حقّ اقتراع غير المقيمين في الخارج
انفجر السجال حول تعديل قانون الانتخابات في ما يخصّ كيفية تصويت اللبنانيين غير المقيمين، بين مَن يريد حصر مساهمتهم بالمقاعد الستّة التي يلحظها القانون وبين من يريد تعديل القانون، كما جرى في السابق، لكي يقترع غير المقيمين للـ128 نائباً حسب دوائرهم الانتخابية.
قد يبدو هذا تفصيلًا تقنيًا، لكنّ المسألة في صلب العملية الانتخابية القادمة، أكان في تحديد وجهة الانتخابات أو مفهومها للمواطنة، أي لمن يحقّ له تحديد مصير البلاد. ويأتي هذا السجال في سياق التحضير للانتخابات القادمة، والتي قد تكون تأسيسية لمستقبل البلاد بما تحمله من دلالات. فهي أول انتخابات تخاض في روحية «الما بعد»، ما بعد الثورة والانهيار وسلاح حزب الله والحرب. لذلك، فإنّ تحديد مَن له الحق بالاقتراع هو تحديد لمن يحقّ له تحديد وجهة المستقبل.
البلاد مقبلة على انتخابات تأسيسية، ستحدّد معالم مرحلة «الما بعد». لكنّ حدود هذه الانتخابات تُرسَم اليوم في مسألة تصويت اللبنانيين غير المقيمين، والتي ستحسم حيزًا كبيرًا من النتائج. بهذا المعنى، السجال حول تعديل قانون الانتخابات هو اقتراع قبل الاقتراع، وعلينا مقاربته كمعركة انتخابية تخاض قبل صناديق الاقتراع وخارجها.
نبيه برّي وسلاح إدراج القانون
كان الموضوع ليمرّ من دون سجال، لولا موقف رئيس مجلس النواب المعارض للتعديل. ففي عام 2022، تمّ تعديل القانون الحالي برعاية برّي. لكن يبدو أنّ الأخير بات حريصاً على نبذ «الاستثنائية» والالتزام بالقوانين، بما يضمن مصالحه ومصالح حلفائه الانتخابية اليوم. فاستخدم صلاحياته لتعطيل أيّ نقاش حول تعديل قانون الانتخاب في البرلمان. ثمّ أطاح بمشروع القانون المقدّم بهذا الخصوص عن جدول أعمال الجلسة التشريعية الأخيرة. وتجاوز بري، بسحر صلاحياته، عريضة نيابية وقّع عليها 68 نائباً، أي أكثرية النواب، لأنه هناك قانون موجود، بحسبه. أو بلغة أحد رُسل بري، النائب قبلان قبلان، نحن ما زلنا في حرب وكل يوم نسمع خبرية وخبريات، القانون موجود ومعتم فلماذا نريد تغيير القانون؟
سؤال أجابت عليه الكتل الداعمة لخيار تعديل القانون، ومنها القوات اللبنانية والكتائب والحزب الاشتراكي، ونواب مستقلّون وتغييريون. فبرّرت توجّهها بأكثر من سبب: المساواة بين المغتربين والمقيمين، والمراسيم المطلوبة لتوزيع المقاعد الاغترابية الستّة طائفياً وقاريّاً واستحالة خوض المرشّحين في الاغتراب لحملات انتخابية عابرة للقارات، بالإضافة لأسباب موجبة أخرى. لكنّ الحجج لن تنفع مع من قرّر تحويل مجلس النواب إلى مملكته الخاصة، ورئاسته إلى سلاح للحفاظ على مكتسباته ومكتسبات حلفائه. فالمعركة حول تعديل القانون اليوم هي بمثابة أول جولة من الانتخابات القادمة.
عندما اقترع الخارج
نبيه برّي يخشي اقتراع الخارج لأنّه يدرك معنى هذا التصويت.
ففي الانتخابات الأخيرة، تسجّل في الاغتراب 225,114 ناخباً، اقترع منهم 141,575، ما مثّل نسبة 63٪، مقارنة مع نسبة اقتراع المقيمين التي بلغت 48%. توضح هذه النسبة انخراط المغتربين في الحياة السياسية اللبنانية ورغبتهم في التعبير عن آرائهم وخياراتهم السياسية الداخلية. وهذا ما يخشاه برّي وحلفاؤه في محاولتهم «حصر» هذا التوجّه ببعض المقاعد.
كما توضح نتائج الانتخابات في 2022 أنّ أغلب النواب «التغييريين» ومعهم مرشّحون من المعارضة (9 من 13) نالوا 34٪ من أصوات الاغتراب، مقابل 11٪ من أصوات المقترعين المقيمين. وكرّس حزب القوات اللبنانية بلوكاً انتخابياً ثابتاً، من 20٪ من أصوات الاغتراب، بينما نال 10٪ من أصوات المقيمين. بينما نال ثنائي حزب الله وحركة أمل سوياً 15٪ من أصوات المغتربين، و30٪ من أصوات المقيمين. في حين أنّ التيار الوطني الحرّ، برئاسة الأب الروحي للقانون الانتخابي الحالي جبران باسيل، فلم ينل سوى 7٪ من أصوات المغتربين ومثلها من أصوات المقيمين.
توضح هذه النِسب، كيف أثّرت أصوات الاغتراب على الدوائر الانتخابية، وكيف ساهمت في إضعاف المحادل الانتخابية، تحديداً في دائرة الجنوب الثالثة، ما سمح بخرقها بمقعدَين.
الهامش الذي بات في الخارج
بني العديد من الأوهام حول «الاغتراب» اللبناني، أوهام اقتصادية وطائفية وحضارية. لكنّ القانون لم يتكلّم عن الاغتراب، بل فقط عن اللبنانيين غير المقيمين الواردة أسماؤهم على اللوائح الانتخابية في لبنان. فالكلام هو عن فئة من اللبنانيين، مقيمة في الخارج أو حديثة الهجرة، وما زالت مرتبطة بالداخل اللبناني. يمكن اعتبار تلك الكتلة من الناخبين كامتداد للداخل في دول الهجرة، لبنانيين ولبنانيات اضطروا إلى الهجرة، غالبًا مرغمين لأسباب اقتصادية، بعد الانهيار، وما زالوا يتمسكون بعلاقتهم ببلدهم. أو بكلام آخر، يمكن اعتبارهم كالدفعة الأخيرة ممّن يُطرَد دوريًا من البلاد بحثًا عن مستقبل اقتصادي. فمحاولة بعض الأطراف السيطرة على مدى تأثير تصويت غير المقيمين هو محاولة لإخراج «ضحايا» هذا النظام من دائرة المحاسبة.
فالسبب الأساسي لدعم هذا التعديل ليس «وطنيًا»، كما يردّد أرباب «الاغتراب»، وليس «تكتيكيًا» كما يحسبها بعض الأطراف التغييرية أو المعارضة. السبب لدعم هذا التعديل هو «بنيوي»، ويطال طبيعة «النظام»، كما هو «أخلاقي»، أي أنّه يحدّد دائرة المسؤولية السياسية. فتوسيع دائرة المشاركة في القرار النيابي هو خطوة نحو كسر عملية احتكار القرار السياسي، التي خلقت نظاماً سياسياً بات يحوم فوق مجتمع، كحاكمه الخارجي. الانتخابات هي إحدى نقاط التقاء هذا المجتمع بسلطته، نقطة التقاء يحاول البعض تضييقها وضبطها، للحدّ من أي محاسبة.
انتخابات الـ2026 بدأت بمعركة التعديل.