعادت عليه علاقته هذه بالثراء. وقائد الشبّحة في حي التضامن، ويدعى أو منتجب، متّهم باغتصاب نساء كثيرات. ورئيس أركان قوات الدفاع الوطني، في القصر الجمهوري، هو بسام مرهج الحسن، وتربط أمجد يوسف به «صداقة» ومعرفة. وأبو علي حكمت، قائد آخر من قادة قوات الدفاع، ضابط سابق في سرايا الدفاع (قوات رفعت الأسد، شقيق حافظ وعم بشار «العائد»)، اختار مقبرته لحرق الجثث في الحي. ويزعم أنصاره أنه قتل 30 ألف مدني في الأعوام 2012–2015...

آخر الأخبار

«لا مجاعة في غزّة»
جعجع: الأمن الذاتي بحجّة مكافحة النزوح السوري
اجتياح رفح 
الإفراج عن الأكاديمية نادرة شلهوب كيفوركيان
خوفاً من مذكّرة اعتقال دولية
هكذا يعذّب الاحتلال الدكتور إياد شقّورة