الجغرافيا تتحدّث لتواجه النظام المصري بشأن دوره في غزّة: البحر أمامنا، والعدوّ بجوارنا، والعالم من كل البقاع يُبحر نحو فلسطين التي تشاركنا بحرنا.
ربّما غضبت الحدود والشواطئ اكثر من غضبة شعبنا ممّا يدور على بعد كيلومترات من حدودنا البرية والبحرية. فبعد دخولنا عامين من حرب الإبادة الجماعية والتهجير القسري في غزة، تقف السردية الرسمية عصيّةً على التصديق (المعبر مفتوح من عندنا، مقفول من عندهم) في إشارة للاحتلال الصهيوني ومسؤوليّته منفرداً عن إغلاق المعبر، وكأنّ سيادة مصر على معبرها ليست جزءاً من الاتفاقات الدولية أو جزءاً من الأمن القومي للبوابة الشرقية للبلاد. هكذا تبدو لنا الوطنية الجديدة وطنيةَ التخلي والانسحاق.
هذا التبرير البائس لم يكن مبرراً كافياً لقمع محاولات قافلة الصمود البرية الوصول إلى معبر رفح في حزيران/ يونيو الفائت، والقبض على عدد منهم وترويع البقية، قبل أن تخرج فرق «شباشب الدولة القمعية» لتبرّر العنف بالقول إنهم يضغطون على مصر لتوريطها في معركة مع الاحتلال. ثم يخرج علينا ضياء رشوان، قبل أيام، في تصريح من بتوع زمان حينما كان في صفوف المعارضة، ويعلن أن اسرائيل لن تقوى على فتح جبهة مع مصر في هذا الوقت! في الواقع، كنّا نريد أن تبلَّغ القيادة السياسية للبلاد بهذا الكلام بدلاً من الإدلاء به كتصريح صحفيّ للدعاية، لأن النظام المصري بحاجة أن يصدق هذه الكلمات بدلاً من تصدير الفزع للجمهور، ولتدرك مصر حقيقة وضعها وما تملكه فعلياً من قدرات لتغيير الواقع على الأرض في غزة بدلاً من استثمار اللحظة بشكل انتهازي لزيادة المعاملات الاقتصادية والتجارية مع العدو في لحظة الإبادة.
الآن، عين العالم على أسطول الصمود المنطلق من برشلونة إلى تونس ليعبر إلى بلاد المتوسّط وبحرنا الذي نشاركه مع غزة، والذي سيكون مسرحاً للأحداث القادمة. أعرف أنّ الأجهزة الأمنية تجهّز خطتها لقمع كلّ تحرك مصري يخص التضامن مع أسطول الصمود، لكنّ البحر لن تفلح معه نظرية «الشباشب» القائلة إنّ البحر مفتوح من عندنا ومقفول من الاحتلال.
انطلقت دعوةٌ من عدد من شباب الحركات السياسية في مصر، والفاعلين في الحراك منذ الحرب على غزة، لتنظيم أسطول للصمود من أحد شواطئنا المتعددة على البحر المتوسط. انطلقت الدعوة من شباب حاصرهم مناخ العجز السياسي في البلاد، فليس من المفروض أن يقبل هؤلاء الشباب ألا يخرج من كل شواطئ مصر قارب واحد لتحية الأسطول أو الانضمام إليه. كيف نرضى جميعاً أن يتقزّم الدور المصري، لدرجة خيانة الجغرافيا براً وبحراً، وليس فقط محو التاريخ الرابط بين مصر وفلسطين. خرج هؤلاء الشباب إذاً عن صمت قيادات أحزابهم وتياراتهم التي أدمنت التنسيق مع السلطة، ليقدموا طلبات للتظاهر والحركة رُفِضت كلّها، فتصوّروا أنّهم قاموا بدورهم، صاروا وسطاء بين شباب المعارضة والقيادات الأمنية، لتبليغهم التهديدات نيابة عن الأجهزة!
عجز شباب تلك الحركات السياسية لسنوات عن اتخاذ المبادرات، وبقوا دائماً في حالة انتظار للتعليمات الأمنية. لم يقوَ حزب أو تيار على الخروج عن القطيع المطيع واتخاذ مواقع عكسيّة، كأن تبادر الأحزاب، فتضطر الأجهزة الأمنية للتعامل مع الموقف. بمبادرات كهذه بُني الحراك الحقيقي في كل مراحل التغيير في مصر، ولن يكون هناك مخرج إلا بمبادرات خارج الحدود المرسومة من السلطة المرتعدة دائماً من أي تجمع بشري عدا تجمعات حفلات الساحل الشمالي!
وهذا يُرجعنا بالضرورة إلى سؤال أكبر عن واقع الشواطئ المصرية الحالي، التي تدار كموارد استثمارية فحسب. هذه النوافذ الواسعة على قارات ودول، هي أصل التبادل التجاري والثقافي لمدن البحر الأبيض والأحمر، وهي مصدر قوتنا منذ العالم القديم، كيف تقلّص دورها بين مهمتين وحيدتين: الأولى، للبيع وتسديد ديوان مشروعات كبرى لم تدرّ دخلاً، والثانية للترفيه وتسمين طبقة البليونيرات التي ظهرت مع نشوء الجمهورية الجديدة، جمهورية الأسوار، ومنع المواطنين العاديين من الاقتراب ما داموا لا يملكون كيو آر كود!
باعت الجمهورية الجديدة ما لم يكن في الحسبان أن يباع، أفضل الشواطئ على البحر الأبيض المتوسط، مما أدى إلى تآكل بعضها، باعوا جزراً داخل المدن. هناك شواطئ لن يعرف أحفاد المصريين القادمون انها موجودة، ذلك أنّ جمهورية التفريط الجديدة باعت ما يملكه كل المصريين دون وجه حق لمن يملك المال والسلاح ويهندس المنطقة لحساب الاحتلال الصهيوني!
منذ الإعلان عن الخطوات الأولى للأسطول المصري، ظهرت التهديدات، كما التفّ حول الفكرة مئات المنضمّين، الراغبين في المشاركة الفعلية، ممّن ملأوا الاستمارات وممّن عرضوا المساعدات اللوجستية، وممّن عرضوا تقديم خدمات فنية. وتأكدنا، ممّا ندركه مع كل محاولة تضامن شعبية مع غزة، أنّ الناس في بلادنا ليسوا بنذالة وخسّة الساسة فيها! وعلى الدولة تجاوز رعبها من الحركة في الشارع، وإعلان تسهيل حركة الأسطول المصري الذي قدّم مستشارهم القانوني الطلبات الرسمية للجهات المعنية، بدايةً من رئاسة الجمهورية وحتى إدارة موانئ الإسكندرية ودمياط.
أكتب هذا المقال، بينما يعربد الاحتلال في موانئ تونس والدوحة وقبلها في لبنان واليمن وسوريا، ولا ندرك متى ستبدأ مصر في استخدام كل أدوات الضغط المتاحة لتغيير هذا الواقع. على مصر أن تفتح الطريق نحو المعبر لكل الصحف والمراسلين الذين قدموا عشرات الطلبات للسيد ضياء رشوان، رئيس هيئة الاستعلامات، وتجاهلها جميعها، وكأننا نساعدهم أن تظلّ الإبادة بلا تغطية بعد قتل أغلب صحافيّي القطاع. على مصر فتح الشواطئ لانضمام سفننا للأسطول العالمي. على مصر الإفراج عن معتقلي التضامن مع فلسطين بعدما حوصرت كل أشكال التضامن المصري مع غزة، ما بين اعتقال وترهيب وغرامات مالية!
إنّ ما يراه فريق «شباشب الدولة القمعية» توريطاً لمصر، هو ما كان سيغيّر المعادلة المبتذلة، لأنّ التورّط الأكبر يقف شاهقاً في ميادين مصر الصامتة مع كل صباح، حين نرى الجوع والاستثمار في الجوع. فمن يرفع عنا هذا العار؟