لم يكن السوريون وحدهم من واجه وسيواجه سؤال الفظيع وتمثّلاته، بل سيشاركهم الأسئلة ذاتها العديد من المشتغلين بالصورة والمنتجين لها في فلسطين ولبنان، خصوصاً بعد حرب الإبادة الإسرائيلية الأخيرة في غزة، حيث سيطرح من جديد السؤال ذاته حول ماذا نصوّر وكيف نصوّر؟ وماذا نشاهد وكيف نشاهد؟ وماذا نعرض وكيف نعرض؟ لا بل وجدوى ما نعرض.
هنا محاولة لاستئناف نقاش سابق لم ينتهِ مع الصديق ياسين الحاج صالح حول الفظيع وتمثّلاته، ودعوة لإعادة التفكير في صورة الفظيع على ضوء الأحداث الأخيرة في سوريا.
نقاشات بالفظيع
على عكس مجزرة حماه في العام 1982، التي بالكاد نعثر في أرشيفها على أية صور للفظائع التي ارتكبتها القوات الأسدية في ذلك الزمن داخل هذه المدينة السورية بعدما استباحتها بالكامل، فإنّ اندلاع الثورة السورية في العام 2011 في ذروة انتفاضات الربيع العربي، رافقتها تغطية واسعة وآنيّة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ونتج عن ذلك تدفّقٌ هائل للصور التي وثّقت الكثير من الانتهاكات وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها القوات المسلحة السورية والميليشيات الاسدية، إضافة الى بعض فصائل المعارضة والفصائل الجهادية.
شكّل تسريب وعرض الصور التي هرّبها «قيصر» لبعض من قتلهم النظام تحت التعذيب (55 ألف صورة لـ11 ألف معذّب مقتول بين بداية الثورة وآب 2013)، علامةً فارقة في هذا السياق، خصوصاً بعد فشل الجهات السورية المعارضة المعنية بهذه الصور في تنظيم وتقنين آلية الوصول إليها لمساعدة أهالي المفقودين والمغيّبين، ولتجنيبهم هول وفظاعة تجربة التحديق في 55 ألف صورة منشورة على الإنترنت لجثث مشوّهة تحت التعذيب، بحثاً عن أحبابهم وأقربائهم المفقودين. أضف إلى ذلك إباحة استخدامها من دون رقيب أو حسيب في العديد من الأفلام الوثائقية وتنظيم معارض لها في العديد من المحافل الدولية، بما فيها مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك في العام 2015.
ترافق انتشار صور الفظاعات وإعادة تداولها من دون أية محاذير أو قيود مهنية وأخلاقية، بفتح باب النقاش واسعاً حول ما الذي يمكن عرضه وتداوله من صور الانتهاكات، وكيف؟ وأين؟ ولماذا؟
وقد طال النقاش في مرحلة لاحقة الانتهاكات التي تمّت من قبل بعض فرق التصوير التلفزيوني والسينمائي في استخدام أماكن وقوع هذه الجرائم ضدّ الإنسانية كـ«لوكيشن» لتصوير المسلسلات والأفلام، وهي بالأساس أماكن لجرائم استخدام السلاح الكيميائي في الغوطة أو جرائم تدمير المدن والأحياء وتهجير سكانها من خلال الحصار والتجويع والقصف بالبراميل المتفجرة الملقاة على رؤوس ساكنيها، كما حدث في دمشق وحمص وحلب ودير الزور وأريافها.
وإذا كان العديد من المتحاورين اتفقوا على ضرورة حفظ هذه المواد المصورة في الأرشيف واستخدامها في التحقيقات لكشف الجرائم وتحديد المجرمين وملاحقتهم والوصول إلى هوية الضحايا وإبلاغ عائلاتهم، فإنهم اختلفوا حول ضرورة تقييد استخدام صور الفظائع، بين من يقول بإباحتها بالكامل للناس وصولاً إلى ضرورة التحديق بالفظيع متحدّثاً عن «مشاعية الصورة» كخيار أكثر اتساقاً من غيره في غمار الأزمة التأسيسية، كحال ياسين الحاج صالح في مقاله «التحديق في وجه الفظيع»، وبين من يدعو لضرورة تقييد استخدام هذه الصور في الفضاء العام وعدم كشف وجوه الضحايا للملأ، خصوصاً في وسائل الإعلام وفي حقل الفنون البصرية والسينمائية، حفاظاً على كرامة الضحايا وتجنيباً لأهالي وذوي الضحايا والمفقودين المزيد من المعاناة والصدمات، كحال كاتب هذه السطور في ردّه على مقال ياسين الحاج صالح في مقاله «الكرامة في حضور الفظاعة».
مجزرة التضامن
في 22 نيسان 2022، صُعِق السوريون والعالم باكتشاف وقائع مجزرة التضامن من خلال مقال نشرته نيو لاين مغازين بقلم الباحثَيْن أنصار شحود والبروفيسور أور أنغور (المعهد الهولندي لدراسات الحرب والهولوكوست والإبادة الجماعية)، ونشرت نتائج هذا البحث الاستقصائي بالتزامن مع جريدة الغارديان الإنجليزية.
تعود وقائع المجزرة إلى بداية العام 2013 في حي التضامن الدمشقي، وقد وصلت الفيديوهات المسرّبة من كمبيوتر أحد عناصر النظام إلى الباحثة أنصار شحود التي عملت على الكشف عن هوية الجناة، وعلى رأسهم أمجد يوسف الذي كان يشغل بعد عام 2011 صف ضابط مُحقِّق، في فرع المنطقة أو الفرع 227، وهو فرع تابع لشعبة المخابرات العسكرية.
وأظهرت مقاطع من التسجيل المصوّر الذي نشرته صحيفة الغارديان عناصر من مخابرات نظام الأسد وعلى رأسهم أمجد يوسف، وهم يعدمون عدداً من المدنيّين وهم معصوبو الأعين، وأيديهم مقيّدة، قبل دفعهم إلى حفرة وإطلاق الرصاص عليهم ومن ثمّ حرقهم، في أحد أزقّة حي التضامن بدمشق. وقد قامت الصحيفة يومها بتمويه وجوه الضحايا، كما أنها في احترام لأخلاقيات العمل الصحفي والقوانين المرعية في بريطانيا، لم تنشر إلا بعض المقاطع المصوّرة التي توثّق الجريمة ومجرياتها وتضعها في متناول الرأي العام من دون نشر كامل المقاطع الفظيعة بمعزل عن أي قيود ومحاذير.
وأشارت الباحثة السورية أنصار شحود إلى أن الـ41 ضحية الذين ظهروا في الفيديو هم جزء من آلاف الضحايا، وأن الفيديو هو دليل من أدلة أخرى جُمِعت في التحقيق الذي حصل على 27 مقطعاً مصوَّراً تحتوي جميعها على مشاهد قتل في نفس المنطقة، ونفس المكان وذات أسلوب القتل.
لم تمضِ ساعات قليلة حتى تمّ تسريب العديد من الفيديوهات ومقاطع القتل، بمعزل عن أنصار وفريق بحثها، وتمّ وضعها من دون أي إجراءات احترازية في متناول السوريين وعائلات الضحايا والمفقودين في تلك المنطقة، بعيداً عن موافقة أنصار وزملائها في المعهد الهولندي. وقد دفع ذلك الباحثين إلى دعوة أهالي ضحايا المجزرة إلى تجنب مشاهدة هذه الفيديوهات وإلى تزويد الشرطة الألمانية بالمعلومات عن ذويهم، وتمّ تزويدهم بالإيميلات وأرقام الهواتف الضرورية. وتمت دعوتهم الى التواصل مع هيئة الشرطة الدولية الألمانية المتخصصة بجرائم الحرب BKA التي زُوِّدَت بفيديوهات المجزرة كونها ستتولى بمساعدة الشرطة الألمانية تحديد الضحايا مع مراعاة الشروط العلمية والمهنية، باعتبارها أولوية وضرورة إنسانية وخطوة على طريق تحقيق العدالة، حسب البيان.
طريقة تسريب الفيديوهات واللغط الذي دار من حولها، أعاد من جديد فتح النقاش حول صور الفظائع وطريقة الوصول إليها، وقد نشرت أنصار شحود يومها نداءً صوتياً عاجلاً جاء فيه:
أنا أنصار شحود، بتمنى عليكم ما حدا ينشر الفيديو، لأنه أوّلاً فيه انتهاك لكرامة الناس ولكرامة الناس يلي قتلت. ما حدا بيتمنى يشوف ابنه والناس تشوفه كيف توفى بهذه الطريقة! نحنا هدفنا من هذا البحث نحكي حقيقة يلي كان عم يصير وننشر الحقيقة من دون ما نؤذي أهل الضحايا ومن دون ما نؤذي كرامته.
ثاني نقطة اذا كنتم تتمنون ان يوصل هذا البحث الى العدالة، من فضلكم جميعا ما حدا ينشر هذه الفيديوهات لانه بمجرد ما تنشروا هذه المواد ما عاد فيه حدا يستخدمها وبتفقد قيمتها في المحاكم او بيكون اقل اهميه.
من فضلكم جميعا انا لم انشر أي شيء ولم أُعطِ الحق لأي حدا ان يدخل على الدرايف تبعي، وبتفاجأ في حدا داخل على الدرايف واخذ هذا اللينك. من فضلكم جميعا انه لا أحد ينشر هذه المواد وبنتشكركم ونحنا هلق عم نعمل جهدنا انه ينسحب من الويب.
في المقلب الآخر، ظهرت بعض الأصوات الموتورة التي ملأت وسائل التواصل الاجتماعي، مثل الصحافي السوري حكم البابا الذي كتب على صفحته على الفيسبوك في 1 آذار 2022 الآتي:
أنصار شحود طالبت السوريين الذين وصلهم فيديو مجزرة حي التضامن بدمشق الكامل بحذفه، بحجة تأثيره على سير العمل القضائي، والاكتفاء بلقطات الفيديو الصغيرة والمموّهة التي نشرتها جريدة الغارديان البريطانية.
شحود تعلن في رسالتها انها تمتلك مقاطع أخرى كثيرة للمجزرة، وتصر بطريقة لا أفهمها على ان نشرها يؤثر على سير العدالة.
والتفسير الوحيد في رأيي هدفه إخفاء الحقيقة، لأن نشر هذه الفيديوهات الوحشية والمؤلمة سيوجه حقد السوريين الضحايا نحو الطائفة العلوية، التي ينتمي مرتكبو كل الفظائع التي صُوِّرت وسرِّبت عبر سنوات الثورة إليها، مثلهم مثل أنصار شحود التي تحاول التأثير في سير العدالة بإخفاء الحقيقة وطمسها لحماية القتلة والمجرمين الذين ينكلون بسوريا والسوريين منذ ستين عاماً.
انشروا فيديوهات المجزرة وتداولوها فيما بينكم، ولا تتركوا فرصة للحصول على ما تم إخفاؤه، فلا عدالة بدون شفافية، ولا حق بدون إعلان.
للأسف، يومها، لم تدفع حادثة التسريب هذه، وتداعياتها الأخلاقية والمهنية، وصولاً إلى سحب العديد من هذه الفيديوهات المسرّبة من الويب، العديد من المشتغلين بالصورة والمهتمين بالفظيع وتمثيلاته، إلى إعادة النظر ببعض المسلمات التي بني عليها النقاش الذي دار في العام 2015 من حول التحديق بالفظيع وإشكالياته. فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن الصديق ياسين الحاج صالح كتب في 27 آذار 2022 كعادته مقالاً معمّقاً عن مجزرة التضامن عنْونَه «أوجه المجزرة السبعة». لكنه عاد بخصوص الفظيع وتمثلاته ليؤكد على مسلماته التي سبق ودافع عنها في النقاش الذي دار في العام 2015 في موقع الجمهورية، مع أنها كانت برأيي فرصة ضائعة لإعادة الاشتباك النقدي مع تلك المسلمات. فياسين كتب في سياق مجزرة التضامن وفيديوهاتها المسربة الآتي:
جرى نقاش في هذا الشأن قبل سنوات، ودافعَ كاتب هذه السطور عن ضرورة أن نرى، وأن تُتاح الرؤية لمن يريد. الصور، إن وجدت، تدعونا إلى أن ننظر فيها، أن نرى. وما دام قد وقع ما وقع، فالأفضل أن يُصوَّر لا أن «لا يُصوَّر»، وما دام ثمة صور فالأفضل أن تُتاح لا أن «لا تُتاح»، وأن تُرى لا أن «لا تُرى». على أن نفتح نقاشاً عن معنى ما نرى وماذا نبني عليه من معانٍ وأفكار وقواعد فُضلى. ثم على ألّا نجعل مما قد نستقر عليه من خيارات في شأن الصور عقيدة جامدة أو دوغما معصومة. الصور تمثل واقعاً، ومهما أمكن أن نفكر فيما تثيره من مشكلات، فليس لذلك أن يكون على حساب ما جرى في الواقع: لقد قُتل الناس كالحشرات في مجزرة رهيبة. فمَن له عيون، فليرَ!
طبعاً فات ياسين هنا، بحسب رأيي، أن السؤال ليس في أن نرى أو أن لا نرى! وفي أن نصور أو أن لا نصور! وفي أن يُتاح أو ان لا يتاح! السؤال هو كيف نرى ونشاهد؟ وكيف نصوّر؟ ولماذا نصوّر؟ وكيف نتبيّن ونبيّن حدود المتاح بما يحفظ كرامة الضحايا ويجنّب أهاليهم المزيد من العذاب والصدمات، ويسمح لمجرى العدالة أن يصل لمبتغاه في الوصول إلى المجرمين ومحاكمتهم؟ السؤال لم يكن قط في منع الرؤية وفي حجب فيديوهات مجزرة التضامن، بل كان في الاكتفاء بما نشرته الغارديان من بعض المقاطع المصورة التي تبيّن فداحة الجريمة وبشاعتها، من دون كشف وجوه الضحايا ومن دون الوقوع في الفرجة والاستعراض أمام مشاهد إعدام الضحايا ورميهم تباعاً في حفرة وحرق جثثهم بعد سكب المازوت والإطارات المشتعلة فوقها. والسؤال كان ولا يزال في تحقيق العدالة وملاحقة الجناة وفي حفظ كرامة الضحايا وفي تجنيب أهاليهم عبء وعذاب النظر بعشرات فيديوهات القتل عسى ولعلّ يجدون فيها جواباً شافياً عن مصير أبنائهم.
للأسف، ذهبت كل هذه الأسئلة أدراج الرياح بعد سقوط نظام الأسد، ومسارعة المؤثرين وتلفزيونات الإثارة لتحقيق روبورتاجات فضائحية من موقع الجريمة أمام حفرة مجزرة التضامن، وصولاً إلى ذلك الفيديو المشين للإعلامي جميل الحسن وهو يمسك بعظام بشرية ويحقّق أمام الكاميرا مع أحد المتّهمين بالمجزرة.
مجازر الساحل
أتت مجازر الساحل الأخيرة لتضعنا من جديد أمام سؤال الفظيع وتمثّلاته. ليس فقط لأن هناك جرائم بشعة ارتكبت بحق المدنيين وبحق بعض عناصر الأمن العام في تلك المنطقة في ظل تعتيم إعلامي رسمي، ولكن لأن العديد من المجرمين من الفصائل المسلحة صوّروا أفعالهم ونشروها وتفاخروا بها في بعض وسائل التواصل الاجتماعي من مثل تلغرام وأكس.
صحيح أنّ أغلب وسائل التواصل الاجتماعي ومعظم وسائل الإعلام العالمية والعربية بعد عقدين من هيمنة عصر الديجيتال ميديا وسرعة تدفق المعلومات والصور، صارت أكثر حذراً في إباحة ونشر صور الفظيع من دون أية ضوابط، وأكثر تقيُّداً في خوارزمياتها بقواعد ومهنية العمل الصحفي بما يخص صور الفظيع على الأقل، والتي تفرض أن تحترم هوية الضحايا وألا تنتهك خصوصياتهم. لكنّ هذا لم يحدّ تماماً من تسريب العديد من الفيديوهات المروّعة لجرائم ارتكبت بحق المدنيين العزّل، وإن تم سحبها بسرعة بعد فترة وجيزة من التداول العام، احتراماً لقواعد العمل الصحفي وخوفاً من المساءلة القانونية.
في هذا السياق، نشرت صحيفة النيويورك تايمز مؤخراً تحقيقاً مفصّلاً لوقائع الأيام الثلاثة الأولى للمجزرة في مدينة بانياس بقلم مراسليها الذين تواجدوا صدفة في تلك المنطقة، وترافق هذا التحقيق المطوّل مع العديد من الشهادات للناجين من المجزرة ومع نشر بعض الصور للمنطقة المنكوبة ولأكفان الجثث من دون انتهاك لخصوصية أيٍّ من الضحايا. وأشارت الصحيفة إلى حصولها على عشرات الفيديوهات التي توثّق عمليات القتل لكنها لم تنشر أيّاً منها ولم تضعها في التداول العام، واكتفت بالإشارة الى واحد منها حيث تعبر سيارة المسلحين من فوق جثث الضحايا المكوّمة على الطريق .
في المقابل، سيكون لفيديوهَيْن قصيرَيْن من فيديوهات المجزرة وقعٌ مغاير تماماً، حيث سينتشران بشكل واسع وسيسمحان بالإضاءة على بُعد الكرامة في صفوف الضحايا من جهة، وعلى بشاعة وهول الجرائم المرتكبة بحقهم من جهة أخرى، من دون أن يعني ذلك إباحة النظر في الصور الفظيعة والتحديق ملياً في أجساد الضحايا.
الفيديو الأول المنشور بدايةً من قبل المجرمين أنفسهم للتفاخر والشماتة، سرعان ما سينقلب فيه السحر على الساحر، ويتحول هذا الشريط إلى دليل إدانة لبشاعة ووحشية مرتكبي هذه الجريمة، وإلى عنوان للكرامة والإنسانية جسّدته السيدة أم أيمن (زرقة سباهية). فهذه الأمّ الثكلى التي كانت تحرس جثامين ولدَيْها كنان وسهيل وحفيدها محمد الملقاة على الأرض أمام منزلها، أبت إلا أن تتحدّى المجرمين عندما خاطبوها بسخرية وبعبارات طائفية: هذول أولادك... نحن عطيناكم الأمن بس أنتم غدارين، لتصرخ أم أيمن في وجههم بصلابة: فشرت نحنا ما بنغدر. وكان لافتاً أن نسخة الفيديو التي انتشرت كالنار في الهشيم في معظم وسائل الإعلام تمّ فيها التغطية على جثامين القتلى وإبقاء صورة الأمّ واضحة وضوح الشمس في كرامتها وعنفوانها أمام بشاعة الفظيع ومرتكبيه.
الفيديو الثاني مصوَّر أمام بيت ريفيّ فقير في قرية الرصافة من ريف مصياف يجلس قبالته رجل عجوز مكلوم ولا يوجد في الفيديو أي مقاطع دموية مصوّرة، لكنّه يتضمّن شهادةً حارقة وصادقة لأبي سليمان عن مقتل ابنه سليمان على يد مسلحي الفصائل المؤيدة للحكومة خلال مجازر الساحل. يحدّث أبو سليمان المصوّر في مواجهة الكاميرا:
إجت لعنا مجموعة، عشر أشخاص فايتين بقوة ووحشية. دقّوا الباب
مين هون؟
قلت لهم: انا وعيالي
بدأوا ضرب الأولاد بالبواريد وبرجليهم ومسبات، بعد بطحهم بالأرض ..
قالوا: «هذا الولد الكبير للذبح»
وبعدين أخذوهم. على الطريق، الله ارسل للصغير مجموعة مسلحة ثانية، قالت لهم هادا صغير وين اخذينهم واعادوه لي وقالوا: عمي هذا ابنك.
قلت لهم: بدي ابني الثاني
قالوا لي: اذا ابنك الثاني مو عامل شي بيرجع لك. وكّل الله
قلت لهم: نحن أفقر عائلة بالضيعة ونحنا بحالنا
الساعة الرابعة دقّوا من موبايل ابني سليمان.
قالوا: ما عرفت وين ابنك؟
قلت: لا
قال، وعادها مرتين: «ابنك بعتنا لك ياه عند حافظ الأسد. وشلنا لك قلبه».
دَلُّوني على مكانه: «روح لعند الحلاق، دخول بالحارة القديمة وخود ابنك قبل ما تأكله الكلاب»
رحت، طلعت من هون رعب على الطريق، فتت بالحارة، محل ما دلوني. خطيّ ابني متسطح، ضاربينه تلات طلقات بصدره، شاقين صدره وشايلين قلبه (هنا يبكي ويشهق) غطّيته واخذت بطانية، رحت لعند ابن عمي، قاتلين ولاده الأربعة. قلي بكرا بنحفرهم وبندفنهم كلهم مع بعض. هاي قصة ابني سليمان.
نعم، هذه قصة سليمان وأبو سليمان، هذه دموعه وهذه حرقته على ابنه المقتول غدراً. هذه صورته وهذه أحاسيسه وهذه إنسانيّته في مواجهة الفظيع الذي تغيب صورته وتحضر فظاعته في أقسى معانيها.
التماهي مع أبي سليمان هنا لا يحتاج إلى التحديق في وجه الفظيع، الحاضر الغائب، ولكننا نحتاج لكلّ قوانا عسى أن نحبس دموعنا التي تأبى إلا أن تخوننا وتنهمر مع دموع أبي سليمان.
ما العمل؟
ماذا يمكن للمشتغلين بالصورة أن يعملوا أمام هول المجازر وغياب الصور حيناً وحضورها الطاغي في أحيان أخرى؟
ليس كاتب السطور مَن يملك جواباً شافياً على هذا السؤال الجارح، لكنّ تجربة رشا صادق مع مقتل والدتها سحر صارم وأخوَيْها فارس وفراس صادق في مجزرة حي القصور في مدينة بانياس يمكن لها أن تدلّنا على كيف يمكن أن نتلمّس بقايا إنسانيتنا في ظلّ هذه الأجواء القاتلة.
رشا صادق مواطنة شابّة من بانياس، كان لها بعض التجارب في الكتابة على صفحتها على الفيسبوك، وتميّزت بأخذ مواقف إنسانية بخصوص مجزرة التضامن وبخصوص البراميل المتفجرة وبخصوص بعض ممارسات النظام الطائفية، ولطالما ردّدتْ على صفحتها أنّ الإنسانية لا تتجزّأ ردّاً على بعض الأحقاد والمواقف العنصرية. وكتبت في 27 تشرين الثاني 2016 الآتي:
ليست الانسانية أن تحزن على موت أبرياء من نفس فريقك السياسي وانتماءاتك، الانسانية هي أن تحزن على الأبرياء أيّاً كانوا ومهما كان توزعهم الجغرافي والسياسي.
رشا كانت خارج المدينة وبعيدة عن أهلها عندما وقعت المجزرة وقُتل أخواها الاثنان وأمّها، وتُركت جثامينهم ملقاةً على الأرض في غرفة الجلوس بعدما تمّ تعفيش المنزل، وهي لم تستطع الوصول إلى المنزل إلا بعد ثلاثة أيام وبعد فوات الأوان حيث تمّ دفن أحبّتها في مقابر جماعية في غيابها. وجدت رشا المنزل منهوباً وخالياً من الأساس، ولم يبقَ فيه إلا آثار بقع دم أفراد عائلتها الحمراء على بلاط المنزل. صوّرتْ رشا فيديو صامتاً للبلاط ولآثار الدماء عليه وحمّلته على صفحتها على الفيسبوك وأرفقته بنصّ مؤثر وجّهته إلى قاتل عائلتها، دعته فيه ليقيم في بيتهم لشهر واحد، ووعدته أن تطهو له طعام أمّها وإخوتها المفضّل، وأن يخبره أولادها عن أخوالهم وعن الألعاب التي ابتدعوها سويّةً. وأخبرتْه أنها ستشرب معه القهوة على شرفة المنزل وتخبره عن قصة إخوتها وكفاحهم في الحياة وعصاميّتهم، ووعدته أنه إذا مرض ستجلس إلى جانبه وتحاول مداواته، ودعتْه إلى أن يسقي معها الزهور التي زرعتها والدتها وأن يصلي في المكان الذي كان يصلي به والدها، قبل أن تكتب له الآتي:
لن أوقظك في الليل على نوبات بكائي المستمرة، ولن أدعك ترى دموعي... لكنني قد أطالبك بمعرفة كيف كانت لحظات أهلي الأخيرة.
هل ترجّتكم أمي كي لا تقتلوا أبناءها، هل الرصاصة التي اخترقت بطن أخي فارس قتلته فوراً أم أنّه بقي بجوار جثمان أمّه وأخيه يتعذّب حتى سلم روحه لله.
تلك الأسئلة التي ما زالت تقتل قلبي للآن...
سأدعك تعيش بيننا لعلّ ذلك الحب الذي يملأ منزل أهلي يتسلّل إلى قلبك قليلاً
لعلك تفرح مثلنا وتبكي مثلنا وتحزن على ما اقترفت في لحظة تجبُّر وكره. لن ألومك ولن أكرهك. فقط سأعطيك ذات الحب الذي أعطيته لأخوتي وأمي والذي أعطوني إياه.
وفي نهاية الشهر، سأدعك تحاول أن تزيل دماءهم التي تأبى أن تزول على أرض الصالون، ذات الصالون الذي ضحكنا وبكينا وعشنا به.
نقرأ نصّ رشا بصوت منخفض ونسمعه كأنه فويس أوفر في فيلم قصير ونشاهد الفيديو الذي صوّرته لبلاط منزلها الملطّخ بالدماء، والذي لا تتجاوز مدته ثلاثين ثانية، فندرك أن هناك الكثير مما يمكن عمله في مقابل الفظيع وتمثلاته، حتى يصان ما تبقى لنا من كرامة وإنسانية وذاكرة.
فصورة الفظيع لم ولن تكون معطى محضاً. كما أنها لم ولن تكون واقعاً صرفاً. فهناك من صوّرها وهناك من روّجها وهناك من استخدمها لغايات شتى وهناك من تعامل معها وكأنها حقيقة مطلقة منزلة من السماء، علينا أن نقبلها ونتقبّلها كما هي وبما هي، وهناك من جعل منها جسراً لتجاوز الفظيع وأهواله.
واليوم، إذ تُقرَع طبول الحروب الأهلية ويتكاثر المتحاربون الذين يريدون خوضها بالصور كما بالأسلحة، يبقى من واجبنا أن نسيطر على الفظيع وصوره، وألا نسمح له بالسيطرة علينا.