تعليق الثورة السورية
خالد صاغيّة

الاحتفال رغم كلّ شيء

10 كانون الأول 2025

بداياتٌ جديدة

كان يقود سيارته، بكامل لباسه العسكريّ، على أنغام «على حسب وداد قلبي» لعبد الحليم حافظ. تظهر على كتفه شارة علم الثورة السوريّة، وهو يردّد مع الأغنية «ضيّعت عليه العمر يا بويا». شاهدتُه في اليوم التالي للسقوط، من دون أن أعرف من هو، ولا لأيّ فصيل ينتمي. لكنّه لم يبدُ لي كمَنْ يتحضّر لتسلُّم مهامّه في سوريا الجديدة، بل وكأنّه في طريقه لتسليم البزّة العسكريّة ومفاتيح السيارة كي يبدأ حياته من جديد بعدما «أضاع» عشريناته وهو يقاتل لإسقاط نظام الأسد.

قد تكون القصّة الحقيقيّة لهذا المقاتل مختلفة تماماً. لكنّ قصّته، كما تخيّلتُها، هي التي تجسّد قصص كثيرين منّا، سوريّين ولبنانيّين، لم يكن السقوط بالنسبة لهم سقوط نظام وحسب، أو سقوط طاغية، بل كان بدايةً جديدةً لحياة جديدة. 

الاحتفال رغم كلّ شيء

حاولتُ عبثاً البحث عن ذاك المقاتل المتقاعد في مشاهد الاحتفالات في ساحات سوريا. هل بات واحداً من مريدي السلطة الجديدة، أم وقف بعيداً يراقب المحتفلين ويبتسم، أم انكفأ عن المشاركة؟   

كثيرون لم يحتفلوا هذا العام. فقد أدّت أحداث السنة الانتقالية الأولى بعد سقوط نظام بشار الأسد دوراً كبيراً في كبح الحماسة للاحتفالات بسقوط الديكتاتور، سواء لجهة المجازر التي ارتُكبت في الساحل وفي السويداء أو في طُرُق إعادة تكوين السلطة السياسية، أو في المسار المتعثّر للعدالة الانتقالية.

لكنّ الرضوخ لهذا الإحباط هو في جزء منه رضوخ لرواية هيئة تحرير الشام وأحمد الشرع، الرواية التي تقول إنّهم هم مَن حرّر وهم بالتالي من يقرّر، وإجحاف بحق كلّ متظاهر ومقاتل ومناضل شارك بالثورة السورية منذ العام 2011. الاحتفال، رغم كلّ شيء، بسقوط بشار، هو احتفال بنضالات كلّ هؤلاء. وهو احتفال بقدرة الناس وحبّهم لبلدهم ولحريّتهم. 

لعلّ ما حدث لم يكن انتصاراً للثورة، بقدر ما كان سقوطاً للديكتاتور. سقوط قد يكون أجمل ما فيه أنّه لم يأتِ مصحوباً بنشوة الانتصار. فالانتصارات هي للساعين للسلطة. أمّا مقاومة الظلم، فهي التي تعمل لسقوطٍ بعد سقوط، تماماً كما تخيّلتُ ذاك المقاتل يفعل وهو يقود سيّارته. ولهذا، تحديداً، لن يتمكّن أحد، ولن تتمكّن أيّ أحداث، من سرقة فرحة هذا السقوط منّا.

خفّة الجبين العالي

على المقلب الآخر، كم بدا حزيناً مشهد الشبّان الذين يلوّحون بأعلام حزب الله في الضاحية الجنوبية لبيروت، وهم يتمايلون على أنغام «يا بشار… يا عالي الجبين». لا يفعلون ذلك وفاءً لبشار الذي غدر بهم، بقدر ما يفعلونه نكايةً بالمحتفلين. هذه الخفّة لا تتعلّق بالجمهور وحسب، بل بقيادة حزبه أيضاً. 

فمع بدء عملية «ردع العدوان» في سوريا، رأى قاسم أنّ العدوان على سوريا ترعاه أميركا وإسرائيل، وأنّ المجموعات التكفيرية لطالما كانت أدوات لهما منذ سنة 2011. وما تريده أميركا وإسرائيل هو تخريب سوريا مُجدّدًا، ومن خلال هذه المجموعات الإرهابية التي تريد أن تُسقط النظام في سورية. ووعد قاسم أنّ حزب الله الخارج مُثقَلاً بهزيمته العسكريّة في لبنان، سيكون إلى جانب سوريا في إحباط أهداف هذا العدوان، بما نتمكّن منه إن شاء الله تعالى.

نعلم الآن أنّ وساطةً تركيّة حيّدت إيران وروسيا عن التدخّل في وجه عمليّة «ردع العدوان». فطارت وعود قاسم بإحباط «أهداف العدوان»، ليعود بعد أيّام على سقوط نظام الأسد، ويواسي جمهوره. لكن، هذه المرّة، اختفت مصطلحات «المجموعات التكفيرية» و«الإرهاب»، وبات سقوط النظام على يد قوى جديدة، نحن لا يمكننا الحكم على هذه القوى الجديدة إلا عندما تستقرّ. وفي تضادّ كامل مع موقف الحزب السابق، بات، بالنسبة لقاسم، من حقّ الشعب السوري أن يختار قيادته وحكمه ودستوره ومستقبله

ليس قاسم وحده من استعان بالخفّة ليهرب من المراجعة. كثيرون ممّن استخدموا بهلوانيّاتٍ خطابيّة ليصوّروا حذاء الديكتاتور سدّاً منيعاً في وجه الزحف الإمبريالي، بدأوا يلحسون مواقفهم. وإذا كان هناك ما يجمع كلّ هؤلاء، فهو إغفالهم لوجود شعب سوريّ وأفراد سوريّين. الدول وشعوبها، بالنسبة لهم، مجرّد ساحات لمعاركهم الوهميّة. 

عودةٌ إلى البداية

ما يعلّمنا إيّاه فيديو المقاتل الذي يقود سيّارته، هو أنّ العُمر حين يضيع لا يضيع فعلاً. وما تعلّمنا إيّاه قصّة «وداد الغازية» التي استوحى منها عبد الحليم أغنيته هو أنّ العدل قد ينتصر حقاً على الظلم. 

كان يقود سيّارته، ليعبر الحدود من بيروت إلى دمشق. لم يكن عبد الحليم مرافقاً له، بل عبد الباسط الساروت. يخرج صوته من السيارة وهو ينشد «يلللي بيقتل شعبه خاين»، ويخرج صوته من رأسي وهو ممدَّد بعد إصابته، يجهش بالبكاء ويتلو وصيّته الأخيرة بألا تذهب تضحيات مَن رحلوا هدراً.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
تعليق

الاحتفال رغم كلّ شيء

خالد صاغيّة
موجة انقلابات غرب أفريقيا: فرنسا تخسر هيمنتها
10-12-2025
تقرير
موجة انقلابات غرب أفريقيا: فرنسا تخسر هيمنتها
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 10/12/2025
أهالي المُغيَّبين بعد عام: ما زلنا ننتظر
09-12-2025
تقرير
أهالي المُغيَّبين بعد عام: ما زلنا ننتظر
حدث اليوم - الثلاثاء 9 كانون الأول 2025 
مهرجان مراكش: حديث مع غييرمو ديل تورو