«ولادة قاسية» بات عمرها عقود
خلال حرب تمّوز 2006، اعتبرت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك، كوندوليزا رايس، في تصريح أثار الجدل، أن آلام الحرب ليست إلّا «الولادة القاسية للشرق الأوسط الجديد». عنف الحرب ضروري لخلق هذا الجديد من ركام القديم. بعد أكثر من عقدَين من الزمن، تعود هذه العبارة إلى الذهن، والحروب من حولنا تُبرّر بقيام شرق أوسط آخر جديد. مع فارقٍ صغير، وهو أنّ هذه المرّة، قد يكون هناك ولادة. فعكس الـ2006، تَعمَّم العنف هذه المرّة على صعيد المنطقة، منفلتًا من أيّ حذر إقليمي أو ضوابط أخلاقية أو حدود عسكرية، ليعلن بوضوح رغبته بإخضاع أي اعتراض أو تمايز أو خروج عن الإجماع الجديد.
سياق بلا مؤامرة
يخطئ من يعتبر أنّ التجربة الجديدة في خلق «شرق أوسط جديد» من ركام الشرق الأوسط الموجود مجرّد تكرار لتجارب الماضي، ومحكومة بفشل تلك التجارب، وأهمّها احتلال العراق في عام 2003. كما يخطئ من يعتبرها «لحظة جنون» إقليمية، انفجرت بـ7 أكتوبر لتنتج حروب بلا أفق وإبادات بلا حدود. ليس هناك من مؤامرة، بل ثمّة سياق جعل من رهان تحويل المنطقة، هذه المرة، خيارًا واقعيًا، قد ينجح رغم جنونه العسكري. فبين الـ2003 والـ2023، سياق طويل هيّأَ المنطقة لتصبح قابلة، من جديد، لمشاريع تحويلها. إنّه سياقٌ متشعّب ومتناقض، لكنّه وجد ختامه في هذا «الشرق الأوسط الجديد».
التقنية بدل الكلام
قد تكون الميزة الأساسية لهذا السياق انحلال المجتمعات العربية، المعنيّة بهذا التحوّل، وتحوّلها إلى مجرّد جمهور يعاين السماء وصواريخها المتطايرة. ولو شكّل الاعتراض على الإبادة ومن ثمّ الحروب الإسرائيلية المتتالية مدخلًا لحالة من الاعتراض السياسي في الغرب (باتت تصل إلى صفوف الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة)، فإنّ المنطقة تبدو غائبة عن الموضوع، فاقدة لأي فعالية سياسية، تعاين الحروب كمن يراقب كارثة طبيعية. الكلام نُفي إلى خارج حدودها، أمّا في الداخل، فهناك فقط «التقنية»، أو بكلام أوضح، التفوّق التقني الذي أخضع منطقها وأسكتها.
إسكات المعارضات
لم يبدأ الإسكات من لحظة اللقاء مع التقنية، لكنّه مهّد لهذا اللقاء. فبين عامَي 2011 و2019، قامت «الثورات العربية»، كمحاولة، ربّما أخيرة، لاستعادة الحقّ بالسياسة في هذه المنطقة، وفرض الحيزّ الداخلي، المرتبط بالحقوق والحريّات، على حقل سياسي كان يدار من عناوين خارجية. لكنّ الأنظمة العربية، بقيادة دول الخليج، نجحت في الانقضاض على هذا الحراك السياسي، انقضاضٌ اتّخذ أشكالًا مختلفةً، معظمها عنفي، وصولًا إلى الإبادة السورية. كان ثمن هذا الانقضاض ضرب أي حيوية في المجتمعات الثائرة، وتعنيفها لكي تتحوّل إلى ما يشبه الأجسام المشلولة، فاقدة لأي مناعة سياسية. فيأتي «الشرق الأوسط الجديد» على ركام أي مشروع تغييري عربي، ليتحوّل العنف إلى أداة سياسية فعّالة.
محو فلسطين قبل الإبادة
لم تكن القضية الفلسطينية من أولويّات الثورات العربية. ففي انقسام الخطاب الاعتراضي العربي بعد انتهاء الحرب الباردة، باتت هذه القضية تنتمي إلى ما عُرِف بمحور الممانعة، وأُخرجت من السياقات السياسية الداخلية. لكنّ غياب هذه القضية عن أولويّات الثورات كان أيضًا تعبيرًا عن «تعب» أو «ضجر» عربي من قضية باتت وكأنها أصبحت خارج الواقع، وتنتمي لأدبيات لا علاقة لها بالمعاش العربي. ولم تنجح أحداث «حي الشيخ جراح» في إعادة إحياء الاهتمام العربي بهذه القضية، بالطريقة التي أسّست لوعي جديد في الغرب حيال فلسطين. وربّما شكّل هذا «التعب» أو «الضجر» الدافع الأساسي وراء «اتّفاقيات إبراهيم» التي وضعت التطبيع مع إسرائيل كوجهة أساسية للمنطقة. فنجح الرهان الخليجي بإبرام اتّفاقيات كانت «محرّمة» شعبيًا بالسابق. ولم يغيّر الحماس حيال هذه القضية مع لحظة «طوفان الأقصى» هذا الواقع، ليصبح التطبيع اليوم الأفقَ الأكثر ترجيحًا، وهذا حتّى بعد الإبادة.
بين 2003 و2025
الفارق بين مشروع تغيير المنطقة في عام 2003 وما يجري اليوم ليس فقط مرتبطًا بالعنف الزائد حاليًا والتفوّق التقني. هو في الأساس فارق سياسي، عنوانه التدمير الممنهج للسياسة في الشرق الأوسط في العقد الأخير، والذي ترك المجال مفتوحًا أمام عنف الطائرات الإسرائيلية لإعادة رسم معالم الحاضر. فما كان غائبًا في عام 2003، كان غطاءً سياسيًا يسمح بتطوّع الأنظمة العربية التي لم ترتَح لخطاب الديموقراطية وتغيير الأنظمة آنذاك. أمّا اليوم، فما هو مطروح، أي أنظمة سياسية قمعية تحكمها التقنية مرتبطة باتفاقيات تطبيع أمنية، هو ضمانة لها وتأكيد على أنّها نجحت في اجتياز مرحلة الديموقراطية من دون ثمن. أمّا ما كان موجودًا آنذاك، فكانت مجتمعات فيها بعض من الحيوية السياسية، والتي شكّلت بعض الرادع لمشاريع العنف. اليوم، هذه المجتمعات باتت منهمكة، لا تريد إلّا نهاية العنف بأي ثمن.