لن ابدأ من اللحظة الأولى في هذه الرحلة. أريد أن أبدأ من اللحظة الحالية والشهور الثمانية الأخيرة، بعد 14 عاماً من الرحلات إلى السجون المصرية، حتى السجون التي صارت ذكرى ولم تعد موجودة، والسجون الحديثة التي أطلقت عليها الجمهورية الجديدة اسم «مراكز التأهيل»، مروراً بالسجون الصغيرة في الأحياء الصغيرة أو السجون المخفية في صحارى القاهرة والجيزة، بالإضافة إلى مقارّ التحقيق المدنية والعسكرية والطوارئ، المترامية في قاهرة جديدة لا يعرفها غالبية الشعب المصري. لقد ذهبت ليلى سويف إلى كل هذه الأماكن، وعادت بدون ابنها البكر علاء عبد الفتاح، وانتظرت حتى ضاق القانون بحقوقهم، وانتظرت حتى ضاقت الأرض بخطواتها، وانتظرت حتى ينكشف وجه الحق والعدالة، ولا مِن مُجيب.
ذهبت ليلى إلى هذا الطريق، تستخدم جسدها كسفينة، وإرادتها كشراع في رحلة نخاف ألا تعود منها. ذهبت ليلى في رحلة مؤلمة، لكنها مكشوفة ومعلنة، ما يزيد عن 8 شهور متواصلة، يرى الناس نحول جسدها، يوماً بعد يوم، رأينا جميعاً، كيف زاد عمرها عشرين عاماً في شهور قليلة، كأنها قررت أن تضع عذابها كل صباح فوق طاولة في عرض الطريق ليراه الناس، الأيام الطويلة، الكثيرة، المخيفة التي قضتها وحدها تماماً، تذهب للزيارة أو تحضّر الزيارة أو تكتب لعلاء جواباً أو تقرأ منه جواباً، والوجع المسكوب في كل هذه اللحظات، ووصل إلى حدّ الامتلاء. لم تجد ليلى مكاناً جديداً تضع فيه كلّ هذه الآلام، لم يكن هناك متّسعٌ للروح، ولم يكن هناك أي رغبة في الصمود اليومي العادي وكأنّ السجن قد تحوّل لقدَر هذه السيدة، من الزوج للإبن للإبنة، ولم يقتنع النظام السياسي في مصر، أنّ 14 عاماً كافية للانتقام، بل تأكد لدى الجميع بعد هذه الرحلة، وبشكل واضح، أنّ النظام يريد استكمال الانتقام من هذه العائلة، يريد التخلص من السيدة التي أعلنت العصيان، والتي واجهت وحدها كل هذا العذاب المستدام المُعنْوَن بحكم الرئيس عبد الفتاح السيسي.
لقد قرّرت ليلى أن ترفع حدّة المواجهة المستعرة تحت أوهام تنفيذ القانون في هذا البلد. قرّرت مواجهة حقيقة الصراع، مواجهة الانتقام، وفضحه، واستخدام جسدها مثل السجناء، لكشف أهوال الظلم في بلد يمتلئ بالسجون الحديثة بدلاً من المدارس الحديثة والمستشفيات المتقدمة. بلد تكافح فيه عشرات الآلاف من النساء بشكل يوميّ كي يذهبنَ إلى السجون لمساعدة أزواجهنّ وأبنائهنّ من المعتقلين، ولا يستطعنَ التذمّر أو الشكوى رغم الأهوال التي يتعرّضنَ لها بدايةً من مصاريف الزيارة وصولاً إلى العذاب في رحلة الوصول للسجون البعيدة التي أُنشئت مؤخراً. تدفع النساء كلّ هذه الأثمان، بالإضافة إلى تحمّل مسؤولية المنزل والأولاد في غياب الأب، تتحمّل المَصريات كلفةً مضاعفة للاستبداد في بلادنا، وخرجت ليلى وصوتها وجسمها لتبلغنا جميعاً، ماذا تفعل السجون في حياتهنّ. لقد قررت ليلى أن تضع حدّاً لهذه المأساة المنسدلة على أكتاف كلّ أهالي المعتقلين السياسيين في مصر. قرّرت أن تنهي اللعبة الكئيبة التي سرقت حياة ابنها، كما سرقت حياة أسرتها وعائلتها الملتفة دائماً حول أزمة سجن علاء. لدى ليلى قناعة راسخة بأنّ الصمت على سجن علاء عامَيْن آخرَيْن، ربّما يأكلها أكثر من الإضراب الكلي عن الطعام. قرّرت ليلى أن تتماهى مع خطاب ابنها الذي قال في إحدى مقالاته «أنا في السجن سعيًا من السلطة لأن تجعل منّا عبرة. فلنكن عبرةً إذَن ولكن بإرادتنا. الحرب ضدّ المعنى لم تُحسم بعد في باقي العالم».
فهمت ليلى خلال رحلة الشهور الثمانية، أنّ رأس هذا النظام هو من يريد أن يجعل منها عبرة، عبرة لنا ولخوفنا وهزيمتنا، ولذلك قررت النضال من أجل المعنى. لم تتراجع خطوة عن معركتها، لأنّها تريد أن تترك العبرة أيضاً، المرأة التي حاربت وحدها وانتصرت على خوفها وجعلتنا جميعاً نرى في ضعف جسدها قوّةً أسطورية، لم يفهمها الأطباء بعد، تحارب الخفافيش والضباع والديكتاتورية المتوحشة التي جعلت من مصر، بلد المليون نعامة، مملكة الصمت والخذلان والخسارة. لكنّ ليلى رفضت ذلك كله، ودفع جسدها ثمناً غالياً. ليلى ستكسب في كل الأحوال، وفي أسوأ الأحوال، بينما الخسارة الكبرى لعلاء، السجين الذي شارك أمّه الإضراب عن الطعام ما يزيد عن 110 أيام، ومنى وسناء والعائلة المنكوبة، ونحن، ستكون خسارتنا بطعم العلقم وسواد المصير.
مثل كثيرين، أتابع كلّ صباح، وعلى مدار النهار والليل، الأرقام الحيويّة لليلى سويف، الرعب والأمل، المعجزة والخلاص. في هذا الوقت، وقت كتابة هذا المقال، تنخفض نسبة السكّر في جسد ليلى إلى تحت الثلاثين، ويراقب هذه الأرقام العديد من صديقات ورفاق رحلة ليلى سويف، الذين يفكرون على مدار الساعة، ماذا يمكن أن نقدّم لها في هذه المحنة. وفي كلّ لحظة خوف كبرى، تنخفض فيها الأرقام الحيوية، يرتعد الجميع، وتسأل إحداهنّ: هل واجبٌ علينا أن نقول لليلى أن تتوقّف وتنقذ روحها وتنقذ علاء والبنات من مصير مرعب؟ وفي كل مرّة يكون الردّ: مَن يعرف ليلى، يعرف أنّها لن تتوقّف، فهي ترى أن الخطأ الأكبر هو تحولّها من الإضراب الكلي إلى الإضراب الجزئي تحت ضغط الساسة والمقرّبين واستجابتها بزعم اقتراب المساعي للإفراج عن علاء، وبالطبع يمرّ الوقت ولم يخرج علاء.
لم يتصوّر أحد منا، قبل هذه التجربة، أن يستمر صمود ليلى كل هذا الوقت. في الشهور الأولى من الإضراب، أجريت معها حوارات مفتوحة وممتدة لأيام، حاولت تسجيل بعض الحكايات التي تستدعيها حالة الإضراب، وكانت في قمة نشاطها الذهني ولا أنسى ما قالته عن تعريفها للهزيمة وتعريفها للمواجهة: «يمكن استدراك المواقف، وتحويل الهجمة إلى ضربة مضادّة، كما حدث في قضية تعذيب سيف (زوجها) في الثمانينات. حتى أكبر لحظات انكسار الناس وخوفهم يمكن أن تصبح مؤقّتة. حتى لحظة كسر سيف بعد التعذيب، تجاوزناها». لقد فعلت الأمّ ما تشعر به، لقد فعلت ليلى ما تؤمن به، وتركت السياسة للمشتغلين بها، وتركت مساحة ثمانية شهور من الجوع الذي يقترب من حدود الموت، كي يتحرك الساسة، ولكن ماذا فعلوا؟
على مدار ثمانية أشهر، تحوّل جسد ليلى سويف إلى لوحة يومية لعرض مطلبها الأساسي، حرية علاء، التي هي حقّه. وأثّر صمود الأمّ بكثيرين من أصحاب الضمائر والساسة والنشطاء في إنجلترا، بعدما نظمت اعتصاماً يوميّاً على باب مجلس الوزراء البريطاني، لكون علاء بريطانياً نسبةً إلى أمّه ليلى التي وُلدت في إنجلترا أثناء إعداد والدتها رسالة الماجستير. عادت ليلى إلى بلد الميلاد لتخوض حربين، فأعلنت عن إضرابها من القاهرة، واستمرّت لشهور تذهب للعمل في جامعة القاهرة وزيارة علاء في السجن، حتى تدهورت حالتها وانضمّت إلى باقي روافد العائلة في إنجلترا. فالحالة الطبّية لليلى سويف غير مفهومة بالنسبة للأطباء في بريطانيا، يراقبها الجميع باعتبارها حالة طبية نادرة. الأرقام التي تعلنها الشاشات مُفزعة، ومن المفترض أنّ صاحبها غائب عن الوعي، لكن ليلى لا تزال تقود جسدها- حتى كتابة هذه السطور. منحت هذا النظام المنتقم كل الوقت الكافي، ليتوقف عن شروره وعناده، وأن يعود للحق مرّةً ولو على سبيل التغيير، وخلال ذلك، تنوعت وتعدّدت أشكال الدعم المعنوي حولها. ربما كان ما ساعدها وأنقذها حتى الآن، أطياف البشر الذين يجتمعون على ضرورة إنقاذها. وبينما تُغيّر حالة ليلى وجه السياسة المحلية في إنجترا وتحصل على دعم برلمانيّين وساسة، وتنشر كبرى الصحف قصة الأمّ المبهِرة، يتجاهل الإعلام المصري القضية برمّتها، وكأنها غير موجودة، بل ويطلقون لجانهم الإلكترونية لتشويه العائلة ورحلتها، حتى لحظة صمود الأمّ الأسطورية يكذّبونها ويشكّكون في صحتها، ممّا يعطي إشارة واضحة على نية النظام عدم الإفراج عن علاء.
ومع ذلك، ذهب قادة الأحزاب والقوى السياسية المدنية في مصر إلى الادعاء بأنّ الوضع معقّد وأن الأجهزة الأمنية ليس لديها أزمة في خروج علاء وسفره إلى بريطانيا والانتهاء من كل هذه الأزمة المستدامة، وقالوا جميعاً أنّ المشكلة تكمن في القيادة السياسية، وأنّ المسألة شخصية وتحتاج إلى المحايلة الخاصة. ولذلك، طلبوا من الأسرة وجميع القوى المدنية، الانبطاح الكامل لإرضاء القيادة السياسية، وعمل استغاثات ونداءات لشخص رئيس الجمهورية. وبالفعل، انهالت الاستغاثات، من رؤساء الأحزاب، الأمهات المصريات، بعض البرلمانيين، أعضاء هيئة تدريس في مصر والخارج، مجموعات متباينة من النشطاء، وأخيراً قدّمت أسرة علاء عبد الفتاح أكثر من نداء مباشر لرئاسة الجمهورية، وكانت النتيجة حتى الآن، كما نراها يومياً، مواصلة الأم النحول والتدهور بينما تواصل الدولة العنف.
إنّ القادة الحاليين للحركة المدنية هم رفاق وأصدقاء ليلى سويف منذ المرحلة الجامعية، يعرفونها أكثر ممّا يعرفها جيلنا، وعايشوا رحلة كفاح أسرة ليلى منذ الثمانينات، منذ اعتقال احمد سيف وتعذيبه، ورحلته الطويلة لمساعدة كل المظلومين في هذه البلاد، وموته دون رؤية ابنه علاء وبنته سناء اللذَيْن كانا معتقلين لحظة وفاة سيف في 2014. ومن المخجل أن يجلس هؤلاء جميعاً يرسمون ملامح مشاركتهم في الانتخابات البرلمانية القادمة، كديكور انتخابي، وأن يستكملوا دورهم مثل كومبارسات للديمواقراطية المزعومة في أشدّ العصور ديكتاتوريةً وترهيباً التي تعيشها بلادنا، وبينما يواجه أعزّ أصدقائهم خطر الموت جوعاً، احتجاجاً على استبداد وظلم هذا النظام.
ولنا أن نتخيّل كيف تُدار بلاد بحجم مصر، ومصير ما يزيد عن 100 مليون مواطن، بهذه العقلية الانتقامية، كيف يمكن الاطمئنان إلى صحة القرارات المصيرية لهذه البلاد، في ظل عزلة القيادة السياسية عن كل أطياف الشعب، معارضة ومؤيدين. لا يوجد مؤسسات في بلادنا، تستطيع التأثير عن الفرد الملهم المسيطر والمتحكم في حياة البشر. وكيف ترضى ما يطلق عليها الحركة المدنية المصرية، أن ينحصر دورها السياسي في التوسل وإجبار الجميع على التوسل والإذعان؟ يقولون لنا إنّ السياسة هي فنّ الممكن، لكنهم لا يستخدمون حتى سلاح التلويح في وجه النظام. يطالبهم الشباب في أحزابهم برفض المشاركة في الانتخابات البرلمانية ردّاً على تجاهل مطالب المعارضة المتكررة في الإفراج عن كل سجناء الرأي، والعفو عن علاء عبد الفتاح وإنقاذ والدته، ومع ذلك، يخافون على فُتاتهم، يخافون أن تفوتهم عطيّةٌ من عطايا الدولة المستبدّة.
نحن في المرحلة الأخيرة من هذه الرحلة المؤلمة. أمامنا خياراتٌ كابوسية، وأخرى ترقى إلى المعجزة. أؤمن تماماً أنّه لو انتصرت هذه السيّدة، ستكون معجزتها الخاصة، ولا فضل لأحد. وإن وقع الكابوس، لا قدّر الله، سيكون عقاباً كبيراً، ربّما لا نقوى على احتماله. لا يهمّنا أن نحتفظ بصورة ليلى في التاريخ، لأنّها دخلته بالفعل، وتمشّت كثيراً في شوارعه، إضرابها عن الطعام سوف تسجّله الدوائر الطبية والسياسية والإنسانية كحدث غير عادي، بصرف النظر عن النتائج، وهو ما يغضب السلطة المنتقمة في مصر، ويزيد من وحشتيها. فالصراع على السردية قائم ومستمر منذ الإعلان عن جمهوريته الجديدة، لكننا في هذه اللحظة وبشكل أنانيّ بعيداً عن التاريخ، نريد أن نحتفظ بليلى سويف شخصياً، نخاف أن تغادرنا، نريدها لأولادها وحياتها التي لم تعِشها برفقة الأحفاد والعائلة الصابرة. نريد أن تتوقّف المناورات السياسية الخائبة، وأن تتّخذ القوى المدنية موقفاً يليق بهذه اللحظة الجسيمة، لكنّهم لا يدركون أنّ إنقاذ ليلى إنقاذٌ لوجودهم شخصياً، وأنّ رحلتها كاشفة لحقيقة حجم وتأثير هذه الكيانات الافتراضية المسمّاة بالمعارضة المصرية، التي لا تدري أنّها سوف تسقط كلّها، إن سقطت ليلى سويف.