«آنا ش» وأمجد يوسف
قام كل من الباحثين أنصار شحود وأوغور أوميت أونغور، من «مركز الهولوكوست والإبادة الجماعية» في جامعة أمستردام، بالإيقاع بشبكة من مجرمي نظام الأسد، عن طريق شخصية فيسبوكية، «آنا ش»، لعبت دورها أنصار لمدة تزيد عن 3 سنوات. بدأ ذلك بعد حصول الباحث أوغور أوميت أونغور على فيديو يصوّر جريمة إبادة، عن طريق صلة وصل سورية مع مجنّد سوري مبتدئ، ما زالت هويته مجهولة إلى الآن.
يصوّر الفيديو مجزرة في جنوب دمشق، في حيّ التضامن. وقعت المجزرة في عام 2013 في وضح النهار. يصوّر الفيديو رمي ميليشيات الأسد، بدم بارد، عشرات الأشخاص معصوبي العينَيْن ومقيّدي اليدَيْن في حفرة معدّة مسبقاً، قبل أن يتمّ قتلهم بالرصاص ومن ثمّ إحراقهم. في 27/4/2022، نشرت الغارديان تقريراً معدّاً من قبل مارتن تشولوف، يشرح فيه أحداث المجزرة ويلقي في قلب السوريين مشاهد الفيديو الصادم. تلقّى العالم الخبر بكثير من الأسى، لكنّ ما ارتسم في قلوب السوريين- وخاصة المتواجدين في الداخل- كان مزيجاً من التزكية لخوفٍ لطالما عاشوه لسنوات ولانكفاء وكتمان جاورهم على الدوام.
في ظل السيطرة الأمنية المُحكَمة لنظام الأسد، كان من الصعب تتبُّع دلائل موثوقة على الأرض. لذلك أحتاج كلٌّ من شحود وأونغور إلى عدّة طرق معقدة، ومنها حيلة ورّطت شحود بشخصية مغايرة لها تقوم من خلالها بادّعاء تأييدها الأسد، وإغواء ما يزيد عن 500 صديق فيسبوكي يعملون كلهم ضمن المنظومة الأمنية للأسد. هكذا وصلت للمرتكب الأساسي للمجزرة أمجد يوسف. وقد عبّر أمجد يوسف لـ«آنا ش» عن تملمُله بشأن انتقاله من مسؤول عن العمليات الأمنية المباشرة في الجنوب إلى الأعمال المكتبية في فرع كفرسوسة (227) المسؤول عن السيطرة الأمنية على جنوب دمشق، وذلك إثر انسحاب المعارضة المسلحة وترحيلها إلى الشمال السوري. لكن بعد انتشار الفيديو، ساد الكثير من الشائعات عمّا حصل بأمجد، وكلها ضمن ثرثرات خفية اعتاد سوريو الداخل على ممارستها. فمرّةً، شاع إمساكه من نادي معلا الرياضي الذي اعتاد الذهاب إليه، ومرّةً هرب إلى خارج البلاد.
استطاعت «آنا ش» من خلال شبكة العلاقات التي بنتها لأكثر من ثلاث سنوات توثيق 27 فيديو وعدداً من الضحايا يصل إلى 288. بالإضافة إلى ذلك، أتاح لها تتبُّع شبكة المتورّطين على الأرض وعلاقاتهم فهماً أعمق لطبيعة المنطقة الجنوبية في دمشق وطبيعة مكان حيّ التضامن الذي يبدو وكأنه صُنِع ليكون مهمّشاً وسهلَ التحوُّل لساحة جريمة.
إلى سليخة في حيّ التضامن
في 8/12/2024، تمّ الإعلان عن هروب بشار الأسد واستلام هيئة تحرير الشام للسلطة. سقوط الأسد جعلني أبادر بزيارة إلى الجنوب الدمشقي، المنطقة المنكوبة والمُحاصرة سابقاً بعناصر أمن الأسد، والتي لم يكن من السهولة الدخول إليها، وتحديداً إلى حفرة مجزرة التضامن. أوقفتُ سائق تاكسي وطلبت منه بجرأةٍ كانت ستكلفني رقبتي في زمنٍ سابق، أن ينقلني إلى حفرة المجزرة. لم يكن يعرف المكان بدقّة، لكنّ سؤال المارّة في أزقّة حيّ التضامن أوصلنا إلى زقاق قريب من جامع العثمان. لم يستطع التاكسي الدخول أكثر، فأكملتُ السير على الأقدام.
في الطريق إلى الجامع، تصطدم بكثافة المارّة وضيق الأزقّة التي لا يتجاوز عرضُها المترَيْن، والتي تُستخدم كشوارع عامة تختلط فيها الشاحنات والسيارات الخاصة والعامة. وعلى الجانبين، ثمّة بيوت متلاصقة تفوح منها رائحة الطبخ وضجيج أصوات العائلات. عند المنعطف اليساري قرب الجامع، تفتح عينَيْك على ساحة واسعة مليئة بركام مبعثر، تحيط بها مبانٍ هيكلية غير صالحة للسكن، يظهر أن بعضها تضرّر من القصف، فيما يتواجد بضعة أطفال تناسوا الدوام المدرسي ليلعبوا الكرة على سوية الركام.
لم أستطع تحديد مكان الحفرة بدقّة، فتوجّهتُ يميناً نحو طريقٍ يتجمّع في نهايته مجموعة من نبّاشي القمامة والخردة. على اليمين، ثمّة معملٌ لفصل الخردة (القراضة)، وعلى اليسار تلة عالية من الركام تحجب الرؤية عما وراءها. داخل المعمل، يعمل أطفال ونساء وقلة من الشباب. سألتُ أحدهم عن مكان حفرة المجزرة، فأشار نحو الطرف الآخر من الساحة قرب عمود كهرباء معدني.
أكملتُ السير، وعلى عكس الكثافة السكانية في بداية التضامن، لا تجد شيئاً في جنوبه المُلقَّب بالسليخة سوى معامل فصل الخردة على جانبي الطريق ومحلات مغلقة. يهيمن هدوءٌ قابض على المكان، ولا يُرى أي نشاط سكاني سوى عمال الخردة. استمررتُ في السؤال عن الحفرة، وواجهني الجميع بالصمت أو إنكار معرفته بالمكان، حتى استوقفني شابٌ قرب تلة خردة ملاصقة للعمود الكهربائي، ورافقني إلى الحارة المجاورة للخردة.
أخبرني أن قناة «العربي» زارت المكان وصوَّرته، حارة ضيقة أخرى تحيط بها مبانٍ تَرَكَ أصحابها طوابقها الأرضية على الهيكل، وأكملوا بناء ما فوقها. لاحظتُ اختلافاً في مستوى الارتفاع عن الحارة المتفرّعة عنها، ممّا يشير إلى طمرٍ يعود لزمنَيْن مختلفَيْن. درتُ حول الأبنية دون أن أتمكّن من تحديد موقع الحفرة بشكل قاطع. توجهتُ بنظري إلى الساحة الواسعة المليئة بالركام والمحاطة بالمباني المهدمة، فسيطر عليّ إحساسٌ بالعبث. قرّرتُ التوقف عند هذا الحدّ، فلم يكن من الواضح أين مكان الحفرة بالضبط.
كان المكان يعكس بنية حضرية هشة جداً، وكأنه لم يكن مصادفة اعتماده كمسرح جريمة لإبادة جماعية. فما تمّ استخدامه من سياسات الأسد غيّر معايير البنية الحضرية الشائعة وخلق عنفاً مكانياً موازياً لعنف الممارسات الميليشيويّة. فقد تمّ تقسيم الحيّ إلى منطقتين بواسطة خطّ جبهة ثابت نسبياً يمتدّ من مسجد العثمان القريب من حفرة المجزرة في حيّ التضامن وصولاً إلى سينما النجوم الواقعة على أطراف حي مخيم فلسطين، بالاقتران مع انتشار مكثف للحواجز الأمنية. اعتمد هذا التقسيم على تسهيل بسط نفوذ السيطرة على المناطق المجاورة من خلال مداخل الأزقة الضيّقة الاستراتيجية، واعتقال العديد من الأشخاص واقتيادهم لجنوب التضامن.
في صناعة التضامن، الحيّ الشعبي
سمحت البنية الحضرية الهشّة لجنوب دمشق وحي التضامن بزيادة وتيرة العنف والسلطوية على حد سواء، وهذا منذ تأسيسه. فقد نشأ حي التضامن على امتداد البساتين المحاذية للمخيّمَيْن الفلسطينيَّيْن: اليرموك وفلسطين في جنوب دمشق، وبدأ كمأوى للنازحين السوريين القادمين من الجولان المحتل عام 1967، حيث بنوا منازلهم على أراضٍ زراعية بموارد شخصية وحكومية محدودة. ومع تصاعد النزوح الداخلي بسبب الجفاف في الأرياف وسياسات النظام الجائرة، ارتفعت الكثافة السكانية في الجنوب الدمشقي، خاصةً مع انخفاض أسعار العقارات هناك بسبب العشوائية وغياب البنية التحتية. بحسب مديرية التخطيط العمراني في دمشق، يُعتبر التضامن من أكبر التجمعات العشوائية في المدينة وريفها. كما تنعكس البنية الحضرية الفقيرة من سوء الخدمات المعيشية وإهمال البنية التحتية على البنية المجتمعية والاقتصادية، حيث اشتغل معظم سكان الحي في المياومة والأعمال الحرة أو معامل مؤسسات الدولة المدنية والأمنية والعسكرية.
جاء سكّان الحيّ من عرقيات وطوائف مختلفة من أبناء الجولان ووافدين من درعا ودير الزور وإدلب والساحل السوري، إضافة إلى التركمان والأكراد. طائفياً، تغلب على سكان المنطقة الطائفة السنية وما تبقى منهم ينتمون إلى المذاهب العلوية والمرشدية والدروز والاسماعلية. وتتوزّع هذه التجمعات داخل الحي على أساس مناطقي وطائفي، مثل شارع الجلاء الذي يسكنه الدروز القادمون من الجولان وحارة الأدالبة والديرية وحارة التركمان، وشارع نسرين الذي تتشكّل غالبية ساكنيه من الطائفة العلوية. عملت هذه التقسيمات على زيادة التوتر والعنف بين السكان خلال الثورة السورية، وانحاز سكان الحي بحسب خلفيتهم المناطقية والطائفية. انطلقت أولى التظاهرات السلمية من مسجد عثمان بن عفان، وتركزت في شارع دعبول الذي يصل بين حيّ دف الشوك وجنوب التضامن، منطقة السليخة.
ومع دخول الثورة للعمل المسلح في جنوب الحي، تشكلت كتائب معارضة مثل «لواء أبابيل حوران» و«لواء أمهات المؤمنين» وغيرها. بالمقابل، تمّ تشكيل «ميليشيات شارع نسرين» تحت غطاء الدفاع الوطني، وذلك في الشهر الخامس من عام 2011. كان قوامها من المتطوعين والموظفين الحكوميين وعناصر حزب البعث، وقاموا بدايةً بقمع المتظاهرين العزل باستخدام الهراوات في منطقة التضامن والمناطق المجاورة في كلٍّ من حيّ الزاهرة والميدان والقدم ونهر عيشة وحي العسالي وبلدات يلدا وبابيلا والحجر الأسود. وعندما ازدادت وتيرة العنف، تمّ تنظيمهم وهيكلتهم من قبل الفرع 227 التابع لشعبة المخابرات العسكرية ورفدها ببعض الضباط العسكريين والمتقاعدين. وقد ارتكبت هذه الميليشيات انتهاكات واسعة من القتل والاعتقال التعسفي عند الحواجز الأمنية وغيرها، والاغتصاب وحرق وتعفيش البيوت.
استمرت المعارك بين ميليشيات شارع نسرين والمعارضة المسلحة لسنوات، تبادلوا خلالها سلسلة من السيطرة والاقتحامات، وانتهت بسيطرة وحصار ميليشيات شارع نسرين لكامل جنوب دمشق. وأجبر المعارضون على التفاوض عبر وساطة روسية في 19/4/2018، لينتهي الأمر بترحيلهم وذويهم إلى شمال سوريا.
بعد عام، ومن بعد عملية «التطهير الأسدي»، لم ينتهِ تهميش الحي، بل عمدت المحافظة إلى تشكيل لجنة دراسة لإعادة السكان، متناسية مسؤولية الحكومة عن قصف البيوت وتدمير البنية التحتية، وأقرّت أن 90% من حي التضامن لا يصلح للسكن، وذلك دون وضع آليات جدية حتى لإعادة الاعمار أو متابعة أحوال النازحين عن المنطقة. أكملت لعبة السياسات الجائرة، بتاريخ 31/5/202، حين أعيد تشكيل لجنة لإعادة تأهيل البنية التحتية ورفع أنقاض الأبنية من شوارع القسم الجنوبي من الحي. لكنها اقتصرت على الشوارع العامة وإعادة تدوير الحظوظ لصالح من تبقى من ميليشيات شارع نسرين على حساب جنوب التضامن، (السليخة). وبالتتابع مع شروط محافظة دمشق، وعلى الرغم من إجراءات التسوية، رفضت المحافظة منح موافقة العودة أو استخراج رخصة ترميم لمن أطلق عليه صفة «الإرهابي»، وشمل ذلك ذويه أيضا. وبالتالي، استكملت التركيبة الحضرية المجتمعية القائمة على تدمير وتهميش غالبية السكان وتركيز بقاء من تبقى من ميليشيات شارع نسرين.
تداعيات ما بعد السقوط
بعد فترة وجيزة من زيارتي، أُلقِيَ القبض على ثلاثة متورطين بمجزرة التضامن واقتيد بعضهم من منازلهم في الحي والأحياء المجاورة (الزاهرة)، ممّا يدلّ على بقاء امتداد شبكة المنظومة الأمنية حتى الآن وعدم هروبهم كلهم خارج البلاد. وربما يفسر ذلك أيضاً الرعب المرافق لإنكار الناس لي معرفة المكان المحدّد للحفرة. أهمية إمساك بالمتورطين بمجازر جنوب دمشق يكمن بكشف باقي الممارسات الإجرامية والإمساك بباقي الفاعلين كما يعد استكمالاً لعمل أنصار شحود وأوغور أوميت أونغور.
صَرَّح أحد المتورطين بالمجازر، منذر أحمد جزائري، الذي تعود جذوره إلى درعا، بقتله ما يقارب 500 إنسان بكل سلاسة وروتينية تحمل طابع القسوة التي مارستها ميليشيات النظام في السليخة. فما بين تلال الركام والتسرّب المدرسي والعمالة الهشّة، وبين اعتقال قتلة ما زالوا حتى انهيار نظام الأسد متعايشين في المكان، تنكشف كارثة تدل على فضاء سياسات تدميرية مُمنهجة تم بناؤها على امتداد عشرات السنوات. هندسة الخراب هذه، لا تنتهي بانتهاء الإمساك بالمتورّطين، بل تمتدّ لضرورة إعادة المعايير الحضرية السويّة، بما يشمل البنية التحتية والتوزّع العمراني العادل. المطلوب اليوم هو خطط إصلاح عمراني تراعي عودة سكان الجنوب وتعيد هيكيلة المنطقة بما لا يسمح بتكرار ممارسات جديدة قائمة على عنف المكان.