تحليل مصر
حسام نزلاوي

لجنة تقييم الأعمال الدرامية في مصر

بنود جديدة في «مانيفستو» التدجين

23 نيسان 2025

في نهاية شهر رمضان الفائت، خرج الرئيس السيسي في إحدى حفلات إفطاره- الأُسَريّة- التي عوّد المصريين عليها في كل عام، ليتحدّث معهم من القلب إلى القلب، من دون أي رسميات أو حواجز. وفي هذا الإفطار، عبّر السيسي عن استيائه من الدراما التي قُدِّمت في شهر رمضان، والتي ترعى الغمّ والهزل بحسبه، وعن كيفية تحوّل الفنّ إلى تجارة وليس صناعة. وهذا الفنّ، حسب السيسي، لا يقدّم مضموناً، ولا يبني أمّةً، ولا يساهم في تكوين الشخصية المصرية. وفي ذلك المؤتمر، احتضن الرئيس وأثنى على برنامج «قطايف» الذي يقدّمه الممثل سامح حسين في شكل مواعظ دينية تناسب ثقافة البوب أكثر منها ثقافة الدين. 

برّر السيسي حديثه بعد تفاعل الشارع معه، بأنّه لم يكن محاولةً لفرض وصاية، وإنما لإحداث صدى لما يصله من صوت الجماهير في الشارع التي عبّرت عن استيائها ممّا يعرض من أعمال فنية تحفل بما يسيء للشهر الكريم، من مشاهد عنف وعري وغيرها. في أعقاب حديث الرئيس، أعلن المخرج محمد سامي اعتزاله الإخراج. وأعلنت مي عمر، زوجته وبطلة عمله الذي كان يُعرض في رمضان «إش إش» عن قصة حياة راقصة وعالم الراقصات وتجارة المخدرات، عن اعتزالها أيضًا. وفي الحلقة الأخيرة من مسلسل «لام شمسية»، وهو مسلسل تدور أحداثه حول الاعتداء على طفل، وهو كان الأنجح والأشهر في الموسم الرمضاني الحالي، خُتم المسلسل- بدون أي سياق- بالأغنية الوطنية «اسلمي يا مصر إنني الفدا». وأثارت كل هذه الأحداث مجتمعة معًا السخرية من مبالغات مقصّ الرقيب على صنّاع الدراما المصريين، ما استدعى تصريحاً لمخرج «لام شمسية»، كريم الشناوي، أعلن فيه أنه لم يتعرّض لأية ضغوط دفعته لوضع الأغنية في نهاية المسلسل، كما وجّه الشكر للقيادة السياسية لمدّها يد العون من أجل عرض المسلسل. 

يثير اعتزال محمد سامي، الذي لم يدّعِ أنّ له علاقة بتصريحات الرئيس وأنها مجرّد صدفة، وكذلك الأغنية الوطنية التي وضعها كريم الشناوي كخاتمة لمسلسله، تأمّلات حول علاقة السيسي بالفن في مصر. فبعد عشر سنوات من حكم مصر وتضييق هوامش الإبداع كافة، لا يبدو أن أحلام السيسي بتدجين الفنّ قد تحقّقت بالكامل.  


قِيَم الأُسرة المصرية

لا تمتلك مصر عصراً ذهبيّاً من الحريات وغياب الرقابة على الإبداع. لكنّها بالتأكيد تمتلك عصرًا يستحق أن تُطلَق عليه تسمية عصر قاتم، وهو الحالة التي تمرّ بها العملية الإبداعية بخلاف تمظهراتها في عهد السيسي. وتزداد حالة البطش عندما تستند إلى استعداد شعبي للاستماتة دفاعًا عن «منظومة قِيَم» مفترضة ومتخيّلة، وانطلاقًا من مصطلحات عدّة مثل «إثارة الغرائز/ منافاة الآداب العامة/ خدش الحياء/ إيحاءات جنسية». 

رغم محافظة المجتمع المصري، لم تعرف شاشات السينما والدراما حالة الرقابة على الجنس والجسد، مثلما هي الحال في عهد السيسي الذي جاء أساسًا بانقلاب على نظام إسلامي. بل إنّ عُرف الصناعة السينمائية في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات كان معهودًا بتضمين مشاهد إغراء ومشاهد جنسية في الأفلام للتعمية على المضامين السياسية وتمريرها من الرقابة، كما يذكر الناقد والمؤرخ السينمائي علي أبو شادي في كتابه «سينما وسياسة». في بداية ظهور نجمه، كانت واحدة من الأسس التي ارتكز إليها السيسي لتسويق صورته هي الاجتماع بشكل متكرّر مع الفنانين لطمأنتهم تجاه المستقبل الذي سيعقب المرحلة «الظلامية» التي مرت بها البلد في سنة حكم الإخوان المسلمين. لكن منذ السنة الأولى من حكمه عام 2014، قامت حكومته برئاسة إبراهيم محلب بمنع فيلم «حلاوة روح»، وهو فيلم مصنّف للكبار بسبب احتوائه على «مشاهد مثيرة للغرائز». كان التعامل مع فيلم «حلاوة روح» بمثابة مانيفستو الصناعة «النظيفة» في عهد السيسي. ورغم عدم صدور قرار بمنع القُبلات على الشاشة، إلّا أنّه لا يمكنك أن تظفر بقبلة في فيلم مصري اليوم، إلّا في بعض الأفلام المُستقلة التي لا يعيش صنّاعها في مصر.


الرقابة الأخلاقيّة على الفنّ

في الواقع، لا تنشأ تلك الحالة من مراعاة الآداب العامة في رأس الديكتاتور من فراغ، بل هي عملية إلهام متبادل بين المجتمع الميّال للمحافظة والانغلاق، والرئيس الذي يتّبع نهجًا «ملكيّاً أكثر من الملك» كلّما ذبلت شعبيّته. والملك في هذه الحالة هو التيارات الإسلامية السياسية. وهنا يتشابه نظام السيسي مع نظام السادات، الذي- في مستهل سنة حكمه قبل الأخيرة- روّج عن نفسه لقب «الرئيس المؤمن» وأكدّ على مخاطبته باسم «محمّد» في أول اسمه ليصبح محمد أنور السادات، لمغازلة الشعور الإسلامي في المجتمع. ولما استشعر غضب الرأي العام على مطربي الكاسيت والأغنية الشعبية، أصدر سلسلة من القرارات لمكافحة التلوّث «الضوضائي» في القاهرة، وحظرت تلك القرارات مكبرات الصوت وأصوات التلفزيونات الصاخبة وحفلات أشرطة الكاسيت التي تُلعب على الأرصفة. وبفضل تلك الإجراءات، لم تعد أشرطة الكاسيت التي نشرت أصوات معارضيه مثل «الشيخ كشك /الشيخ إمام»، إلى جانب صوت ظاهرة أحمد عدوية، مجرّد مصدر إزعاج، بل باتت غير قانونية أيضًا. وإلى جانب هذا القانون، أصدر السادات حزمة قرارات أخرى تهدف إلى «حماية القيَم من العيْب»، وهي مَلزَمة قانونية من اثنتين وعشرين صفحة، ما زال يستند نظام حكم السيسي إلى الكثير منها في مكافحته لخدش حياء قِيَم الأسرة المصريّة. وهي التهم التي غالباً ما تطارد فتيات «التيك توك» في مصر اللواتي يتمّ التنكيل بهنّ. 


ضبّاط وكباري ومبانٍ عملاقة

لعلّ أحد الملامح الهامّة لمانيفستو الصناعة السينمائية والتلفزيونية في عهد السيسي، هي صورة «الضابط». حتى وقت قريب، كان يُمكن للمشاهد أن يرى حضورًا لضابط شرطة في أحد الأعمال الفنية يتلقى رشوة أو يؤدي دورًا كوميديًا أو يسيء استخدام سلطاته. إلّا أن تلك الصورة بدأت تتغيّر منذ دخول «المتّحدة للخدمات الإعلامية» إلى سوق الإنتاج عام 2017. فمنذ ذاك العام، وضابط الشرطة هو المعادل الموضوعي لـ«جيمس بوند» في نسخة الممثل دانيال كريج، حيث الجدّية والانضباط والقتامة والشهامة والبطولة. ففي مسلسلات مثل «كلبش» و«الاختيار» و«العائدون» و«القاهرة- كابول» وغيرها من المسلسلات الخارجة من مكتب الشؤون المعنوية بوزارة الداخلية ووزارة الدفاع، أصبحت هذه الصورة مُلزِمة ولا يمكن لأي عمل آخر أن يحيد عنها في تمثيل ضابط الشرطة أو الجيش. 

لكن لأنّ أحلام السيسي بالتدجين لا حدود لها، لم يكن هذا كافيًا. في حفلة تخريج دفعة في أكاديمية الشرطة، أبدى السيسي امتعاضه، تحت بند النصح الأبوي أيضًا، من صورة ضابط الشرطة في السينما والدراما، كشخص مدخّن لا يمكن أن يفكر إلّا والسيجارة بيديه. وعلّق أيضًا بشأن زيادة الوزن. في حالة المرور سريعًا على الأعمال الرمضانية في العام الحالي التي ظهر فيها ممثلون لشخصية ضابط الشرطة، لا يمكننا أن نجد ضابطًا واحدًا مظهره ذو وزن زائد. وإذا أخذنا مسلسل «قهوة المحطة» الذي تعود بطولته لضابط شرطة، ويدور أغلب الوقت داخل قسم شرطة، لا توجد سيجارة واحدة. كذلك يحضر الضابط في مسلسلات «حكيم باشا» و«سيد الناس» و«إش إش» و«لام شمسية» و«ظلم المصطبة» و«أشغال شقة جدًا» بدون أي سيجارة أو كرش صغير. فمثل تلك الكلمات التي يطلقها السيسي بعفوية في مؤتمراته، تدخل حيّز التنفيذ فورًا في وعي عملية الكتابة إلى أن تتحول فعلًا لاوعياً بمرور السنين. ففي حالة القُبلات مثلًا، بدأ الأمر من المنع من جانب الدولة، لكنّه أصبح جزءاً من الرقابة الذاتية للفنان على نفسه، حتى أصبحت مواقف الفنانين المصريين أنفسهم من القبلات والأحضان مواقف شديدة الرجعية. ففي إحدى المرّات التي صرّح فيها المخرج هادي الباجوري أنه لا يمانع أن تقوم زوجته الفنانة ياسمين رئيس بالتقبيل في أحد أفلامها، جاءه الردّ والسخط العارم من داخل الوسط الفني نفسه من خلال كلمات الممثّل أحمد فلوكس، وهو ذاته مُؤدٍّ لأحد أدوار الضباط الكاريكاتيرية/الكلاسيكية في العهد الحالي، باتهام الباجوري بأنه منزوع الرجولة، متسائلًا امتى المهنة دي تنضف؟ 


تحيّة من مشاهد

بالإضافة إلى دور الضابط النمطي، لا تتوقف إنتاجات «المتحدة للخدمات الإعلامية» عن تجريع المواطنين جرعة الوطنية والإنجازات لكي يرضى السيسي. فثمّة مشاهد مُقحمة في هذا السياق من نوعية أغنية «اسلمي يا مصر» في نهاية مسلسل يناقش قضية البيدوفيليا، أو مشهد في مسلسل عن عصابات الصعيد، «حكيم باشا»، يتغنّى فيه البطل بدور القيادة السياسية التي قامت بالقضاء على العشوائيات في الصعيد وتغيير وجهه ومظهره، أو مشاهد علويّة لا لزوم لها لممثّلين يمرّون بسياراتهم في طريق الجلالة والعلمين الجديدة والعاصمة الإدارية والمونوريل، لا بل قد يبالغ المخرج بأن يجعل الممثل يقود سيّارته وهو يتغنى بجمال العاصمة الإدارية الجديدة والسرعة التي بُنيَت بها. 

لكنّ كل هذا ليس كافيًا لإرضاء الجنرال الذي صرّح في غير مرّة أنه تعيسٌ بسبب إعلامه وفنه، وحسد الرئيس جمال عبد الناصر على إعلامه وفنه. فأعلن مجلس النواب ورئيس الوزراء والشركة المتحدة للخدمات الإعلامية ومجموعة من الأحزاب، في وقت واحد، تشكيل لجان لمراجعة الأعمال الدرامية قبل عرضها على التلفاز، حفاظًا على المجتمع المصري ممّا يخدش حياءه، وتحفيزًا للصنّاع على مناقشة «قضايا جادّة» في أعمالهم. 

إن فشلت تلك اللجنة في إخراج أعمال درامية تناسب مزاج الرئيس وقناعاته التي يتشارك الكثير منها مع قطاع ليس بصغير من الشعب المصري، قد يضطرّ الرئيس أن يشرف بنفسه على التلفاز ومضامينه من مكتبه مثل العقيد الليبي معمر القذافي الذي كان حين يستاء ممّا يُعرض، يقطع البثّ من مكتبه، ويعرض صورةً مثبتة لنعل حذاء كُتب تحته «تحيّة من مشاهد».

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
فكشن

بطل السلم وبطل الحرب

عمر ليزا وكارن كيروز
حرائقٌ بريف اللاذقية لليوم الخامس على التوالي
انطلاق الانتخابات البلديّة في الشمال وعكّار
25 سنة إرتجال
11-05-2025
حديث
25 سنة إرتجال
المهرجان الدولي للموسيقى التجريبية في لبنان
إسرائيل تُعلن استعادة رفات جندي من سوريا
5 قيل هذا الأسبوع: 4 أيار - 10 أيار 2025