لا يكاد يمرّ يوم من دون أن يطالعنا في الإعلام أو على وسائل التواصل الاجتماعي، عربياً وغربياً، كتّاب أو صحافيون أو سياسيون أو ناشطون، من كل التيارات والمشارب الفكرية، يصوّبون على التيارات النقدية المعاصرة: من النسوية إلى الكويرية، من دراسات ما بعد الاستعمار إلى دراسات التابع، من تفكيكية جاك دريدا إلى التقاطعية ومفهوم الجندر. هنا كاتب لا يملّ من استهداف إدوارد سعيد في كل هجوم على النزعة الهوياتية، وهنا باحث يعيدنا إلى قضية «سوكال» الشهيرة بوصفها لحظة كشف كبرى لـ«تفاهة» ما بعد الحداثة، وهناك صحافي يخلط بين التقاطعية والتحالفات الظرفية. أما المصطلح-النجم الذي لا ينفك يعود في كل مرة، فهو الـ«ووك» الذي بات استحضاره، من أقصى اليمين إلى قلب اليسار، كافياً لنزع الشرعية عن عقود من التفكير، واختزال تيارات نقدية وتحرّرية متعدّدة إلى انحرافاتها الأكثر ضجيجاً. فيصير الووك أشبه بوباء أخلاقي وفكري علينا أن نطهّر منه الصحافة والمدارس والجامعات والفضاء العام.
نقد نابع من الفكر المنقود
ثمّة مفارقة لافتة في هذه الظاهرة: كثير ممّن يستهدفون ما يسمونه خطاب الووك أو ينتقدونه من موقع الدفاع عن الحرية والحداثة والأنوار والعقلانية، يفعلون ذلك باستخدام أدوات تفكير ولغة نقدية وقيَم ما كانت لتكون ممكنة لولا هذا الفكر نفسه. يتحدّثون عن الامتياز الاجتماعي والتمييز البنيوي من دون أن يدركوا أنّ هذه المفاهيم ابنة التحليل النسوي والتقاطع العرقي. ويدافعون عن الحق في الاختلاف، وفي الرواية الذاتية، من دون أن يعترفوا أو ينتبهوا بأن هذه الحقوق لم تصر جزءاً من الحس العام إلا بعد صراع طويل ضد الأنظمة الخطابية التي ينتمون لها. يكفي أن نتأمّل قليلاً في اللغة التي نستخدمها اليوم، وفي المفاهيم التي أصبحت مألوفة إلى حدّ البديهة، لندرك عمق التحوّلات التي أحدثتها هذه الخطابات المنتقَدة. لقد فتحت هذه التيارات النقدية كوىً في جدران الخطاب السائد، كوىً لفهم الهيمنة، وتحليل البنى اللامرئية للسلطة، وتفكيك العلاقات المجحفة وغير المتكافئة بين الأجناس والهويات، وإعادة النظر بالتاريخ الرسمي. ومن دون هذه المنافذ، لما أمكن للكثير من النقد المعاصر، حتى ذلك الموجّه إليها، من أن يجد لغته وأدواته ومشروعيته.
النتيجة أن هذا النوع من النقد العشوائي تحوّل إلى نمط خطابيّ غير مُفكّر فيه، يغفل، عن جهل أحياناً وعن سوء نية في أحيان أخرى، تعقيدات مشاريع فكرية متعدّدة لمقاومة الهيمنة ليضعها تحت مسمّى تبسيطي واختزالي واحد، متجاهلاً أنها في أساس الكثير من إمكانات التحرّر التي ندّعي الدفاع عنها اليوم.
تحويل «الووك» إلى فزّاعة
ليس الووك تياراً فكرياً له منظّروه ومريدوه. إنه في أحسن الأحوال تسمية ذات محمول سلبي تشير إلى المبالغات أو الانحرافات الدوغمائية لفكر ما بعد الحداثة. لكنه خصوصاً فزّاعة يتلطّى اليوم خلفها كل من يرفض إعادة النظر في النظم الخطابية والرمزية والسياسية المنتِجة للهيمنة لأن في ذلك تهديداً لتصوّره الثابت للعالم.
في الأصل ظهرت الكلمة في اللغة العامية للسود الأميركيين منذ أوائل القرن العشرين بمعنى اليقظة تجاه الظلم. وقد شاعت بفضل مغني البلوز ليد بيلي Lead Belly عام 1938 في أغنية يدعو فيها السود إلى أن يبقوا متيقّظين (stay woke) ضد عنف الشرطة والعنصرية. ومع حركة Black Lives Matter، ازداد استخدام المصطلح، وأصبح مرادفاً للوعي تجاه مختلف أشكال التمييز البنيوي: العرقي والجندري والطبقي. لكن في السنوات الأخيرة، بدأ المصطلح يتحوّل إلى تهمة وصار يُستخدم لانتقاد الحساسية «المفرطة» تجاه التمييز ويُربط بالرقابة و«ثقافة الإلغاء»، وبدأ اليمين والوسط يشيطنونه باعتباره أيديولوجيا هوياتية متطرّفة تهدّد العقلانية وحرية التعبير. وبهذا، تمّ تحويل كلمة تعني الوعي اليقظ بالظلم البنيوي في المجتمع ورفض الهيمنة، سواء كانت استعمارية أو ذكورية أو طبقية أو عرقية، إلى ما يشبه الشتيمة التي تُستخدم ضد كل فكر نقدي هدفه تفكيك الامتيازات التي يتمتع بها البعض على حساب الآخرين والدفاع عن أصوات المهمّشين.
التراث الفكري لخطاب «الووك»
في الواقع، إنّ ما يُطلق عليه اليوم اسم خطاب الووك هو الابن المتفرّع، وإن بدا ضالّاً للبعض، لمجموعة من التوجّهات الفكرية والنقدية التي نشأت في فرنسا منذ أواخر الستينيات، بعد ازدهار البنيوية، مع مفكّرين مثل جاك دريدا وميشال فوكو وجان بودريار وجيل دولوز ولوس إيريغاري وسواهم. هذه التوجهات التي لم تكن تياراً موحّداً بقدر ما كانت جملة من التحولات الراديكالية في طرق التفكير، وصلت إلى الجامعات الأميركية حيث أعيد توظيف مفاهيمها الأساسية مثل السلطة والخطاب والتفكيك، وتطويرها ضمن ما صار يُعرف بالـFrench Theory. وهناك، شكّلت هذه الأفكار خلفية نظرية خصبة لنشوء دراسات نقدية جديدة مثل:
- دراسات ما بعد الاستعمار، التي ارتبطت بأسماء مثل إدوارد سعيد وغاياتري سبيفاك وهومي بابا، وسعت إلى تفكيك الإرث الثقافي والمعرفي للاستعمار، وإلى نزع المركزية عن الخطاب الغربي الحديث، وتمكين «الآخَر» من أن يروي ذاته ويكشف التحيّزات البنيوية في سرديات السلطة والمعرفة.
- دراسات التابع، التي انطلقت في السياق الهندي مع راناجيت غوها وتوسّعت مع سبيفاك وآخرين، وركّزت على الفاعلية التاريخية للمهمّشين الذين طالما تمّ إسكاتهم أو طمس حضورهم في السرديات الكبرى.
- الدراسات النسوية، التي بدأت بتحليل البنى الأبوية والعنف الرمزي والتمثيل الجندري، ثم توسّعت في الثمانينيات والتسعينيات إلى ما سُمّي بـالنسوية التقاطعية التي تسائل تداخلات الجندر مع العرق والطبقة والجنسية.
- الدراسات الكويرية، التي تبلورت في التسعينيات مع مفكرين مثل جوديت بتلر وإيف كوسوفسكي سيدجويك، وسعت إلى تفكيك التصنيفات الجنسية والجندرية التقليدية، ورفض استخدام مفاهيم «الطبيعي» و«اللاطبيعي» بوصفها أسساً أخلاقية أو قانونية.
كل هذا التراكم النظري والمعرفي وجد ترجمته العملية، خصوصاً في المجالين الأكاديمي والنضالي، في إعادة توجيه البوصلة الفكرية نحو تفكيك ما يبدو بديهياً مثل الانتباه إلى القوة الرمزية للخطاب، ونقد التمثيل الأحادي والنخبوي للفئات المهمّشة، والإصرار على إعطاء الصوت للمقصيّين، ومساءلة ادّعاءات الحياد والعقلانية، والتفكير في علاقة السلطة بالمعرفة، وتفكيك التمييز البنيوي ضد النساء وغير المعياريّين جنسياً، والتشديد على تجارب الجسد واللّغة والهشاشة، ورفض الثنائيات المغلقة (ذكر/ أنثى، طبيعي/ ثقافي...) والدفاع عن الاختلاف كقيمة مبدئية.
تبسيط الفكر كمقدّمة لشيطنته
فكيف انتقلنا من تفكيكية دريدا إلى فزّاعة الووك التي صارت تستحضر كما لو كانت مرض العصر الذي ينبغي شفاء العالم منه؟
يحلو لي أحياناً أن أشبّه الأفكار بعالم الموضة: ثمة فرق بين ما نراه على منصات العرض، وما تسوّقه الـ«فاست فاشن». تبقى الخطوط العريضة، لكن تُبسّط الميول الأساسية كي تصير قابلة للاستهلاك على مستوى شعبي أوسع. هكذا هي الأفكار، عندما تربح على مستوى الانتشار، تخسر حكماً من قدرتها على الإرباك والابتكار. وقد يحصل حتى أن تُحرَّف أو تُفرَّغ من شحنتها النقدية. وهذا لعمري من طبيعة الأشياء. لكن بدل أن تواجَه هذه الانحرافات بالنقد والتفكيك، يُستغَلّ هذا التبسيط لتجريم الأساس والترويج لخطاب رجعي يقفز فوق المكتسبات العملية والحقوقية التي حقّقتها هذه الأفكار في شيوعها.
صحيحٌ أنّ تفكيك الهويات الثابتة ربّما تحوّل في بعض المواضع إلى ترسيخها، ورفض الجوهرانية إلى جوهرانية بديلة، وانتقلنا من التفكيك بالمعنى الذي يقصده دريدا إلى الشعارات، واختُزلت الفلسفة إلى أدوات نضالية لا تهدم سلطةً إلا لتعيد إنتاج أخرى وترسيخها. لكنّ الخطاب المعادي لما يُسمّى «الووك» نادراً ما يذهب إلى نقد حقيقي للمضامين أو الانحرافات. في الغالب، يُركّز على المظاهر الأكثر هشاشة ليشنّ هجوماً يطاول الجذور، أي مساءلة السلطة، وتفكيك المركز، وفتح المعنى على احتمالاته وإمكاناته. في الواقع، إنّ ما يُقدَّم كدعوة إلى «الاعتدال» و«العقل»، يخفي غالباً حنيناً إلى نظام رمزي مألوف ومطمئن وتثبيت الامتيازات الموروثة. وحين يُشكَّك بالنضالات النسوية أو يجري تتفيه خطاب العدالة الاجتماعية، يتقاطع هذا بسهولة مع سرديات اليمين المتطرّف في تبريرها للّامساواة، ودفاعها عن النظام الأبوي، ورفضها التعدّد.
فما العمل إذن حتى لا نجد أنفسنا، من حيث لا ندري، في معسكر ترامب واليمين المتطرّف؟ كيف نقاوم النزوع الجوهراني الذي يصيب أحياناً بعض هذه الأفكار، من دون أن ننبذها كاملة؟ كيف نمارس التفكيك من دون أن نصير أعداء للتفكير؟
ربّما كان الحلّ في أن نستعيد القدرة على التفكير النقدي خارج ثنائية التقديس والشيطنة، وأن نكفّ عن استهلاك الأفكار كمنتَجات جاهزة. أن نعود إلى دريدا ودولوز وإيريغاري وسعيد وسبيفاك وغيرهم، لا بوصفهم رموزاً لمذهب، بل كمفكّرين طرحوا أدوات، وفتحوا إمكانات فكرية داخل النُّظُم المغلقة تسمح بمقاومتها وبتكوين أشكال جديدة من الحياة خارج الهيمنة وأنماط الوجود الثابتة. الحل في أن نعيد قراءتهم فرادى، لا بوصفهم مذهباً جماعياً، بل حتى قبل أن يصيروا تلك الـ«فرانش ثيوري» ذات الاسم المثير. أن نعيد إليهم هشاشتهم الأولى، أسئلتهم، تردّداتهم، لا أن نحوّلهم إلى سلطة مضادّة.
فلنكفّ إذن عن محاولة بناء هيمنة جديدة تضاف إلى الهيمنات القديمة، ولنعد إلى ما كانت تنادي به هذه التيارات في أصلها، أي تفكيك السلطة، حتى سلطتها هي، لا إعادة إنتاجها بوجه جديد.