تُمسك صديقتي من البيرو حبّة الأفوكادو، تقسمها إلى شرائح، ترفع قلب الثمرة، لمستوى نظر العين وتقول: كنّا محرومين من أكل هذه الثمرة التي نزرعها، إذ يتمّ تصدير أغلبها إلى الولايات المتحدة لتحقيق الربح. كنا نذهب بسيارات خردة إلى المزارع في الفجر لنبدأ العمل، ونعود مع أول الليل، نعمل طويلاً، نعود بنقود قليلة للإنفاق على باقي أفراد الأسرة، هذه النقود كانت بالكاد تكفينا لأكل الذرة أو حبوب القمح مع الماء مثل العصيدة، نأكلها في الصباح والمساء بتكرار كئيب.
سمعنا كثيرا عن عصور العبودية السوداء، في أفريقيا وأميركا اللاتينية. ينظر البعض إلى هذه الحوادث باعتبارها إرث الماضي البعيد، لكنها في حقيقة الأمر، وبفعل التطوّر الحديث، صارت العبودية ماركة اقتصادية جديدة، تعرضها دول ما يطلقون عليه «العالم الثالث»، في شكل «بضائع» و«سلع»، ويُقبل عليها بشراهة وشراسة من يطلقون على أنفسهم «العالم المتحضّر». وعلى هذا النحو، لا يخجل النظام المصري من عرض هذه البضائع الرخيصة على دول العالم، بل يدعوها إلى الاستثمار في مصر، نظراً لكون العمالة رخيصة. أضِف إلى ذلك أنّه لا يوجد نظام محاسبة أو أيّ قيود قانونية لاستخدام الأطفال والنساء بأجرٍ أقلّ بكثير من الأجور في العالم. بالفعل، تعرض مصر عمالتها الرخيصة التي ترقى إلى العبودية للعالم، وتقول: تعالوا، نحن أرخص!
لا يمكن قراءة الفجيعة التي شهدتها مصر هذا الأسبوع (مقتل 19 فتاة أثناء ذهابهنّ للعمل في إحدى مزارع العنب) من دون النظر إلى النظام العالمي. لكن لا يمكننا أيضاً التغافل عن دور الوكيل المحلي الذي يسهّل ممارسة العبودية، ويروّج لها باعتبارها تقدّماً اقتصادياً واستثماراً يفيد البلد.
بالتزامن مع فجيعة بنات المنوفية اللواتي ذهبنَ للعمل بأجر لا يتجاوز الثلاثة دولارات في اليوم، تشهد زراعة العنب المصري تقدّماً ملحوظاً، ونموّاً سريعاً. وقد توقّعت وزارة الزراعة الأميركية أن يصل إنتاج العنب المصري لعام التسويق 2024/2025 إلى 1.59 مليون طن، بزيادة قدرها 20 ألف طن عن العام السابق، ورجّحت زيادة الصادرات إلى 185 ألف طن بزيادة نحو 10 آلاف طن.
أرجعت وزارة الزراعة الأميركية هذا التطور الكبير في زراعة العنب المصري إلى زيادة نسبة الأراضي المزروعة في مصر، لكننا نرى أنّ السبب ليس زيادة الأراضي المزروعة وحسب، بل زيادة العمالة الرخيصة بسبب التدهور المعيشي لحياة الفلاح المصري، وتسرُّب عدد كبير من الطلبة والطالبات من التعليم الأساسي. ففي العام 2023، تسرّب ما يزيد عن 150 ألف طالب/طالبة بسبب عدم قدرة ذويهم على تحمّل مستلزمات الدراسة، ودُفِع بكلّ هذا العدد من الأطفال إلى المزارع والمصانع والورش الصغيرة لمساعدة الأسرة المصريّة على غلاء المعيشة الذي بلغ مدى غير مسبوق. وبالطبع، تمتنع الدولة المصرية عن إصدار أرقام التسرّب الجديدة خلال العام الماضي والعام الحالي، كما تمتنع عن إصدار أرقام عدد الفقراء في مصر بسبب السياسات الاقتصادية الحالية. ومع زيادة سعر الدولار وسحق الجنيه، من المتوقّع أن يصبح رقم الطلبة المتسرِّبين من التعليم في زيادة فاحشة، وقد ذهب أغلبهم مجبراً إلى سوق العمل.
من اللافت أيضاً، ولكي تكتمل دائرة الطغيان والعبودية، أنّ الفتيات قُتِلوا على الطرق الجديدة التي يتفاخر بها الوزير المفضل عند القيادة السياسية، الذي يقود وزارةً ذات إمكانات مهولة ولكنها مفلسة، وربما كان عمله من الأسباب المباشرة للاقتراض المستدام للديون الخارجية لمصر، والداخلية أيضاً، ذلك أنّ وزارته مديونة للبنوك والمؤسسات المحلية. هذا الوزير المحظيّ بعطف الرئيس السيسي، ذهب بعد ثلاثة أيام من فجيعة مقتل الفتيات وفي نفس مكان الحادثة، ليقول إنه لن يترك وزارة النقل رغم كل الانتقادات! وبينما يستعرض الوزير إنجازاته في فيديو بثّته قنوات المتحدة، يظهر في خلفية الفيديو تريلا نقل مدمرة من حادثة وقعت قبل وصول الوزير! وقد تبين من خلال حادثة فتيات المنوفية، أن هذا الطريق يطلقون عليه طريق الموت، ورصيده 304 حوادث في السنة الواحدة.
لا يمكن للفشل والعناد أن يكون لهما عنوان سوى موت رخيص عشوائي على الطريق، وأن يتحكّم في بلادنا رجال محدودو الإمكانات، وكل خبراتهم تنحصر في السمع والطاعة داخل الوحدات العسكرية، ولا يعرفون عن إدارة الموارد سوى الاقتراض والسداد من جيوب فقراء المصريين، لأن مشروعاتهم فاشلة ولا تموِّل هذه القروض. ففي هذه الحقبة البائسة من تاريخ بلادنا، ندرك أن إجمالي ما حصلت عليه وزارة النقل والمواصلات من قروض يصل إلى 10 مليارات دولار، تمثل 6% من إجمالي قروض الحكومة.
علينا أيضاً أن نسأل أين أُنفِقَت كلّ هذه المليارات، ولصالح من؟ وهل نالت القرى البعيدة، أو حتى القريبة، نسبة من تطوير الطرق؟ تشير قاعدة بيانات الشبكة الوطنية للطوارئ والسلامة العامة، إلى تمييز واضح ضد سكان المحافظات وخلل في توزيع الموارد، تفضحه الأرقام الرسمية، حيث أكدت بيانات الشبكة أنّ العشرة طرق الخطيرة والأكثر تعرّضاً للحوادث، هي الطرق التي تؤدّي إلى المحافظات الجنوبية. وقد جاء الطريق «الصحراوي - الغربي (الصعيد)» كأكثر الطرق تسجيلًا للإصابات الناتجة عن الحوادث المرورية، يليه طريق «القاهرة- الإسكندرية» الصحراوي، ثم الطريق الدولي الساحلي، ثم طريق «القاهرة- أسوان» الزراعي الغربي.
هل يمكن أن نرى أيّ ذرّة عدالة في توزيع فرص الحياة والموت على المصريّين؟ طرق الأغنياء في الساحل الشمالي تمّ ضبطها وتطويرها بما يليق، وتراجعت نسبة الحوادث بالفعل بعد سنوات من الفوضى، لكنّ الطرق التي تؤدّي إلى فقراء الوطن، ما هي بأغلبها إلا طرق للموت. حتى الطرق الحديثة، تنعدم فيها الخدمات والصيانة الدورية، وطرق المراقبة الملاحية.
حوادث شباب الصعيد على طريق أسيوط الغربي لا تتوقف، وقد سبق لي أن ذهبت في منتصف الليل، قبل عامَيْن، لأنّ سيارة صديقتي انقلبت على هذا الطريق الجديد، ولا أنسى الفزع الذي شعرته للمرور من هذا الطريق المظلم، بلا إشارات أو علامات ضوئية أو تواجد أمني. في هذه الليلة، تعثّرنا أثناء الذهاب لصديقتنا، تهنا في منتصف الطريق بينما لم تجد صديقتنا سيارة إسعاف تنقلها إلى المستشفي، وحين وصلت الإسعاف طلبت من المصابين أموالاً لنقلهم إلى مستشفي بني سويف العام!
طرق مصر، أو الظاهرة المميتة، قتلت 5260 شخصاً عام 2024، فيما سجّل عدد إصابات حوادث الطرق 76,362 إصابة في 2024، مقابل 71,016 عام 2023، بنسبة ارتفاع 7.5 في المائة، طبقاً لتقارير الجهاز المركزي للتعبئة العامة، وبالطبع أغلبهم من المحافظات الجنوبية للبلاد أو قرى الدلتا.
ما شاهدته زميلاتي الصحافيات في زيارة الأمس بقرية السبنسة أثناء تضامنهنّ مع أهالي الفتيات جامعات العنب، هو أنّ القرية من عالم آخر، ملقى في المجاهل، تنعدم فيها كل مقومات الحياة الإنسانية. الميّه الحلوة تُعتبر حلماً، لا يوجد وسائل مواصلات آدمية، البيوت متواضعة البناء ولا تقوى على التغيّرات المناخية المخيفة، الدولة غائبة تماماً عن حياة سكان القرية، وهذا حال آلاف القرى في مصر. وفي النهاية، قتل أولادهم الشقيانين اثناء رحلة بحثهم عن لقمة العيش.
ومع ذلك، يمتنع الوزير عن الاستقالة، وتمتنع سلطة باطشة عن إحداث تغيير حقيقي في فقه الأولويات. فمصر لم تكن تحتاج قطاراً سريعاً لرجال الأعمال والمستثمرين، لكنّها تحتاج إلى مواصلات آمنة للملايين العاملة الشقيانة المحرومة.
أنظرُ إلى العنب الموجود في ثلاجتي بكثير من الريبة، ماتوا وهم في الطريق لقطفه، لنا، نحن أبناء المدينة! كيف نشأنا على أن العنب المصري ثمرة طيبة وجميلة، ولا تقتل! يقتات عليها الفقراء، كما الأغنياء في مصر. فلم يُعتبر العنب المصري يوماً طعاماً حصرياً للأغنياء، وغالباً ما يأكله الفلاحون في الغيطان والبائعون في الشوارع والأطفال في القرى والحواري. لا نريد أن يتحوّل العنب إلى أفوكادو جديد، فاكهة محرَّمة على من يزرعها! ولا نريد طرقاً سريعة مثل بلاعة لفناء فقراء هذا الوطن، نريد عدالة في الحياة والموت.