نقد بيئة
سامر فرنجية

عن الحيوانات التي بيننا

وثمن عدم رؤيتها

21 تشرين الأول 2025

أيّ كائن هو الأدنى؟

إجلاء كلب

خلال الإبادة (المستمرّة)، برزت قصة شاب فلسطيني وجد كلبًا ضائعًا خلال إحدى موجات الهجرة، فتبنّى واحدُهما الآخر وراحا ينزحان سويًّا. بدأ الشاب بنشر قصته مع صديقه الجديد على وسائل التواصل الاجتماعي، فحازت، بطبيعة الحال، على اهتمام بعض الجمعيات الغربية التي حاولت إخلاء الكلب من الجحيم الغزّاوي، من دون صديقه الإنسان. استنكر كثيرون منح الأفضلية للحيوان على الإنسان من وجهة نظر «المنقذ الغربي»، مستشعرين المرتبة المتدنّية لـ«الكائن الفلسطيني» في سلّم أولويّات الإنسانية. 

حيوانات غزّة 

مع اشتداد القصف على القطاع والتدمير المنهجي لعمرانه، بدأت تظهر مقاطع مصوّرة لمعاناة الحيوانات مع الحرب، ولعلاقتهم الحميمة مع سكّان القطاع. تفاجأ الجمهور بهذا العدد الهائل للحيوانات الأليفة في قطاع كان محاصرًا ومعنَّفًا لعقود قبل الإبادة، مُضفيًا شيئًا من الحميميّة والحنان على منطقة مثّلت في المخيلة العالمية إحدى أعنف البقع الجغرافية في العالم. في تدفّق صور الحيوانات هذه، ربّما مراعاةً لجمهور غربي لم تعد تؤثر به صور الأطفال، جاءت القطط والكلاب لكي تحاول استخراج بعض التضامن أو التفاعل مع الفاجعة، وكأنّ وجود حيوانات أليفة هو آخر معقل لإنسانية مشتركة قد تحرّك مشاعر المشاهدين. 

تنافس على أدنى مرتبة 

لم تنجح عملية استخراج بعض التعاطف للكائن الفلسطيني من خلال تشاركه الصورة مع حيوانات أليفة. فكان الردّ الإسرائيلي أنّ لا فارق بين الإنسان والحيوان في قطاع غزّة، جميعهم كائنات فقدت أحقيّتها في الحياة

لم تنجح العملية، لكنّها أظهرت مفارقة في علاقتنا مع العالم الحيواني. فمن جهة، تُعَدّ الحيوانات أدنى الكائنات على سلّم الوجود، إذ يُذبَح ما يوازي 80 مليار حيوان برّي سنويًا للاستهلاك الإنساني في ظروف إبادية، ما جعل الإنسان، في لحظات التعرّض لكرامته، يستنكر صارخاً أنا إنسان ماني حيوان. ومن جهة أخرى، بات لبعض الحيوانات، الأليفة منها خاصة، مرتبة أقرب إلى العبادة، باعتبارها ممثِّلةً لطهارة باتت مفقودة في عالم الإنسان. حاول الكائن الفلسطيني أن يطالب بمعاملة شبيهة بتلك الحيوانات الأليفة، فذكّره العالم أنّه ما زال في مرتبة هؤلاء الحيوانات التي تُعَدّ سنويًا للإبادة. 

ربّما كان هناك إنسانية واحدة، لكنّها ذات مرتبات، وفي أدنى تلك المرتبات، ثمّة تنافس بين الحيوانات والجماعات الإنسانية غير المرغوب بها. 


اختفاء في وضح النهار

حيوانات الدمار

الالتباس ليس أخلاقيًا وحسب، بل هو في عمقه معرفي، مرتبط بما نراه وما لا نراه.  

من بين الركام وحول الخيَم، بدأت تظهر حيوانات كانت تعيش ضمن أو حول العمارات التي لم تعد هنا. كلاب، قطط، أحصنة وغيرها من الكائنات ظهرت إلى العلن، بعدما كانت هناك، في الخلفية، تحت طاولة، إلى جانب شجرة، على حضن أحد، مختبئةً من طفل مزعج، تواكب رجلاً في مشوار، تنتظر إلى جانب لحّام. لم تكن هذه الحيوانات جديدة على العمران، بل كانت غير مرئية، جزءاً من «الخلفية الطبيعية» للعمران الإنساني، إلى أن جاءت لحظة دماره. فاختلط المشهد الأمامي بالخلفية، وسقط الإنسان من عرشه، حتى بات القطاع مكانًا لشتى أنواع الكائنات التي لا يوحّدها إلا بحثها المشترك عن مأوى آمن أو هروبها من القتل. 

حيوانات تحت الباطون

لا يحتاج الوضع إلى دمار هائل من أجل رؤية ما كان مخفيّاً على مرأى من الجميع. يحتاج فقط إلى لحظة نشاز بصري، عندما يظهر كائن أو شيء في مكان غير مخصّص له. تمساح في نهر بيروت، نعامة في الجنوب، سعدان في قفص بالأوزاعي، نمر في حديقة خاصة، قطط تخرج من دمار الضاحية، دجاج على سطح شركة الكهرباء، أسد في شقة، مشاهد تجبرنا إلى النظر مجدّدًا، إلى التساؤل عن المسار الذي أدّى إلى وصول هذا الكائن إلى غير مكانه. غالبًا ما يكون المسار مزيجًا من عمليات تهريب ونرجسية إنسانية وخطأ في إدارة المكان. لكن ما لم ننتبه إليه في هذه اللحظات، هو الصورة المعاكسة، أي الصورة «الطبيعية»، عندما تبقى الحيوانات غير مرئية، في مكانها، في الصورة الخلفية. هذه الصورة هي النشاز الذي تطلّب سنوات من الابتكار والإدارة والعنف والتطهير، لكي يصبح طبيعياً، لكي نتعلم ألا نرى أو أن نرى الإنسان فقط. 

اختفاء في وضح النهار

ما لا نريد رؤيته هو أنّ المدينة ليست للإنسان وحده. لذلك طوّرنا طرقاً لضبط سكّانها الآخرين وإدارة وجودهم، حتى بتنا لا نراهم إلّا من خلال آثارهم. هناك حيوانات أليفة مربوطة بأصحابها أو خادمات أصحابها. وإذا كانت حرّة، فمصيرها شتى أنواع الموت والتعذيب. يتمّ إرسالها إلى مأوى بعيدًا عن المدن. هناك بسس يتعايشون مع تحولات المدينة. لديهم بعض نقاط الأكل، يتركها لهم بعض الخوارج، لكنّ هذا لا يكفي لحمايتهم من السيارات والتسمّم الروتيني. هناك حمَامٌ أيضاً، يكشّها كشاشون، منصبهم الاجتماعي يتدنى مع كل «كشّة». هناك غنم أو بقر، نراهم من وقت إلى وقت، وهم يمضون لذبحهم بعيدًا عن المدينة. وهناك حشرات تحوّلت إبادتهم إلى عمل ربحيّ. هناك حيوانات، إذن، لكنّ وجودهم مضبوط، ورؤيتهم مستحيلة، أو بكلام أدقّ، من المستحيل رؤيتهم كقاطنين في هذه المدن وكجزء من نسيجها. لا نراهم إلّا كانعكاس للإنسان، كطعام أو إزعاج أو تسلية. لا نراهم إلّا في أمكنتهم الخاصة: مسلخ أو منزل خاص أو حديقة حيوانات. لا نراهم إلّا من خلال دلالاتها: براز على الرصيف، جثة هامدة على أوتوستراد، كائنات شاردة.

عالم من الاختفاء

الحيوانات ليست الكائنات الوحيدة التي لم نعد نراها. الطبيعة أيضًا اختفت من الحقل الأمامي، لتتحوّل إلى ديكور خلفي لتراجيديا الإنسان. لكن هناك أيضًا بشرٌ تمّ تهجيرهم إلى هذا الحقل الخلفي، خادمات، عمّال، أجانب، سكان الشوارع، أي كل من لم يرقَ، رغم انتمائه للإنسانية، ليكون شريكًا في الحضارة. هؤلاء أيضًا لا نراهم إلّا عندما ينهار العمران أو تتخربط القوانين الاجتماعية، فنلاحظ، وغالبًا فجأة، أنّ المدينة تحتوي على أناس مختلفين، خارجين عن السائد، أناس عاشوا في المدينة لكنهم مخفيّين أو ممحوّين أو مختبئين. 

الحضارة أكبر ماكينة إسكات وإخفاء عرفها التاريخ.


الأليف والبرّي والشارد

الأليف

لم تكن الحيوانات بعيدة عن تاريخ الحضارات الإنسانية، بل شكّلت أحد أسس تطورها وكانت شريكة صامتة في تاريخها. نسمّيها حيوانات أليفة، ولكنّ هذه طريقة أخرى كي لا نقول كائنات تمّ تدجينها واستغلالها من أجل مركزية الإنسان، وصولًا إلى إعادة إنتاجها حسب نرجسيتنا. وقد يكون الكلب أوضح مثال على عملية تحويل كائن إلى «أليف»، حيث تمّ التلاعب فيه على مدار القرون، حتى بات الكائن الوحيد المدمن على صانعه، خليطاً بين عالم قديم ولّى وآخر جديد من الاستغلال، أقرب إلى «السكان الأصليّين» في كتاب فرانتس فانون «معذّبو الأرض»، هذه الكائنات التي خلقها الاستعمار ما بين الإنسان والحيوان. الحيوانات الأليفة، والتي بات مستحيلاً عليها البقاء خارج رعاية الإنسان، هي علاقتنا مع الطبيعة، علاقة معلّبة ومصنّعة، لا تهدّد مركزيتنا، وإن كانت تلوّنها بالذنب. 

البرّي

نقول «أليف» بالمقارنة مع «برّي»، هذا الكائن المفترض أنّه ما زال خارج عالم الإنسان، يعيش في عالم مُوازٍ للحضارة الإنسانية، عالم ما زال يعمل حسب منطق طبيعي، ثابت منذ آلاف السنوات. لكنّ «البرّي» بات أقرب إلى خيال، مكان أو زمان نريد منه أن يكون خارج سيطرتنا، أن يذكرنا بالحياة ما قبل الحضارة، بأصولنا الطبيعية، وإن كان للحظة. هو خيال، فلم يعد هناك «برّي» من زمان. انقرض. الحيوانات البريّة باتت تشكّل أقل من 4٪ من إجمالي الكتلة الحيوية للثدييات. وهذا ينطبق على فكرة «الطبيعة» التي فقدت موقعها الخارج عن عالم الإنسان، منذ العصر الأنثروبوسيني أو العصر البشري. فتمّ استعمار الطبيعة بنجاح، وبعد إتمام عملية السيطرة، اخترعنا فكرة «الطبيعة»، كحيّز مأزوم، بحاجة لإنقاذ، من زمن آخر، وعلى الإنسان المحافظة عليه. تحوّلت الطبيعة إلى «ضحية»، علينا الدفاع عنها أو الحفاظ عليها. من منظور صحرائنا الحسيّة، ما نراه عندما نرى الطبيعة، هو بقايا الحضارة الإنسانية، ما هو قادم من زمن ما قبل الإنسان، علينا الحفاظ عليه كما نحتفظ بالتحف الأثرية في المتاحف.

الشارد

بين الأليف الذي بات واقعنا الوحيد، والبرّي الذي صار خيالًا، هناك فئة ثالثة، الشارد، أي الكائن الذي يقع بين الأليف والبرّي، هذا الكائن الذي بدأ حياته كأليف قبل أن تبعده الظروف عن عالم الإنسان، فلم يجد عالمًا طبيعيًا للعودة إليه. بات عالقاً بين عالمين. هذا الكائن عاكسَ المسار التاريخي للتدجين، لكنّه لم يجد ما يعود إليه. هذا الكائن الذي تشكّل الكلاب الشاردة أوضح مثال له، هو مصدر قلق للإنسان، يجسّد في وجوده الملتبس هشاشة الفئات الاجتماعية التي نستعملها، كفئة «الأليف» «البري» و«الحضارة» و«الطبيعة»، والحدود المرنة بينها. فهو أليف وبرّي، يعيش مع الإنسان وبعيدًا عنه، ضحية عملية التدجين ودلالة لفشلها. هو تكثيف لعلاقتنا التدميرية بالطبيعة، نتاج هذه العلاقة ودلالة لثمنها التدميري.

لذلك، غالبًا ما تتحوّل الكلاب الشاردة إلى تجسيد للحظات القلق الاجتماعي، لتعبّر عن الخوف والقلق الكامنَيْن عند الإنسان. منذ بضعة أشهر، برزت قضية كلاب الرملة البيضا بعد اكتشاف جثة على الشاطئ. برز قلق عام حول خطورة تلك الكلاب الشاردة التي قد تهجم على الإنسان، بعد غياب الشمس، لتذكره بأن المدينة لم تعد آمنة له. تدخلت الدولة لاستيعاب الأمر، ونجحت الجمعيات بمنع ما يحدث عادة، أي مجزرة بحق تلك الكائنات، وبقي سبب الوفاة مجهولاً. لم يكن القلق نابعاً من بعض الكلاب، كان قلقاً على مدينة باتت غير آمنة، قلقاً وجد في تلك الكلاب تعبيراً عن حاجته لتطهيرٍ ما، قد يعيد الأمور إلى طبيعية مصطنعة. لم تكن المرة الأولى التي تتحوّل فيها تلك الكلاب إلى مصدر قلق عام. بعد الحرب الأهلية، برزت شائعات شبيهة حول «كلاب الداون تاون» التي كانت تخرج بالليل من ركام المدينة لترعب سكّانها في شوارعهم المعتمة جراء انقطاع الكهرباء. الشائعات ذاتها انتشرت في عام 1982، في مدينة محاصرة، بات سكّانها يشعرون أنّها لم تعد لهم. 

في هذه اللحظات، تصعد هشاشة العمران وفئاته الاجتماعية، فتتحوّل تلك الكائنات التي تعيش بين الفئات الاجتماعية، لتجسد القلق الجماعي، ويصبح قتلها عملًا تطهيريًا يعيد الاطمئنان إلى قلب الإنسان. 


المأوى الأخير

سلاحف صور

بعيدًا عن المدنية، يحاول البعض إنقاذ ما تبقى من الكائنات من دمار العمران المتزايد. 

في صور، هناك بيت محاط بمشاريع إعمارية. في داخله، امرأة تنزع منشفة عن سطل أرجواني اللون، تميله بدقة قبل أن تدلق منه عشرات السلاحف الصغار. أكبرهم لا يفوق حجمه البضعة سنتيمترات. تبدأ السلاحف تتحرك نحو البحر، يجذبها شعاع الشمس. واحدة تلو الأخرى، تزحف السلاحف نحو المياه، قبل أن يبتلعها الموج، وتبدأ رحلتها الطويلة حول العالم. ببساطته، يشكّل هذا السطل الفارق الأخير بين بقاء وزوال السلاحف عن الشواطئ اللبنانية. فحياة السلاحف أقرب إلى أعجوبة بات عمرها ملايين السنين. ومنذ يومها الأول، والسلاحف تخطط لعملية العودة إلى الشاطئ ذاته الذي خلقت فيه. تدوم رحلتها عشرات السنوات، تدور فيها حول العالم، قبل أن تعود إلى هذا الشاطئ لتبيض مجددًا. بيد أن هذه الأعجوبة التي قاومت القرون أصبحت عملية هشّة، مع قدوم الإنسان وعمرانه. فهذا الشاطئ الصغير بات من آخر الأمكنة المتاحة للسلاحف لكي تبيض عليه، بعدما تحولت الشواطئ اللبنانية إلى مجمعات باطونية أو مكبات نفايات، أو الإثنين في آن واحد. وهذا الشاطئ الأخير ينقرض تدريجيًا،  تقترب منه المجمّعات يوميًا، ما يضيّق المساحات المتاحة للسلاحف، هذا عندما لا يضيعها شعاع الأضواء التي تنتجها مجمعات الباطون هذه. تناضل المرأة وحيدةً لحماية نوع من الحيوانات بأكمله، عمره يفوق الإنسان لكنّه لن ينجوَ منه. فعندما ستعود هذه السلاحف، بعد حوالي 35 عامًا، إلى هذا الشاطئ، فعلى الأرجح لن تجده.

كلاب حمزة

في الجنوب، أرض واسعة، متروكة خلف الطريق العام وإلى جانب مصنع لتكرير المياه أو مكبّ. في هذه الأرض الضائعة، مأوى كلاب، وبينهم رجل واحد. عندما تدخل الطريق الفرعية المؤدّية إلى المأوى، تبدأ الإشارات بالظهور، خفوت لوجود العمران وبضعة كلاب على طرف الطريق. ومع آخر نزلة قبل الوصول إلى الأرض، تتضح الصورة. أكثر من مئة كلب، من جميع الأجناس والأعمار تنتظرك، عيونها عليك، مليئة بحنان لشخص غريب، لكن ما من غريب بالنسبة لهم. فهم ينتظرون في هذا المأوى، يعاملون أي زائر غريب وكأنّه قريب كان مسافراً، يتأهّلون به، يعرّفونه على الأعضاء الجدد في المأوى، وفي عيونهم أسئلة عن الحياة خارج هذا المأوى. 

بينهم رجل وحيد، يهتمّ بكل هذه الكلاب، بدأ يستقبلهم منذ سنوات، حتى أصبحت حياته مكرّسة لرعاية من تخلّى عنهم الإنسان. ليس لهم إسم، فجميعهم أحبّاؤه، التعريف ليس من خلال إسم فردي، بل نابع من طبيعة العلاقة التي تربط بعضَهم يبعض: الحب. بقي هذا الرجل في الجنوب طيلة الحرب، وبات يهتم بالحيوانات والحدائق التي اضطر أصحابها إلى هجرتها، وهذا حتى بعد أن طاله القصف، ليتحوّل إلى راعٍ لكلّ من نبذتهم الحياة. ففي هذا المأوى، حبٌّ من نوع غير معتاد، حبُّ مَن نجا، مَن رأى قسوة العالم ونجا منها بأعجوبة، ففهم هشاشة الحياة وأهمية الحب فيها. المأوى هو مكان للناجين من قسوة العالم، مكان يفيض بحبّ رجل قرّر أن يعوّض وحده قسوة سائر الرجال. 

يأخذك الرجل لشرب فنجان قهوة في الحقل المجاور، فتلحق بك عشرات الكلاب، ليصبح فنجان القهوة مناسبة لرحلة جماعية. هم لا يريدون إلّا مشاركة هذه اللحظة، من دون قبل أو بعد. هي لحظة وجود فقط. لكن مع كل خطوة جماعية، يبرز سؤال واحد: ماذا سيحدث بعد رحيل… فالمكان بأكمله هشّ، قائم على حب رجل واحد، مشروط بهذا الحب الهشّ. 

ماذا بعد؟ 

هو سؤال يطال كلّ محاولات إنقاذ الحيوانات من قسوة الإنسان. فتبدو معركةً خاسرة، رغم التقدّم في هذا المجال في السنوات الأخيرة، معركة أقرب إلى محاولة وقف طوفان بملعقة صغيرة. ربّما كانت هذه هي الحقيقة لمن يعاين هذه التجارب من خارجها. لكن ما من «خارج» لهذه الأماكن، هي عالم بحد ذاتها، عالم قائم من دون أيّ حساب ربح أو خسارة. عندما تدخلها، يسيطر منطقها القائم على الحبّ على أيّ اعتبار آخر، باستثناء الوجود في هذه اللحظة، هنا، معهم، رغم كل العالم. فالمأوى ليس هنا فقط لحماية الحيوان، بل هو، بجماله وهشاشته وخوفه، مثال عن إمكانية علاقة أخرى مع الطبيعة والكائنات غير الإنسانية. 


ما بعد المأوى

صحراء حسيّة

تترك المأوى بشعور خانق بالذنب، في طريق العودة إلى عالم القسوة. لكنّ الذنب لا يفيد، إذ يعيد تأكيد مركزيّتنا، هذه المرّة بدور المنقذ. لكنّ ما يسحر في أماكن كهذه، هو ربّما الشعور المعاكس، شعور بأنّنا كائنات بين كائنات، منظورنا ليس الوحيد، والوجود ليس بالضرورة سيطرة. ربّما لا يلتقط الذنب الإحساس بأنّنا خسرنا شيئاً من «إنسانيتنا» عندما أصرّينا على فرض منظورنا كالمنظور الوحيد. ثمن الحضارة كان «جفاءً حسّياً»، نوعاً من الصحراء الحسّية، التي تجعلنا لا نرى ونسمع ونشمّ ونتخيل إلّا من منظورنا الضيّق. جفّفنا عالمنا لكي نشعر بأنّنا وحدنا فيه. وبعد مضيّ الكثير من الوقت في هذه الحضارة الإنسانية، نلاحظ وحدتنا، فنحوّلها إلى أزمة كونية لكي لا نواجه مسؤوليتنا في خلق هذه الوحدة الحسيّة. 

انتقام الطبيعة

بين الحين والآخر، تبدو الطبيعة وكأنّها تنتقم، لتُظهر هذا الجبروت الملكي الذي لا يعترف بعمران أو إنسان أو حدود. تعود الطبيعة بشكل فيروس، يجبر العالم على التوقف، أو بشكل تسونامي، يعيد رسم الشواطئ، أو عواصف تنتقل من دولة إلى أخرى، من دون أي اعتراف بالحدود التي كلّفت ملايين القتلى لتثبيتها. في وجه «هذه» الطبيعة، لم نعد منقذين، بالكاد ننقذ أنفسنا من منطقها الصامت والمنيع تجاه صرخات ضحاياها. في هذه اللحظة، نستشعر أنّنا لسنا في المركز. نشعر بغضب وإحباط من طبيعة لم تعد تنتظم بإيقاعنا، تحبسنا بالمنازل حتى الجنون، ترفض الانصياع لضرورات السوق. كذلك الخوف من مناخ يتغيّر، بلا تردّد، يراقبنا ونحن نحاول مقاومة هذا التغيير، قبل أن يزيد الحرارة نصف درجة تلوة الأخرى. نخاف لكن لا نتغير، لأنّنا ضمنيًا نفضّل دمار كل شيء على قبولنا بالتخلي عن بعض امتيازاتنا. 

من سوف يأوينا؟ 

في وجه الدمار القادم، بدأ أثرياء العالم يخطّطون لرحيلهم، بين من يستثمر بتقنيات طبية لإطالة حياته ومن يستثمر برحلات نحو المريخ، ريثما يتحول هذا الكوكب إلى مأوى لمن يستطيع دفع الثمن. وللمحكومين بالبقاء هنا، يجري البحث عن مأوى، للكائنات الناجية من قسوة هذا العالم، مأوى يقدّم مساحة لاستعادة بعض ممّا خسرناه، رغم أنّنا مدركون أنّ نظام الحكم العالمي لن يترك فسحة صغيرة للنجاة منه، حتى لمن لا يريد مقاومته. 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً