تحليل غزّة
سمير سكيني

عشرُ زوايا لإعادة تركيب مجزرة مستشفى ناصر

26 آب 2025

زاوية أولى

«صورة توثّق اللحظات الأخيرة للشهداء الصحافيين محمد سلامة، معاذ أبو طه، ومريم أبو دقّة أثناء تغطيتهم للقصف الأوّل الذي استهدف مجمّع ناصر الطبّي». هذا خبرٌ مُرفقٌ بالصورة التي توثّق اللحظات الأخيرة للشهداء الصحافيين محمد سلامة، معاذ أبو طه، ومريم أبو دقّة أثناء تغطيتهم للقصف الأوّل الذي استهدف مجمّع ناصر الطبّي. لماذا استهدفَ القصفُ مستشفىً أساساً؟ وبسؤالٍ أكثر عموميّةً: لماذا استهدفَ القصفُ؟

أبحث عن الفيديو الذي اقتُطعَت منه الصورة. يقترب الصحافيون من مكان سقوط الصاروخ الأوّل، يقومون بوظيفتهم الروتينية، التقاط الصورة، ويبتعدون إفساحاً للمجال أمام فريق الدفاع المدني. يقترب فريق الدفاع المدني، ويقوم بوظيفته الروتينية، يلتقط الـ…

الدوائر على هذه الصورة توحي وكأنّ «اللحظات الأخيرة» تدور فقط في داخلها. ماذا حلّ بباقي الأشخاص هنا؟

زاوية ثانية

استوديو قناة «الغد» يتواصل مع مُراسله في غزّة، إبراهيم قنن. هو (بالأحرى المصوّر المُعاون هو) الذي التقط الفيديو الذي وثّق «اللحظات الأخيرة». فيما كان الصحافيّون الثلاثة ينزلون الدرج مبتعدين، كانت المُذيعة تستفسر عن ظروف العمل، لا سيّما وأنّ الصاروخ الأوّل قد استهدف، بدوره، صحافياً، وهو حسام المصري.

يُبادر المُراسل إلى الإجابة: لا حصــ / … ــــــــــــــــــــ  ـصاروخٌ يقطع كلمتَه إلى نصفَين، فيبقى نصفها الثاني (ــانة) عالقاً في حنجرته، ويُكمل الصاروخ مسيره إلى حيث «الصورة التي توثّق اللحظات الأخيرة للشهداء الصحافيين...». وسيصبح التقاطع ما بين توقيت الصاروخ الثاني ولفظة «لا حصانة» مفارقةً تاريخيةً تكشف هشاشة الحصانات في مكانٍ مثل غزّة أمام جهازٍ إباديٍّ مثل إسرائيل.


زاوية ثالثة

فيما كان المُراسل يستهلّ جملته بعبارة: «لا حصانة»، كان جمعٌ من المواطنين يُحاوط مكان الصاروخ الأوّل، وبطبيعة الحال، يصوّر. من زاويةٍ قريبةٍ لزاوية قناة «الغد»، يصوّر أحد المواطنين الشرفة/ الدرج حيث كان الجمع الذي سوف يُستهدَف بعد قليل. وبمحض الصدفة، تلتقط عدسته الصاروخ (الثاني) في الهواء، معلَّقاً فوق الـ«لا حصـ … ــــــــــــــــــــــــــ


زاوية رابعة

فيما كان هذا المواطن يصوّر الشرفة، كان على الشرفة أحد المصوّرين (يظهر بوضوح في فيديو «الغد» وهو يرتدي كنزةً حمراء) وقد اختار الابتعاد إلى أعلى عوض نزول الدرج. من فوق، صوّر هذا الرجل فرق الإغاثة وهي تشتغل مكان سقوط الصاروخ الأوّل. فجأة، ستصبح شاشته سوداء. فبعد أن قاطع الصاروخ (الثاني) «لا حصانة» مُراسل قناة «الغد»، ها هو يُقاطع البثّ الحي الذي كان يوثّق الجريمة (الأولى).

هذا هو المصوّر:

وهذه هي صورته: صورة «مقسومة» بنظافة: إلى اليسار، المقدّمة: فرقٌ تعمل. إلى اليمين، الخلفيّة: جمعٌ يُراقب.

(حتّى أنّ مريم أبو دقّة تظهر هنا):

وهذه هي شاشته، لحظة انقطاع البثّ، عند الاستهداف الثاني:


زاوية خامسة

رغم قربه من الاستهداف، لم يستشهد هذا المصوّر. فقد عثرتُ عليه أثناء مراجعة الصوَر المنشورة على وكالة AFP.

تبيّن أنّ اسمه حاتم عمر، مصوّرٌ متعاقدٌ مع وكالة «رويترز» تحت اسم حاتم خالد. والأرجح أنّ البثّ الذي انقطع للتوّ، كان بثّ «رويترز»، «رويترز» نفسها التي امتنعت عن إدانة القاتل في الخبر المُصاغ بلغة المجهول، المتعلّق بحسام المصري، المصوّر الصحفي المتعاقد معها، والذي استهدُف قبل دقائق. أمّا حاتم عمر، فها هو، وقد نجا من الصاروخ (الثاني) ونُقل إلى داخل المستشفى. حتّى في هذه اللحظة، تُحيط به أكثر من كاميرا، وهو يعانق كاميرته. وما كنّا نراه عبر شاشته بالأسود، كان يراه هو، مباشرةً، بالأحمر القاني: 


زاوية سادسة

قبل أن تسوَدّ شاشة حاتم عمر بلحظات، تمكّن من تصوير شخصٍ آخر وهو يحمل عدّة الصحافي المستهدف في الضربة الأولى، أي حسام. كاميرا وحقيبة تابعة لها. المسعفون يُعاينون جسد الشهيد، المصوّرون يصوّرون عدّته الصحفية. يمسك الرجل الحقيبة بيد والكاميرا بيد، ويرفعهما أمام الجموع. يريد أن يريهم «الحصانة» التي سوف يذكرها مراسل قناة «الغد» بعد لحظات. هذه هي الحصانة، معدّات تصوير وقد تشظّت. وهذا هو الرجل (وقد تبيّن أنّ اسمه عبد الله عامر)، بعدسة حاتم عمر:

وهذا هو عبد الله نفسه، باللحظة نفسها، بعدسة أحد المواطنين من بين الجموع:


زاوية سابعة

تتكرّر هذه الحركة عند كل مجزرةٍ كبرى. يرفع المعنيّون أي شيء أمام الكاميرا كأنّهم يريدون بَرهَنة شيءٍ ما، كأنّ بين أيديهم «دليلاً». ولكن هل يحتاج دمٌ بهذا الوضوح إلى دليلٍ للتوضيح والبرهنة؟ يرفعون أي شيء. عدسة، صورة، يَد، حتّى أنّهم رفعوا، في غير مرّة، جسد طفلة مقطوعة الرأس… كأنّ النيران خلفهم لا تكفي. كأنّ الأشلاء بينهم لا تكفي. كأنّ الدم النازف على الأرض لا يكفي. كأنّ صراخ المُصابين لا يكفي. أو أنّ رائحة البارود لا تكفي. صوت الزنّانة ألا يكفي؟ كأنّ لا شيء يكفي. فلا منطق في استمرار المقتلة، إن كان ثمّة ما يكفي.

في اللحظة التي كان فيها عبد الله يرفع الكاميرا والحقيبة أمام الجمع، على الطابق الثالث أو الرابع، كان طبيبٌ يقف تحته، على مدخل المستشفى في الطابق الأرضي، ويأتي بحركة مشابهة من غير تنسيق:


زاوية ثامنة

هذا هو الدكتور محمد صقر، مدير التمريض في مجمّع ناصر، وهو يرفع قميصاً ملطّخاً بالدم أمام عدسة معاذ مقداد. يُدين الجريمة (الأولى)، حيث أزهق الصاروخ (الأوّل) دماء ممرّضة على ثوبها الأبيَض. الآن، لمفاجأة د. صقر، سوف ينفجر الصاروخ الثاني:

سوف يهرع الطبيب إلى داخل المستشفى، أمّا المصوّر، معاذ، فسوف يبقى على الباب. في هذه الأثناء، قُتل الصحافيّون الأربعة، وفي هذه الأثناء اسوَدّت شاشة المصوّر حاتم عمر قبل أن ينقطع بثّه. معاذ سيبقى عند الباب وسيوثّق احتماء المواطنين ونقل الجرحى إلى غرف العمليات. وسوف نرى، من بين الجرحى، المصوّر حاتم عمر نفسه:

سوف يدخل المصابون، وسوف يكون، في الداخل، كاميرا أخرى تنتظرهم وتصوّر حالة الهلع ما بعد لحظة الاستهداف:


زاوية تاسعة

كما رفع عبد الله حقيبة حسام، وكما رفع الطبيب ثوب الممرّضة، يضع أحدهم كاميرا مريم أمام كاميرا أخرى (لوكالة AFP). ها هي:

في رثاء مريم قرأتُ أنّها وهبت كليتها إلى والدها فأنقذته، وقرأتُ أنّ والدتها استشهدت خلال الحرب، وأنّ هذا كان الأمر الأصعب عليها، في حياتها. وقرأتُ وصيّتها لابنها غيث الذي تمكّنت من تسفيره إلى خارج القطاع، وهذا أيضاً، كان أصعب أمرٍ في حياتها.

[...] بدّي يا ماما ما تنساني أنا كنت أعمل كل شي لتنبسط
وضلك مبسوط ومرتاح وأعملك كل شي
وبس تكبر وتزوج وتجيب بنت سميها مريم ع اسمي
انت حبيبي وقلبي وسندي وروحي وابني ال برفع راسي فيه [...]

ثم سمعتها تقول إنّها سفّرته إلى الإمارات، فتذكّرتُ على الفور فيديو كنت قد شاهدته في مطلع الإبادة، حيث تودّع أمٌّ ابنها عند معبر رفح. كانت هذه مريم. كما كتب أحدهم، في نعيها، أنّها «الابنة البارّة والأم الرؤوم»، وكانت تلك المرّة الأولى التي أقرأ فيها هذه المفردة: الرَّؤوم – أي العاطفة على ولدها، شديدة الحنان. وفكّرت، لا يمكن أن يُلائم مصطلح مثل هذا إلّا شخصاً مثل مريم.


زاوية أخيرة

بعد تداول خبر استشهادهم، انتشرت التعليقات التي تستذكر حسنات الشهداء، تماماً كما حصل مع مريم الرؤوم. أمّا محمد سلامة، مثلاً، فتبيّن أنّه كان يتجهّز للزواج من خطيبته، الصحافية هلال عصفور، ولكن الصاروخ نفسه الذي قاطع «الحصانة»، ثم قاطع بثّ وكالة «رويترز»، قاطع العرس.

بين هذه الاستذكارات الكثيرة، صفعني مشهد واحد بشكلٍ خاصّ. كرّرتُ مشاهدته مرّات لا تحصى. وأعتقد أنّني أكتب هذا النص الآن كي أُلهيَ نفسي عن تكراره بعد. في الفيديو، يقف حسام المصري بين أنقاض منزلٍ مقصوف، منزله، في خان يونس. المشهد حوله قياميّ بعض الشيء. يفتح الكاميرا. يوثّق الدمار. ثم يقلب العدسة إلى وجهه، ومن هذه الزاوية، يتلو مرثيّةً مرتجلة:

كان هنا بيتي
وكانت هنا حياتي
ولقد انتهت الحياة
بعد أن دمّر هذا الاحتلال
كل ما كان لنا في هذا المكان
المكان
إنّه موحش
موحش للغاية
وكانت هنا الحياة
وكان هنا الأطفال يلعبون
وكان هنا الناس
وكانت هنا الحياة
ولكن انتهت الحياة
أين البيوت؟
أين الأطفال؟
أين الناس الذين يسكنون في هذا المكان؟
إنّه المكان الموحش
إنّه المكان المظلم
لا يبقى هنا غير الأطلال التي نبكي عليها
نبكي عليها.

يشهق حسام بقهرٍ ويقفل الفيديو، من دون أن يعلم أنّ فريق إغاثة وصحافيّين سوف يتجمّعون حول جثمانه بعد أشهر، وسوف تُلتَقط «لحظتهم الأخيرة» على الهواء مباشرةً، في زاويةٍ أولى، وهكذا دواليك.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً