هناك نسخة أخرى من مصر، يتمّ العمل عليها على قدم وساق. هذه النسخة لا تشبه ما عرفناه عن بلادنا. هي النسخة الرديئة المصنوعة في معامل الجمهورية الجديدة.
المحو هو عملية منهجية تحدث في البلاد منذ عقد من الزمان. والتطوير هي الكلمة الأكثر تأدباً لوصفها.
لم تمحُ الحروب القاهرة. قام بمحوها سلاطين وملوك وحكام البلاد. كل حاكم مستبد يأتي بهدف وعلّة، أن يبني صروحًا عملاقة، شواهد كبرى على مروره من هنا.
آثار مأهولة
دعاني أحد المراكز الثقافية في مدينة هارلم الهولندية إلى حضور فعالية للمشي داخل المدينة القديمة، العاصمة الأولى لهولندا. يعود تأسيس المدينة إلى القرن السابع عشر، واغلب المباني فيها تحمل سَنَة البناء. هي بيوت صغيرة جدًا مبنيّة على طريقة الحوائط الحاملة، وتطل على جسور النهر بعناد ومرمّمة بعناية. صارت هذه المنازل جزءاً من الهوية الثقافية والبصرية للبلاد.
يبدو أنّ بعض هذه المنازل على حافة الانهيار بسبب ميل إحدى الزوايا. ومع ذلك نُفِّذت حِيل معمارية متعدّدة لإنقاذها. كانت الفعالية تقضي بأن يلفّ الزائر على المباني الحالية وفي يده صورة من المباني قديماً، ويستكشف ماذا فعل الوقت بالمكان. كل هذه المنازل مأهولة بالسكان، وهي ليست مجرّد آثار للفرجة، كل الآثار تستخدم في الحياة المعاصرة وبكفاءة، وتطبق عليها كل معايير الاستدامة. وقرر سكان المدينة فتح منازلهم لمدة يومين للزائرين.
لا أُنكر أبداً أنني غضبت كثيراً بعد هذه الجولة. غضبت ممّا حدث لمدينتي التي كان يمكن لها أن تحتفي بمبانيها التاريخية المتنوعة، أن تفتح شوارع القاهرة الفاطمية والمملوكية والخديوية للزائرين بعد تطويرها بحق، بدلاً من إزالتها أو محوها كما حدث ويحدث حتى الآن. تطوير المدينة لا يعني تهجير سكانها إلى خارج العاصمة، ولا يعني تفريع المكان من ناسه الذين هم جزء أساسي من روح المكان.
اللحظة
خلال رحلة المشي هذه، توصّلتُ إلى أنّ التغييرات البصرية التي تحدث في العاصمة التاريخية لمصر ما هي إلا جزء من عملية محو كبرى نتعرّض لها. هي ليست مجرد تغييرات، بل تحوّلات تنقلنا إلى مرحلة جديدة. وهذه المرحلة تأخذنا إلى مصر بمواصفات أخرى، خواصّ جديدة وملامح يعاد رسمها. هناك وجه آخر لمصر، يصرّون على فرضه علينا، ولم نشارك أو نُستدعى كشعب في اختياره، بل إنّ المنتج الاجتماعي والثقافي الذي شكل وجه هذا البلد، وأنتجته الجماهير في كلّ مناحي الحياة، يتمّ محوه في كثير من الأحيان لبناء صورة جديدة، قلاع إسمنتية نظيفة، شرفات زجاجية زرقاء، خالية من التفاصيل، خالية من روح الناس، يصحو الناس في مصر على ما قاله رجل أعمال إماراتي له علاقات نافذة مع النظام الحالي: نريد تحويل وسط البلد في مصر إلى نموذج لداون تاون دبي.
شخصياً لم أصدّق هذا التجاسر، ولكنها سطوة المال! الخبير العقاري المحصورة خبرته في بناء المنتجعات المسوّرة والقصور، يتحدث عن تطوير المدن. يقارن عاصمة عمرها أقلّ من نصف قرن بعاصمة مثل القاهرة. لا يتعلّق الأمر بشعوري بالغضب على حال بلادي التي يتحكّم السماسرة والمقاولون بهويّتها البصرية، ولا عزاء للتاريخ المديد للمصريّين مع العمارة والهندسة. يتعلق الأمر بفلسفة رجال العمران في هذه اللحظة. فهذا الرجل ينتمي إلى بلد يبحث وينقّب عن أيّ آثار ثقافية ومعمارية لدبي القديمة لدرجة أنهم عندما هدموا مبنىً كان يضمّ مطعماً من السبعينات، نقلوا المطعم لاعتباره أثريّاً نادراً في الإمارات. لكنّ هذا الرجل نفسه حين يأتي إلى مصر، يريد تطوير القاهرة على طريقة دبي.
هناك نسخة أخرى من مصر، يتمّ العمل عليها على قدم وساق. هذه النسخة لا تشبه ما عرفناه عن بلادنا. هي النسخة الرديئة المصنوعة في معامل الجمهورية الجديدة.
تؤلمني القاهرة في غيابي عنها، كما يؤلمني حضورها في هذا النص. تؤلمني كلما شاهدت احتفاءً بمبنى في مدينة أخرى عمره لا يتجاوز 200 عام، وكيف يتمّ التعامل مع الزمن باعتباره ثروة معرفية وليس مجرد حجارة وضعت في الطريق. أشعر أنني أسرق كل يوم في بلادي، نمشي وهو يمحو شكل المدينة، هذا الوحش الذي يأكل كل يوم قطعة جديدة. حين نخرج، نكتشف أننا نفقد أماكن نحبّها. نمشي في طرقات جديدة قد تقتلنا، لأنهم ينسون تصميم طرق المشاة في كل طريق جديد ينفّذونه، فالتطوير قائم من أجل سائقي السيارات فقط، يغفلون عن مصلحة عشرات الملايين في إيجاد طرق آمنة، لعبورهم إلى منازلهم وأعمالهم، والمحصلة أنّهم ينفّذون كل مشاريعهم من أجل رجال الأعمال والسياحة والاستثمار وسكان المنتجعات، والمحصلة موت رخيص للشعب على طرق حديثة.
منطق المحو
دشّن النظام المصري الحالي عنواناً لعمليات المحو، أطلق عليه إسم «الجمهورية الجديدة» التي تتمّ بمقتضاها، ومن خلالها، كل عملية «التطوير» المعمارية والثقافية والسياسية. كان المعمار هو الواجهة الأكثر تعبيراً عن التحوّلات اليومية:
إزالة المناطق القديمة وبناء أخرى عصرية تناسب الذوق الحالي للحكم. إزالة سياسات وعلاقات قديمة ومحو الدور الاعتباري للبلاد باعتبارها الدولة الأكبر عربياً، نهر الحضارة الذي تحوّل ترعة مسدودة، محرومة من حصتها الطبيعية من المياه وتتوسّل لدول وليدة، للتوسّط لنيل حقوقنا التاريخية. رأينا بأعيننا، الدولة الكبيرة الضاربة في تاريخ بناء المؤسسات، تغرق في التيه، وتعادي نفسها وتتحوّل إلى دولة محدودة الأثر، قليلة الحيلة. كيف حوّلتها الجمهورية الجديدة إلى دولة «فقيرة أوي» في الخيال، كما قال في مستهل حكمه.
المنطق الذي يسوّق عملية المحو هو أنّ الدولة السابقة التي توارثها جيل من العساكر، فشلت في السيطرة على الشعب. فاستطاع الجمهور المصري بعد سنوات من التذمّر بالخروج إلى الشوارع في وجه الرصاص، وحاصر الدولة العتيدة في مقرّاتها في وسط البلد وشرق القاهرة حيث مقرّ الحكم. كما فشل النظام المتداعي في احتواء غضب المصريين. لذلك كان قرار إنشاء عاصمة في الصحراء قراراً أمنيّاً قبل أن يكون قراراً لإعادة تنظيم الدولة. لم يكن القرار مبنياً على مصلحة الجموع المضطرّة لأن تذهب إلى الصحراء لإنهاء أوراقهم الحكومية بعد نقل دواوين الوزارات لجرّ الشعب بالعافية لعاصمة الجمهورية الجديدة.
ليس هذا وحسب، بل إنّ قرارات توسعة الطرق والشوارع الرئيسية في مصر ومذابح الأشجار التي وقعت في أحياء كثيرة، لم يكن سببها حاجة الناس للتوسعة، بل حاجة السلطة الأمنية للتوسعة. كانت الأشجار تحجب جزءاً من عمل المراقبة والكاميرات. فتمّ تعديل الشوارع لتصلح لمرور مدرّعة، وليُمنَع الاحتشاد والتجمّع في هذا الشارع، وهي نفس النظرية التي قامت على أساسها توسعة شوارع باريس بعد الثورة الفرنسية، مع الفارق الكبير، فنّياً ومعمارياً.
المحو مستمر، يصل إلى تغيير كلّي في بنية العلاقات التاريخية بدول الجوار، وهو جزء من الهوية المشتركة التي تجمعنا مع شعوب تلك البلدان. كانت حرية الحركة بيننا وبينهم على مدار عقود، أكبر ضمانة لحماية الحدود وتأمين المواطنين أثناء العبور دون التعرّض للاستغلال أو أخطار الطريق. وهو ما تغيّر كلياً، وتحوّلت كل حدود مصر إلى مصيدة لاستغلال الهاربين من وطأة الحروب والمجازر التي شهدتها دول الجوار. لم تستطع الدولة العميقة فرض سيادتها على حدودها وتنازلت عن أعمال السيادة لإدارة أعمال البيزنس على المعابر، والاستثمار وقت الحروب.
ففي السنوات الأخيرة على سبيل المثال، انقلبت مصر على دورها التاريخي في استقبال المواطنين من دول الجوار وأطلق عليهم رئيس الدولة «الضيوف» ولم يفرّق بين اللاجئ والمهاجر. ومنذ ذلك الحين، بدأت أسطوانة تعزفها كل أجهزة الدولة وتقضي بأنّ المصريّين يتحمّلون عبء الضيوف رغم مواردنا المحدودة. وبدأ إعلام «المتحدة» في تحويل هذه الخطابات إلى مادة صحفية تهاجم اللاجئين وتحرّض عليهم.
وفي المقابل، خرجت كلّ المؤسسات الدولية العاملة على شؤون اللاجئين في مصر لتدحض هذه الأسطوانة بالأرقام. فقدّرت المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين عدد اللاجئين في مصر حتى نهاية تشرين الثاني الماضي بـ846,431 لاجئاً، أكثر من 67 بالمئة منهم من السودانيين، تدعمهم المفوضية مادياً وتقدّم لهم بعض الخدمات الصحية والتعليمية بأسعار الخدمة الحكومية للمصريين، بينما يُقدَّر عدد المهاجرين بـ9 ملايين مهاجر، من بينهم أكثر من 7.5 مليون لديهم أعمال وتجارة كبيرة ويضخّون للبلاد المأزومة العملة الصعبة. بالإضافة إلى ذلك، تتلقى الدولة المصرية دعماً واسعاً من الاتحاد الأوروبي مقابل استقبال اللاجئين. وكان آخر هذا الدعم العام الماضي حين تمّ الاتفاق على حزمة مساعدات واستثمارات بقيمة 7.4 مليار يورو من الاتحاد الأوروبي إلى مصر، من بينها 200 مليون يورو مخصّصة لملف الهجرة. وهذا يعني أنّ الدولة المصرية لا تُطعم اللاجئين من عرق الشعب كما صوّرت لنا. بل على العكس، تحصل على المليارات مقابل هذه المهمّة، ولم يعد الأمر مجرّد عطف من الأخت الكبرى التي تحوّلت إلى سمسارة. بل حدث ما هو أشدّ وطأةً حين صدر مشروع قانون جديد ينظّم اللجوء في مصر، صدر بليلٍ، دون استشارة المجتمع المدني والجهات العاملة في ملف اللاجئين، وحذّر الجميع بأنّ هذا المشروع كارثيّ ولا يوفّر القانون وضعاً قانونياً للّاجئين أو طالبي اللجوء في مصر، بل يعزّز تجريم الهجرة غير النظامية، على النقيض من المعايير الدولية.
منذ سنوات، تشهد حركة الوصول إلى مصر مخاطر عدّة. في الجنوب، يعاني السودانيون بعد انقلاب مصر على اتفاقية الحريات الأربعة مع السودان، والتي كانت تقضي بحرية التنقّل بين البلدين. تعاظمت الهجرة غير الشرعية، نتيجة تشديد القوانين، ويُعذَّب الشعب السوداني وهو يحاول النجاة من صراع الجيش والميليشيا المنشقّة. أمّا في الشمال، فنشاهد فصولاً مروّعة، في مسلسل عدم سيطرة مصر على معبرها الوحيد مع قطاع غزة، وتحكُّم الاحتلال في رفح. نرى الناس يموتون من الجوع، وتعجز بلادنا الكبيرة عن إدخال اللقمة لمن يواجهون الحرب والجوع والنزوح، ولا مانع من رفع أسعار الإقامات خلال فترات الحروب، وعصر السودانيين والغزّيّين للحصول على مزيد من العملة الصعبة.
تُجمَع كلّ هذه الأموال من المانحين الدوليّين ومن تجارة الحدود والإقامات، ثم يخرج علينا ليقول تحمّلنا كثيراً من أجل الضيوف.
كيف تحدث عمليّة المحو
شهدت القاهرة على طول تاريخها على أنواع من المحو المنظّم والمنهجي، كما شهدت وتحمّلت تبعات التحوّلات السياسية في البلاد. ففي التاريخ المعاصر للمدينة، لم تمحُ الحروب القاهرة ولم تقترب جيوش الأعداء من مبانيها ولم تتعرض للقصف في أشد اللحظات سواداً في الحرب العالمية الثانية، فحملت الاسكندرية عن القاهرة الموت والدمار في حرب استمرت خمس سنوات. حتى حروبنا مع الكيان الصهيوني في 56 أو أثناء نكبة 67، حملت بورسعيد والسويس ومدن القناة العدوان عن القاهرة. أكبر ما فعله الاحتلال الصهيوني هو غارات كسرت جدار الصوت بطائرات الميراج فوق مصر الجديدة وميدان التحرير. وهذا ما جعلنا نكتشف أنّ عمليات محو القاهرة على طول التاريخ، قام بها سلاطين وملوك وحكّام البلاد. كل حاكم مستبدّ يأتي بهدف وعلّة، الهدف مشترك بينهم جميعاً، هو أن يبني صروحاً عملاقة، شواهد كبرى على مروره من هنا، يستعرض فحولته السياسية على شعبه الغارق في الفقر. والعلّة تكمن في العمى، إذ تصيب حكّام هذه البلاد حالة من انعدام الرؤية عمّا يحتاجه المواطنون مقابل ما يحتاجه النظام، ويظلّ الصراع قائماً حتى يخرج الشعب من هدومه ويقول للحاكم، هذا يكفي. هذا ما تعلّمناه من تاريخ المصريين وما نراه فعلياً في النوم الطويل الذي تعقبه صحوةٌ لا رجعة فيها.
ترى الجمهورية الجديدة أنّها أذكى من الجمهوريات السابقة، لن تترك مساحةً واحدةً لنموّ وردة خارج سياق المزرعة المسوّرة. ويا حبّذا لو لم تكن وردة، لأنّه أصدر قراراً بمنع زرع نبات الزينة. لذلك، من الأفضل أن تكون صبارة أو نباتاً يصلح للأكل والاستثمار، في حال اضطرّ المصريّون إلى أكل ورق الشجر كما وعدنا في أحد الأحاديث الذهبية.
المحو هو عملية منهجية تحدث في البلاد منذ عقد من الزمان، والتطوير هو الكلمة الأكثر تأدّباً لوصفها. ولم نفهم كيف نطوّر مكاناً بمحو كلّ تفاصيله القديمة، وإزالة كلّ ما هو قائم لإعادة بناء شيء آخر تماماً. تستحي الجمهورية الحديثة أن تقرّ بما تفعله، أن تصف حقيقة الوضع كما هو قائم، لأنها لا تقوى على مواجهة الخسارة الفادحة عندما يتمّ إزالة منطقة مثل عرب يسار، بجوار قلعة صلاح الدين الأيوبي. يتواصل المعماريون المصريون مع كل الجهات الدولية المعنية بالتراث الإنساني لإنقاذ هذه المنطقة، ثمّ يفشل الجميع، فيمحو بلدوزر الجمهورية الجديدة منطقةً تأسّست في القرن التاسع عشر لإقامة مباني لا تحمل أي قيمة فنية ولم تخضع للدراسة ولا تنتمي لأي مدرسة معمارية حديثة او قديمة، مجرد خرسانة مسلحة تنعدم فيها كل مواصفات الجمال.
ومن المفارقات أنّ الرئيس المصري عندما قرّر أن يُدهش الرئيس الفرنسي، ذهب به إلى القاهرة الفاطمية التي تشهد تغييرات مخيفة في عهده، تزرع الخرسانة داخل أزقة وحارات الحسين والجمالية. لا يفهم أحد كيف استطاع رجال العصر اختراق القاهرة الفاطمية والحصول على تصريحات بناء داخلها، وأبرزها بناء مبنى من الخرسانة المسلحة أمام أقدم جوامع القاهرة التاريخية، جامع الحاكم بأمر الله في شارع المعزّ، تبيّن أنّه فندق جديد، على غرار مشروعات الفنادق العديدة التي تملكها شخصيات نافذة.
لم تلجأ الدولة إلى أخصّائيين معماريّين محليّين أو دوليّين لإنجاز هذه المهامّ الدقيقة في أحياء تراثية بالكامل. وحدها شبكة المصالح ومجموعة من المقاولين تدير كل هذه المشروعات التي يتفاجأ بها المجتمع المحلي والدولي المهتمّ بالتراث الإنساني العالمي. والردّ هو أنّ هذه الفنادق تأتي ضمن خطة تطوير القاهرة التاريخية. الخطة السرية طبعاً! وما دام الأمر كذلك، لم نفهم لماذا لم يصطحب الرئيس المصري نظيره الفرنسي المدهوش دائماً إلى البرج الأيقوني الذي دفعنا فيه المليارات، لماذا لم يصطحبه إلى صروح العلمين المتوحشة التي بناها على البحر، وأخذه عوضاً عن ذلك إلى حيث يعيش الناس، تملُّقاً لصورة مصر التس يمحوها بالتدريج منذ وصوله إلى الحكم.