لا يُسجَّل لما اصطُلِح على تسميته «ممانعة» في بلادنا، أنظمةً كانت أم أجهزةً أم مروّجي خطاب، أيُّ إنجاز حاسمٍ في أيّ ميدان. لا في المواجهات السياسية ولا في المواجهات العسكرية ولا في مواجهة تحدّيات الاقتصاد والتنمية، ولا في المواجهات الثقافية، حيث تتبدّى أكثر أوجهها رثاثة. على أنّ هذه الممانعة، إذ تلاشى نظامها العربي في دمشق وانتهى رئيسه مختبئاً في روسيا بعد أن خلّف مئات آلاف الجثث في بلدٍ ورثه عن والده وأكمل بعد الوالد تحطيمه، وإذ تراجعت قوّة دولتها العظمى إيران وحليفها الأكثر فاعليةً (حزب الله) بعد حروب أساءا تقديرها، هذه الممانعة إياها، نجحت نجاحاً باهراً في تحويل قسمٍ من خصومها إلى أشباه لها، تحديداً في وجهها الأكثر ضحالة، أي الوجه الثقافي أو الخطابي.
ذلك أنّ الخصوم المذكورين، وبعضهم مُرتهَن لأنظمة عربية لا يُعرف عنها اكتراثها بالحريات والكرامات الإنسانية أو موظّفٌ في مراكز دراسات لا يسمَع أحدٌ لا في الغرب ولا في الشرق عن ماهية «دراساتها»، صاروا منذ سنوات ظاهرة ثرثرةٍ تملأ شاشات التلفزة وصفحات الفايسبوك بكلام يقتبسونه عن قلّة ليبرالية لها مكانتها، فيقزّمون مقولاتها ويجرّدونها من كل خلفية ثقافية أو علمية لا شأن لهم أصلاً بها، ليحوّلوها إلى مادّة هرج ومرج وإلى سوقيةِ ردٍّ على أضرابهم الممانعين.
وخصوم الممانعة هؤلاء يندفعون أحياناً، إذ يشجّعهم القرّاء و«ما يطلبه المستمعون»، ليخرجوا عن نصوص تأثّروا بها (ولو كاريكاتورياً)، فيفيضوا بعبارات وأفكار يتطلّب التعامل معها تأنّياً للتأكد ما إذا كان مضمونها جدياً أو هو تقليد لمذهب جديد في الكتابة الصحفية الساخرة، الـ«بارودي»، التي غالباً ما تتهكّم على مغفّلين فتنسب لهم إيغالاً في البلاهة لا يَستغرب عارفوهم صدورها عنهم. هكذا، يهجو كُوَيتبٌ «العقل العربي» مثلاً، فتظنّه مقبلاً على مساجلة الجابري أو طرابيشي أو حتى إبن خلدون، ليتبيّن أنه يُهاجم علي عمّار أو وجيه البعريني أو زميلَ كتابةٍ له ممانعَ الطالع وثابت المقاومة على صفحات الفايسبوك.
وهكذا يقسّم خصمٌ لدود آخر «للمحور» (على ما صاروا يسمّونه) العالمَ إلى فسطاطين، هُم ونحن (أو عندهم وعندنا)، فلا تعرف من الـ«هُم» (أميركا أو السويد أو اليونان أو فرنسا أو اسكتلندا أو بلغاريا أو الأرجنتين أو اليابان أو نيوزلندا...) ومن الـ«نحن» (لبنان أو سوريا أو فلسطين أو جزر القمر أو إندونيسيا أو باكستان أو تونس أو أوزبكستان)، ثم يقيّم ببضعة أسطر مليارات البشر على «الجانبَين»، بمعزل عن هوياتهم وثقافاتهم وطبقاتهم الاجتماعية ومِهنهم ولغاتهم ومواقفهم السياسية، التي لم يسمع الكثير عنها ولا تهمّه في أي حال. فهي شؤون تفصيلية لا مكان لها في المعركة مع جاره في الطابق الثالث من العمارة، الممانع الصنديد الذي يستفزّه منذ سنوات.
وهكذا أيضاً، يكتب «مفكّر» صاعد عن الجامعات الغربية التي لم يدخل مرّة إليها، فيهجو تحرّكات طلّابها دعماً للفلسطينيين، ويتندّر على أساتذة وأستاذات فيها، يُستبعد أن يكون قد قرأ لهم أو امتلك يوماً الأدوات المعرفية واللغوية اللازمة لقراءتهم. كلّ هذا، وثمة «مفكّرون» من جيل سابق، ممّن استصعبوا في حياتهم الشتم الجماعي للأقوام، يجدون في الخفّة والتقذيع والهجاء اليوم بذريعة «استهداف الممانعة»، ما يعبّر عمّا في خاطرهم، فينشرونه مذيّلاً بعبارة «مقال مهمّ لفلان» أو «نص جريء لعلتان». وما الأهمية سوى تعميمٍ بليد على بشر ومجتمعات، وما الجرأة إلا إعجاب بظاهرة دونالد ترامب المرَضيّة أو بقاتلٍ تافهٍ وفارّ من العدالة الدولية هو بنيامين نتنياهو.
نحن إذاً أمام حالة من البؤس الشديد، تُفاقمها ردّة اللغة وفقرها لدى من ذكرناهم، واجترار الإطلاقيات الجاهلة، والإساءة إلى المعركة الضرورية والحقيقية في مواجهة الممانعة والتركة الثقيلة التي نكبتْنا بها، ومن ضمنها فِعل المرآة هذا الذي نصّب مهرّجين مفكِّرين، وهجّائين بذيئين للقضية الفلسطينية، بما هي قضية التحرّر الأكثر إنسانية وتكثيفاً لمعنى العدالة في عالم اليوم، مِقدامين وفُرسان رأي.