مقدرش اتراجع (...) الوضع ده لازم يخلص، حتى ولو كان تمنه حياتي
ليلى سويف
أمي لو ماتت جثمانها هيروح مصر (...) ودبابير العالم مش هتوقفني
سناء سيف، ابنة ليلى سوي
في مواجهتها الموت، تنتش ليلى سويف، الحرية من فم الوحش. بهذا الاحتجاج المُعلَن، براديكاليّته القصوى، بالامتناع عن الطعام والإضراب عنه، يظهر آخر ما يمكن لامرأة شجاعة وحرّة، أن تقوله لهذا العالم، وأن تنتزعه انتزاعاً من وحشية نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. وهي إذ تجعل جسدها، آخر مساحاتها في الوجود، عرضةً للموت، فإنّها تجعله أيضاً عرضةً لآخر ما يسمّيه المرء اعتراضاً ورفضاً وممانعةً وإباءً ومواجهةً شرسةً للقمع والسجن والقتل والاغتيال المعنوي والتأديب القسري… وكلّ ذلك بأداة واحدة هي الجسد، وبفعل واحد هو الامتناع.
ليلى سويف بوصولها الى حافة الموت، تريد لجسمها أن يكون آخر ما ينطق باحتجاجه. آخر جزيرة لها. تسكنه ويسكنها. وتتركه يذبل أمام وعيها الكلي بخطوتها في دفاعها عن ابنها المسجون وعن عائلتها التي تعاني وتتفكك وتفقد توازنها وتخسر خسارات هائلة. ولأنّ الكلمات أمام الديكتاتور تصبح محنّطة، هالكة، متحجّرة، مغتالة، وسجينة، وأحياناً كثيرة، أداة إدانة لقائلها، لا يعود للمحتجّ لغةٌ أمام سلطةٍ خاويةٍ من أي قيم أخلاقية. اللغة بهَمْهَماتها ووشوشاتها وإشاراتها وكلماتها تمسي ميتة وجامدة، لأنّ لا أحد يصغي لها ولا يعيرها أيّ انتباه. فتصير مجرّد فقاعات لا صدى لها. تذوي وتتحطّم في الفراغ والعدم.
لا تعود كلمات المرء تجدي. يصير الجسد آخر لغاته وأسماها. يسعى أن يقول من خلال جسده الذي يذوي ويطوي نفسه على نفسه، ومن خلال استضعافه وجرّه إلى الحافة. هذا الكلام الصريح في تجلّياته بالوهن والضعف والإعياء والمشقّة والتقلّص هو أعلى مستويات الاحتجاج. في جعل الجسد أمام نفسه، مواجهاً قدرته على البقاء بالموت. وكأنّ الموت هنا ليس استسلاماً، بل نقيضٌ تامّ لفكرة امتلاكه من السلطة. هنا في حالة الإضراب الكلّيّ عن الطعام، تأكيدٌ على امتلاك الفرد لجغرافيّته الأخيرة، كمساحة حرّة لامتلاك القوّة واستعادتها من السلطة، باعتبارها قوة الفرد في مواجهة العالم. قوّة لا أحد يستطيع- سوى الشخص نفسه- أن يأخذها منه. من هنا لا يكون الجسد سوى اللغة نفسها. وعي ليلى سويف بجسدها قويّ. وهي بجعله واهناً يخبو، تحاول محاولة أخيرة أن تنطق بشيء صارخ ومباشر من دون كلمات ولا شعارات ولا بطولة. تلك الكلمات التي خذلتها ولم تصل أمام الطغاة وأمام الوحش، وأمام العالم الذي لم يستطع سوى علك خطابات الشجب والاستنكار البالية، التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع.
منذ 235 يومًا، تخوض سويف معركتها السلمية. عنفها ذاتيّ للغاية، لكنه إجلال شعري للإرادة الواعية بالحق ومواجهة فردية بتأثير جمعيّ، للقوّة والجبروت والتسلّط والتعسّف والإجبار. وهي بذلك تقول علناً: إما الحرية وإما الموت. وكأنها، بعلم مسبق، تضع جسدها، آخر جغرافياتها الآمنة، أمام خيارين لا ثالث لهما٬ ولا قدرة للسلطة وعنفها على بسط ملكيتها على هذا الجسد في رهانه على حريته وموته في آن.
بدأت سويف رحلتها بإضراب جزئيّ ثمّ تحوّل إلى امتناع عن الأكل، وفقدت خلال هذه الفترة ما يزيد عن ثلث كتلتها الجسدية. وبلغت نسبة السكر في دمها 1.5 mmol/L فقط، وهو مستوى قد يوصل إلى توقّف أجهزة الجسم عن العمل ويعطّل وظائفها الحيوية. أما الكيتونات في دمها، فقد تجاوزت الحدّ الأعلى، في دلالةٍ على أنّ جسدها لم يعد يصل إلى أيّ طاقة.
ليلى سويف في تحويل جسدها إلى أداة مواجهة صامتة، تملك من سلطة الشعر ما لا يمكن لأي سلطة أن تسرقه وتبدّده وتقتله وتملكه وتسحقه. وهي سلطة الكرامة والحرية. سلطة هذا الجسد الواهن في صراخه الجليل داخل سكوته المضمر.