كربلاء
في ردّه على قرار الحكومة اللبنانية حصر السلاح، وصف الأمين العام الجديد لحزب الله، نعيم قاسم، معركة الدفاع عن هذا السلاح بأنّها ستكون «كربلائية». ربّما لم يعنِ في هذا التشبيه أكثر من محاولة شدّ عصب جماعته التي ما زالت تعاني من صدمة الهزيمة، أو تهديد لساحة داخلية تستعجل دفن حزبه وتُعامله كتجمع لموتى- أحياء يرفضون الاعتراف بموتهم. سارع المعلّقون، المستعجلون أيضًا، للتذكير بأنّ الحدث التاريخي الذي عاد إليه قاسم كان هزيمة عسكرية، للإشارة إلى انتهاء تجربة حزبه السياسية والعسكرية، والتي لم يعد لها إلّا استذكار الهزائم.
لكنّ قاسم يدرك تماماً معاني كربلاء والهزيمة العسكرية التي تمثّلها. فكربلاء تعني أكثر من ذلك، أو تعني عكس ذلك. فهي إشارة إلى إعادة فتح آفاق الممكن بعد الهزيمة، وإلى الإيمان بأنّه بعد انتهاء كل شيء، تبقى هناك إمكانية لعالم جديد يجعل من الموت منطلقًا للحياة. فرغم الضجيج والصراخ، يدرك حزب الله أنّ السلاح ولّى، ربّما قبل آخر السنة أو بعده. لكن لا عودة إلى ما كان قبل «حرب الإسناد»، ومعه، لا عودة إلى «عالم السلاح»، مع مؤسساته وخطاباته وجماعته وخياله. الهزيمة ليست عسكرية، هي أقرب إلى «خراب ثقافي»، كما لخّصه جوناثان لير بعبارته الغامضة «بعد ذلك، لن يحدث شيء…». لن يحدث شيء لأنّ هناك نمط حياة انتهى، نمط حياة كان مصدر المعنى. العودة إلى كربلاء هي إشارة إلى هذا العالم المُنتهي، وإلى تحدّيات العبور إلى عالم جديد، أو إلى فكر سياسي بات أبوكاليبتياً، أي سياسة مدركة بأنّ نهاية عالمها وشيكة.
سبارتا
بعد بضعة أسابيع على تصريح قاسم، وقبل إطلاق عملية إعادة احتلال مدينة غزّة بساعات، بشّر رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، شعبه بأنّ إسرائيل ستصبح «سوبر سبارتا». عودة صاحب الإبادة إلى تجربة الدولة- المدينة الشهيرة قد لا تعني أكثر من إعادة تأكيد انتماء إسرائيل إلى تراث غربي متخيّل أو الدلالة إلى مزايا عسكرة المجتمع والاكتفاء الذاتي، كتحضير لمجتمعه لمواجهة المرحلة القادمة وعزلتها المتصاعدة.
سارع أيضًا معلّقون إسرائيليون للإشارة إلى أن نهاية سبارتا كانت هزيمة، ليشكّكوا بنوايا رئيس حكومتهم أو يحذّروا من حدود مشاريعه الحربية. لكنّ نتنياهو الذي صمد حتى الآن رغم تحوّله إلى ما يشبه تجسيداً للشرّ، يدرك ذلك، أو على الأقلّ، يبدو غير مكترث بحسابات الربح والخسارة المعتادين، أي التي تنتمي إلى عالم ما قبل الإبادة. نتنياهو، ومن ورائه التحالف المتطرّف دينيًّا، غادر مع الإبادة عالم السياسة التقليدي ليدخل عالمًا أبوكاليبتيًا. الفارق مع المحاولة السابقة، هو أنّهم يريدون هذا العالم الجديد، يسرّعون مجيئه من خلال تكثيف العنف، يريدون قطع أي إمكانية للعودة إلى ما قبل الإبادة.
نتنياهو يدرك تمامًا أن لا مكان لإسرائيل في العالم القديم، حتى مع نفاقه وفشله في ردعها. هو يدرك أن العزلة ستزداد وأنّ هناك ثمناً سيُدفع لتوحّش جيشه. كما يدرك أنّ مجتمعه، أي مجتمع الإبادة، لن يستطيع العودة إلى عالم ما قبل الإبادة. بات يعرف أن العالم القديم اعترف بفلسطين، وبدأ يقاطع إسرائيل، ولا مفرّ من العزلة. فقرّر الرحيل من هذا العالم. الأبوكاليبس خياره الوحيد.
Apocalypse Now
قبل سنوات، كان يمكن اعتبار هذا الفكر الأبوكاليبتي نابعاً من هذيان بعض المؤدلَجين أو تطرّف بعض المجموعات الهامشية، تطرّف كنّا معذورين إن تجاهلناه لكونه هامشياً. فكانت هناك آمال بـ«الوسط السياسي» وبصلابة العالم الذي بني من حوله، مهما كان مليئًا بالتناقضات والخلافات. كانت السياسة تفترض بقاء العالم كما نعرفه، تدور ضمن حدوده، وتقبع تحت ثقل مؤسساته. قلّة كانت تحضّر لمجيء عالم آخر.
لقد تغيّر ذلك. وبات أصحاب الفكر الأبوكاليبتي في وسط روح العصر، يمثلون متن هذا العصر، بعد عقود أمضوها في الهوامش.
الدعوات إلى إحراق العالم باتت تتمدّد.
أليس انتخاب ترامب دلالة على هذا الشعور الأبوكاليبتي وإشارة إلى أن خطر إحراق العالم لم يعد يردع، ليصبح انتخاب «مهرّج النظام» خيارًا مقبولًا لمجموعات متزايدة لم تعد ترى في العالم الموجود صلابة مطمئنة؟ أليس هذا الشعور ما يحرّك أكثرية الممتعضين من تحوّلات العقود الأخيرة، من رجال إلى بيض وصولًا إلى أصحاب المليارات الذين باتوا يرون في الحدّ من بعض امتيازاتهم نهايةً لعالمهم، ما أفقدهم أي مناعة أمام دعوات حرقه؟ أليس هذا الشعور الأبوكاليبتي ما يحرّك تنظيرات بعض اليمين المتطرف، في بحثهم عن عالم جديد، إمّا في المريخ أو في عالم من المدن المسوّرة بالتقنية والعنف؟
«فليحترق العالم» قد يكون شعار المرحلة. وفي وسطه تقع إبادة نتنياهو.
لكنّه يحترق
لكنّ العالم يحترق.
فهذا الشعور الأبوكاليبتي ليس نابعًا فقط من عمق تطرف البعض أو رغبة بعض آخر بالمحافظة على امتيازاته. بات معممًا، ليصبح الوعي بنهاية العالم، أو عالم ما، أكثر انتشارًا، وربّما واقعية، من الإحساس بصلابته واستمراريته. فالعالم، كما عرفناه، مهدّدٌ بالتحوّل من كافة أنحائه.
فالأزمة البيئية، وبالأخص التغيّر المناخي، وصلت إلى عتبة لا رجعة عنها، حسب بعض الدراسات، مع ارتفاع بنسبة معدلات انقراض الأنواع تفوق النسب الطبيعية، ما يغذي نوعًا من «اليأس المناخي» المعمّم، والذي أوصل البعض إلى الاعتبار أن الحياة كما نعرفها باتت تعيش عقودها الأخيرة. جاءت ثورة الذكاء الاصطناعي لتعمّق القلق من مستقبل، قد لا نعرف معالمه، لكنّنا بتنا متأكّدين أنّه لن يكون تكرارًا للماضي. لن يكون ذلك نهايةً للعالم، بل نهاية عالم ما، مع وظائفه وعلمه وفنّه ولغته وحتى حواسّه. ومن الصعب التفاؤل بقدرة العالم على ضبط هذه التحوّلات، وقد بات يواجه أعلى نسبة نزاعات منذ عقود، وصولًا إلى عودة الإبادة إليه، مع ارتفاع سنويّ لعدد النازحين، وهم أناس شهدوا على نهاية عالم، ويدركون سهولة هذه النهاية، إن لم تكن حتميّتها.
ربّما كانت الدلالة الأوضح لتعميم هذا الوعي هي انتشار استعمال وصف «الأزمة» للتعبير عن التطورات الراهنة، ما أدّى إلى تطور حقول دراسات «الأزمات». يوميًا، نقرأ عن أزمات تجتاج الاقتصاد والسياسة والبيئة والمجتمع. والأزمة، بمفهومها الأصلي، تعني لحظة تعثّر وتخبّط، تتطلب اتّخاذ إجراء. لكن مع تراكم الأزمات وتعقيداتها، كما نرى من حولنا، بدأت عملية اتّخاذ الإجراءات تصبح أصعب تدريجيًا، حتى وصلنا إلى لحظة بات الإجراء الأسهل فيها هو ترك هذا العالم يحترق، ريثما يخلق عالم جديد.
رائحة حريق العالم
لا نعي نهاية العالم بالأرقام والخطابات فقط. بتنا ندركها بحواسّنا ونظامنا العصبي، خاصةً عند الشعوب التي تعايش الأزمات من دون حتى «واجهة الاستقرار» تؤمن مرتكزًا لطبيعية ما.
فإذا أخذنا مجتمعنا كمثل، وهو الذي مرّ، على الأقلّ منذ عام 2019، بعددٍ من «الأزمات» وجاور أخرى حتى زال الفارق بين القاعدة والاستثناء، نجد، ليس بالضرورة فكرًا أبوكاليبتيًا، بل حواسَّ أبوكاليبتية، أي حواسّ مدركة أنّ العالم من حولها فقدَ صلابته، وبات زواله ممكنًا، إن لم يكن متوقّعًا.
نستشعر هذه الحواس، مثلًا، في سؤال «في حرب؟» الذي بات يُطرح بطبيعيّةِ سؤال «كيفك؟». «في حرب؟» سؤال بات في تركيبة اللغة واستعمالاتها الاجتماعية، سؤال يطبّع استثناء الحرب ليصبح بمثابة حدث عادي. يشير ببساطته إلى إمكانية تحوّل الحاضر فجأة، وإلى ذوبان صلابته الراهنة. لكنّ سؤال «في حرب؟» لا يعبّر فقط عن علاقتنا المتوتّرة مع المستقبل واستحالة تخيّل أنفسنا فيه، بل يلتقط أيضاً المشاعر المتناقضة حيال هذا الاحتمال، من ترقُّب وخوف وإثارة ورغبة دفينة في عنف ينهي حالة الانتظار هذه. في تكرار هذا السؤال يوميًا نوع من الإدمان على حالات الاستثناء، هذه اللحظات التي تعلّق نمط الحياة الطبيعية، المضجرة بتكرارها المملّ، حالات من الاستثناء تعد بإثارة ما، ربّما تغيير ما، أو على الأقلّ، بالحق للخروج، وإن لفترة قصيرة، من ضجر الحياة اليومية.
ما من رغبة بحرب أو أزمة مالية أو ثورة أو وباء جديد. لكن بعد سنوات من تكرار الأزمات، لم يعد هناك «طبيعي» يمكن العودة إليه أو الدفاع عنه أو التمسّك به. وعندما يزول هذا الطبيعي، نكون قد دخلنا في مقاربة أبوكاليبتية للحياة، حيث تصبح المشاريع السياسية موجّهة لعالم جديد مرجوّ، والحياة تسلسلاً لإفراط لم يعد أحد يكترث بثمنه.
ليس من الضروري أن يأخذ الفكر الأبوكاليبتي شكل مجموعات متطرّفة من المجانين تصلّي لنهاية العالم. بات اليوم يلتقط عدداً من السياسات والممارسات والحواس التي أصبحت تدرك، أو تفترض، أن عالمنا الحالي إلى زوال.
«العالم» ليس معطى طبيعياً، هو المشترك بيننا، مشترك انبنى على عقود. ومع زوال هذا المشترك، لم يعد هناك إلّا مشاريع خلاص فردية، من محاولة خلاص مجتمع على حساب دم كلّ من حوله، أو مشاريع خلاص أثرياء يريدون الرحيل إلى المريخ، أو مشاريع خلاص فردية باتت تفرّ من المدينة نحو مجتمعات أصغر بعيدة عن المدن.
البديل هو محاولة ابتكار «مشترك» آخر. لكن في هذه اللحظات، بات الواقعي يبدو مستحيلًا، والمستحيل الخيارَ الأكثر ترجيحًا.