جدول النشر الأسبوعي
أغار بعض الشيء من أولئك الكتّاب أو الصحافيين الذين ما زالوا يستطيعون كتابة مقالهم بعنفوان أو استنكار أو غضب. أغار لأنني فقدتُ القدرة على صياغة عنوان مقال على شكل فعل أمر أو الدخول في سجال أو الهجوم على خصم بغية تدميره. أنظر إلى شاشاتي قبل البدء بالكتابة، بنفس خالية من أي إحساس أو يقين بدور الكتابة، ولا أجد إلّا الحفاظ على جدول النشر الأسبوعي دافعاً للكتابة.
أغار بعض الشيء لأنني ما زلت أتذكر تلك الحماسة للكتابة، المفقودة اليوم، حماسة واكبت مراحل كانت فيها الكتابة لي أقرب إلى استكمال بالكلمات للحرب الدائرة خارجها: ثورة تشرين، حراك النفايات، الثورة السورية… لحظات اعتقدت فيها أن لفعل الكتابة هدفاً أنبل من مجرّد الحفاظ على انتظام جدول النشر الأسبوعي.
أشتاق لهذا الإحساس، لكن رغم كل محاولاتي، لم أعد أستطيع العودة إليه. ولم أعد أفهم حماستي السابقة، هل كانت وهمًا أم أنّ لحظات الماضي كانت تتطلب فعليًا استثماراً عاطفيّاً لم يعد الحاضر بحاجة إليه؟ هل من لا يزال متحمّساً لهذا الدور المحارب للكتابة هو على حق، في حين أنّي، لدواعي العمر ربّما، فقدتُ القدرة على الاستمرار؟ لا أستطيع لوم تلك الحماسة، لكنّني لا أشاركها، فأتمسّك بجدول النشر الأسبوعي، كالدافع الأخير، المادي، الصلب، الثابت الذي لا يحتاج إلى أيّ استثمار عاطفيّ من قِبلي.
الصخرة
تأكّدتُ من هذا التحوّل الأسبوع الفائت، عند وقوع حادثة «صخرة الروشة». في الماضي، كنت لأعتبر حادثةً كهذه هديةً من السماء، مع كل ما تقدّمه من إمكانياتٍ للكتابة والتحليل والهجوم على حزب الله. أمّا الآن، فلم أجد، رغم محاولاتي، أيّ رغبة بالكتابة. بدأتُ أشاهد فيديو وفيق صفا وهو يحاول التذاكي، ريثما أشعر بالغضب الذي كان يحرّكني للكتابة. لكنّ الإحساس كان أقرب إلى شعور العلقة بالسرفيس إلى جانب راكب مزعج، لا يكفّ عن الكلام. لا تريد مناقشته لكي لا يطول الحديث، لكنّك تتمنى لو كان من الممكن أن يسكت أو أن يرنّ هاتفه وينساك للحظة.
امتدّ هذا الشعور لمسألة حزب الله بأكملها، مسألة حرّكت لسنوات رغبةً في النقد والهجوم والتفكيك، خاصةً في لحظة صعود الحزب وخضوع معظم الطبقة السياسية والإعلامية له. اليوم، بعد هزيمته، بقي الموقف السياسي من الحزب ذاته، لكن من دون حماسة أو اندفاع. نعم، من المستحسن أن يسلّموا سلاحهم من خلال حوار داخلي، يجنّب البلاد اقتتالاً داخليّاً، ومن المفضّل لخصومهم لو حاولوا استيعاب هذا الفصيل المهزوم خارج الضجيج الإعلامي العنيف، ومن المستحبّ لو أنّ الحزب لم يجنّد «البيئة»، مرّة أخرى، لدفع البلاد نحو حافة الاقتتال الداخلي. لكن ليس لديّ استثمار في أيٍّ من تلك الأفكار. إذا كان الجدول لا يتطلب الكتابة، فلا حاجة لها. يمكن الانتظار، كما في السرفيس، إلى أن يسكت هذا الراكب السمج لنستكمل الرحلة بهدوء.
خطابٌ خارجٌ عن السياق
كانت الصخرة لحظة الاعتراف بوجود مشكلة، لكنّ هذا الفقدان للحماسة كان يتنامى منذ سنوات. ربّما أضعفت الأزمات والانهيارات والحروب المتكرّرة مِن يقيني، فبتُّ أنظر إلى من لا يزال متحمّسًا، ولا أفهم كمَّ الترّهات التي عليه أن يقتنع بها لكي يستكمل عنفوانه. لا أفهم كيف يمكن لمدافع عن حزب الله أن يُكمِل بعنتريّاته بعد أن تلقّى حزبُه هزيمةً لا مثيل لها في التاريخ. كذلك ما عدتُ أفهم خصومه الذين ما زالوا لا يرون في الأفق السياسي إلّا مسألة سلاح حزب الله، والدرونز فوق رؤوسهم والانهيار من حولهم.
الأزمات والانهيارات والحروب لم تهزّ موقفي السياسي، فهي ليست مدخلًا لنقد ذاتي، لا أحد يكترث له. لكنّها شكّلت دلالات مختلفة لإحساس أعمق بأنّ خطاباتنا وسجالاتنا ومفاهيمنا باتت خارج السياق، تنتمي إلى زمن ولّى، ربّما لم يكن موجودًا إلّا في خيالنا. مفاهيم كسيادة وشعب ومقاومة ودولة وحرية وكرامة تبدو هلوسات نابعة من خيال الكاتب أكثر ممّا هي توصيف للواقع. وعندما يخفت ضجيج الكلام بعض الشيء، فإنّ كلّ ما أراه هو مادّيات تقتحم عالمنا، غير مكترثة للكلمات والضجيج. ربّما يدرك الكتّاب ذلك، فيسارعون إلى إعلاء كلماتهم للتستّر على فضيحة المادّة هذه.
المادّة تتكلّم
المادّة ليست صامتة، وإن كانت لا تتكلم أو تكتب المقالات.
لقد تكلمتْ في أزمة النفايات، عندما اقتحمت المادة المدينة، وفرضت إيقاعها الحديدي على سكانها، لتذكّر الجميع بأنّهم، قبل الخطاب، ليسوا إلا مصانع صغيرة للنفايات. هي تكلمت مع الأزمة المالية، عندما ذكّرَنا انهيار العملة بأنّنا مجرّد كائنات تُدار لتحصيل بعض المواد الضرورية للاستمرار. هي صرخت في انفجار 4 آب، عندما تحوّلت الأجساد إلى موادّ تُدمَج بالزجاج والباطون في مقتلة جماعية. هي عادت بالحرب الأخيرة، عندما بات واضحًا أنّنا مجرّد نقاط عابرة على شاشات بعيدة، تخاض حرب ليس معنا، بل من فوقنا ومن خلالنا. وهي تكلمت مع آخر إحصاءات عن مرض السرطان، حيث بين كلّ 200 مقيم في لبنان، هناك واحد سيصاب بالسرطان. نحتاج إلى الكلام لكي نفهم المادّة، فنحوّلها إلى إحصاء. من بين كل 200 مقيم في لبنان، هناك واحد على الأقل مصاب بالسرطان. أو من بين الـ500 الذين نزلوا إلى صخرة الروشة، هناك 2.5 لن يكونوا هنا ليحتفلوا بالذكرى الثالثة أو الرابعة لاغتيال نصرالله. من بين قرّاء هذا المقال، ولنفترض أنّهم 400، هناك اثنان لن يقرأوا مقالتي بعد سنة. من بين كلّ 200 منتفض للسيادة، هناك واحد لن يرى بلاده سيّدةً ومستقلة.
نحوّل المادة إلى كلام لكي نفهمها، أمّا هي، فلا تكترث لإحصاءاتنا، بل تستكمل طريقها غير آبِهةٍ بنا.
الإبادة المادّية
الاستماع إلى المادّة ليس مزاجاً شخصيّاً. فالمادّة عادت لتفرض نفسها على عالم اعتقد أنّه استطاع النجاة منها. وما هي الإبادة إن لم تكن عودة المادّة، أو إرجاعَ البشر إلى تركيباتهم الأوليّة المادية. فالإبادة هي قرار محو شعب بأكمله، وكأنّه مجرّد مادّة يمكن التخلّص منها ونفيها، تتطلب تحويل البشر قبل محوهم إلى مجرّد أجساد تُقتَل بتقنية عالية أو تُدار لكي لا تتكاثر أو تُنفى إلى مكبّات بعيدة. نسمّيها عملية «نزع الإنسانية»، غير مكترثين لكون الإبادة هي من صناعة «الإنسانية» ذاتها، والتي لم تخفي حاجتها الدائمة إلى التفرقة بين الإنسان والمادة، بين الخطاب والمادة، بين مَن يُبيد ومَن يُباد.
كيف نستمع إلى المادّة؟
نخاف عادةً من المادّة، فنفضّل أن نكتب «أخلاقيات» أو ندخل في سجالات، ندرك في داخلنا أنّها باتت خارج السياق. نفضّل أن نصبح أقرب إلى كتّاب أموات- أحياء من أن نعترف بأنّ المادة من حولنا، تغيّر عالمنا، تجعل من كلماتنا مجرّد أوهام للحفاظ على نرجسية، قضت عليها المادّة في السنوات الأخيرة. ربّما ليس الصمت هو المطلوب، بل الاستماع، ليس لما يقال ويكتَب، بل لهمس المادة، لوشْوَشَتها الناتجة من خليط درونز يعلو في السماء وبطون تهضم أكلًا ونفايات تتحوّل إلى غازات وحيوان يصيح في مدينة من الباطون ورنين آلة أشعّة تكتشف سرطانًا وأصوات أقدام هاربة من مجزرة وصراخ من يريد أن يهيمن على الجميع. ليس من الضروري الصمت للاستماع إلى المادّة، بل مجرّد الاعتراف بأنّ من يكتب هو جسد وليس عقلاً لكي لا تتحوّل الكتابة إلى مجرّد فعل هروب من هذه الحقيقة.