انتهت الحرب
منتصف ليل الأربعاء، وبتغريدةٍ على منصّة «تروث سوشيال»، أعلن دونالد ترامب توصّل حركة حماس وإسرائيل إلى اتّفاقٍ حول مرحلته الأولى من خطّة السلام في غزّة، مؤكّداً إطلاق سراح جميع الرهائن وانسحاب إسرائيل إلى «الخط الأصفر» كخطوة أولى.
وهكذا انتهت الحرب الأكثر دمويّةً في تاريخ الحملات الإسرائيلية على الفلسطينيّين؛ بعد أكثر من 67 ألف شهيد، وبعد أكثر من 150 ألف جريح، ومع أجيالٍ من الفلسطينيين الذين سيحملون آثارها في أجسادهم، وبعد تدمير القطاع بأكمله، ما سيجعل مستقبل ساكنيه مرهوناً لسياسات المساعدات الدولة.
وهكذا أيضاً، تقلّص سقف نتنياهو تدريجياً: من «احتلال» القطاع كاملاً، إلى «إدارته»، إلى «إدارته بواسطة ميليشيات»، إلى القبول بمقترح ترامب حول «مجلس سلام»، بعدما أنزله الأخير عن الشجرة: «بيبي، لا يمكن لإسرائيل أن تحارب العالم كلّه». من جهتها، أكّدت حركة حماس أنّ «اليوم التالي فلسطيني».
انتهت الحرب، أو على الأقلّ، مرحلة منها، كونه لم يجرِ بعد الاتّفاق على شكل «اليوم التالي». انتهت، بعد سنتين استرخصت خلالهما دول العالم الدمَ الفلسطيني. انتهت، في لحظة تقاطعٍ للضغوط الدولية، مع المصلحة الأميركية- الإسرائيلية الآنية.
عالم ما بعد الإبادة
انتهت الحرب، لكن هل انتهت الإبادة؟
هل يطوي اتّفاق وقف إطلاق النار صفحةَ الإبادة، لتصبح مجرّد مرحلة من ماضٍ أليم، لا مكان لها في «قطاع غزة الجديد» كما سمّى ترامب الركام الحالي في غزّة؟ هل عالم ما بعد الإبادة سيعود إلى ما كان عليه قبل 7 أكتوبر، أي قبل أن يصبح القتل الإبادي للفلسطينيين خبراً عادياً؟
تمّ الاتفاق على المرحلة الأولى من خطة الرئيس الأميركي التي وضعها في سياق مسار «سلام»، يحوّل القطاع إلى مستعمرة منزوعة السلاح يديرها «مجلس سلام»، ولا دور للفصائل الفلسطينية في إدارتها. لكنّ هذا السياق السياسي، القائم على اتّفاقيات سلام «غير سياسية» ومناطق عازلة وأخرى اقتصادية، لا يمكن أن يكون خلاصة السنتين الأخيرتين. أي، لا يمكن للإبادة أن تصبح مجرّد مرحلة في خطّة تطوير عقاري، وإلّا نكون ليس فقط فقدنا ألاف الشهداء، بل فقدنا أيضاً ما تبقّى من إنسانيتنا.
وقف إطلاق النار لا يطوي صفحة الإبادة ولن يشكّل عودةً إلى عالم ما قبل 7 أكتوبر. يمكن لعالم ما بعد الإبادة أن يكون عالماً يُبنى على رفض الإبادة، أو يمكن أن يكون عالماً بُني من أجل استمرار الإبادة. هذا هو الخيار اليوم.
هل تنتهي الإبادة؟
لم يلحظ نص خطة ترامب أي إشارة إلى الإبادة. وهذا طبيعي، فداعمو الإبادة لا يقرّون بحصولها أصلاً. هو اتّفاق وقف إطلاق نار، وبالتالي، اتّفاق بين طرفَين لا مهرب من أي يتفاوضا بعضهما مع بعض، ويساوما من أجل وقف القتل. لكن هناك إبادة حصلت، أكّدتها الأمم المتحدة، وصدرت مذكّرات توقيف بحق المسؤولين عنها، وتحوّلت في الأشهر الأخيرة إلى القضية الأساسية في معظم دول العالم. هذه الإبادة لن تختفي لأنّ حركة حماس وافقت على المرحلة الأولى من خطة ترامب للسلام.
المرحلة المقبلة ستكون مرحلة محو آثار الإبادة وتحويلها إلى مجرّد مجزرة مؤسفة. في وجه عملية المحو المقبلة، لا بدّ من التمسّك بذاكرة الإبادة، للتذكير دائماً بأن الحاضر بُني حسب منطق عنف وليس منطق عدالة، وأنّ تحت المناطق الاقتصادية جثث أجيال من الفلسطينيين.
الانتداب الجديد
ما من عودة إلى عالم ما قبل 7 أكتوبر.
فالمنظومة القانونية التي حكمت عالم ما قبل الإبادة قد ضُربَت، بهدف تسهيل القتل الممنهج. وجاء شكل اتّفاق وقف إطلاق النار كتأكيد على تخلّي حكّام العالم عن أدبيات القانون الدولي ومؤسّساته. فعوضاً عن اتّفاقٍ يرعى القوانين الدولية، وضع ترامب في نموذج «مجلس السلام» أسسَ نظامٍ استعماريٍ جديد، قد يصلح كنموذج للمنطقة، من جنوب لبنان إلى جنوب سوريا أو الضفّة الغربيّة. يقوم هذا النموذج على تطوير عقاري ومناطق عازلة وتقنيات مراقبة وقتل، يراد منها وضع المنطقة تحت وصاية جديدة، كما يراد منه ضرب المؤسّسات الدولية التي شكّلت على مدار العقود الأخيرة، إطاراً لإدارة الأوضاع على الأرض. فالاتّفاق يبدو وكأنّه استكمال لمشروع ترامب للمنطقة القائم على اتّفاقيات إبراهيمية أخرجت السياسة من مسألة العلاقة مع إسرائيل، وطبّعت دور إسرائيل، ومن ورائها الولايات المتحدة، كشرطي المنطقة، ووعدت بالتطوير الاقتصادي لشعوب باتت منهكة من سنوات من الحروب والإبادات. كانت المسألة الفلسطينية تشكّل العائق أمام هذا المشروع، وحصلت محاولة زحزحة هذا السؤال عبر إبادةٍ، تواطأ في استمرارها كل من رعى هذا الاتّفاق.
ينذر «شكل» الاتّفاق بنظام وصاية جديدة في المنطقة، كانت المسألة الفلسطينية عائقاً أمامه، قبل تطويع القضية وتحويلها إلى مختبر لترابط العنف والمصالح والأوهام.
مصير المقاومات
انتداب جديد، يطرح سؤال مصير الفصائل الفلسطينية، والمقاومة بشكلٍ أوسع. فبعد سنتين من القتال، باتت قدرة حماس والجهاد الإسلامي في غزّة محدودة، بعدما استنزفت إسرائيل قدرتها لردع المزيد من الهمجيّة الإسرائيلية. وجاء اتّفاق وقف إطلاق النار الذي يطمح إلى إخراج حركات المقاومة من العمل العسكري أو حتّى السياسي، كترجمة لهذا الواقع الميداني. وهذا الوضع بات يمتدّ إلى سائر حركات المقاومة، خصوصاً حزب الله الذي بات في وضعٍ شبيه، يفاوض على بقائه من بعد تراجع قدراته على التفاوض بالميدان. فإذا كانت حركات المقاومة تشكّل قبل 7 أكتوبر تهديداً على إسرائيل، سواء أكان في تقنياتها أم محورها أم حضورها الشعبي، فإنّها، بعد الحروب والتفوّق العسكري الإسرائيلي، قد تحوّلت إلى أطرافٍ تظهر اليوم كأجسامٍ سياسيّة أكثر من عسكريّة.
هناك نموذج من المقاومة فقد صلاحيّته بعد السنتين الأخيرتين، ليطرح سؤال كيفية إعادة ابتكار أطر مقاومة جديدة، تسعى إلى مواجهة مشروع الانتداب الجديد، خارج الأجساد الموروثة والمترهّلة لمقاومات المحور.
نتنياهو والضفة الغربية
رغم الزخم العالمي خلف خطّة ترامب، هناك نقطة ما زالت مجهولة، وهي مصير نتنياهو الذي ارتبط اسمه بالإبادة. فحاول التهرّب من أي اتّفاقٍ بالماضي، مدركاً أنّ بعد الحرب، قد تكون هناك محاسبة، وإن لم تكن داخلية فمن المرجّح أن تكون دولية. في وجه هذا الاحتمال، ومع صعود اليمين المتطرّف في إسرائيل، ليس لنتنياهو الكثير لفعله، غير فتح جبهة جديدة. هذا إذا استثنينا الجبهة الأخرى المفتوحة، أي الضفّة الغربية، لاستكمال مشروع التطهير العرقي إلى آخره. فإن كان العالم يريد الانتهاء من «فضيحة» الإبادة، نتنياهو يريد الانتهاء من الفلسطينيين، كالثمن الوحيد المقبول للسنتين الأخيرتين ولانهيار صورة إسرائيل عالمياً.
وقف إطلاق النار لم ينهِ الحرب، بل محطّة منها، والتي من المرجّح أنّها ستُستكمل في الضفة، استيطاناً وتهجيراً. فمشروع الحكومة الإسرائيلية لن يقف لمجرّد انتهاء مرحلة الإبادة، وهم يدركون ألّا مستقبلَ سياسياً لهم خارج العنف.
انتهاء المقتلة، في أيّ ظروف، خبرٌ سارّ، لا يمكن التعالي عليه باسم أي اعتبار آخر. لكن بعد وقف إطلاق النار، تبدأ مرحلة الـ«ما بعد»، مرحلة مراجعة، ومحاسبة، واستكمال المقاومة بأشكال جديدة.