تحليل دولة حزب الله
جان قصير

ماذا بعد «الشيعيّة السياسيّة»؟

14 شباط 2025

معضلة التمثيل الحكومي بعد «الشيعيّة السياسيّة»

استغرق الحديث حول التمثيل الشيعي في حكومة نواف سلام الحيّز الأكبر من التناحر السياسي-الإعلامي في الأسابيع الأخيرة. من ياسين جابر في المالية إلي تسمية الوزير الشيعي الخامس، معركتان طغتا على سواهما من الأمور كمضمون برنامج العمل الحكومي أو خلفية الوزراء الآخرين. فأصبح مفهوم «الربح» أو «الخسارة» محصورًا بحصة حزب الله وأمل في الحكومة. وإن كان معيار كهذا مغلوطاً بسبب احتكار هذين الحزبين للتمثيل النيابي الشيعي، فإنّ لا لغط حول طيّ صفحة سياسية دامت 20 عاماً، منذ اغتيال رفيق الحريري وانفجار الخلاف الداخلي مع حزب الله. فنحن أمام أول حكومة منذ اتفاق الدوحة ليس فيها لحزب الله ثلث معطّل ولا احتكار للتمثيل الشيعي. 

نهاية حقبة «الشيعية السياسية»، كما في كل الحقبات السابقة، أي «السنية السياسية» و«المارونية السياسية»، لم تأتِ عبر صناديق الاقتراع ولا نتيجة تحوّل سياسي ومجتمعي وحسب، بل فُرضت بقوة النار وجاءت من الخارج كجزء من مشهد إقليمي جديد. وهذا ما يجعلها مرحلة حرجة وخطرة، وقد تحمل معها المزيد من التوتّر. وعليه، يبقى السؤال الأكبر حول المستقبل السياسي لحزب الله وأمل، اللذين ما زالا يمثّلان الأكثرية الشيعية شعبياً وانتخابياً، وحول الخيارات السياسيّة لشرائح المجتمع الشيعي التي، كما في كل الطوائف الأخرى، تبحث عن بدائل لقوى الأمر الواقع.


حنين البعض إلى 17 أيّار جديد

منذ دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، يُصرّ البعض على عدم التفريط بـ«فرصة» الانقضاض على حزب الله. فيعوّل هؤلاء بوضوح على آلة النار الإسرائيلية والضغط الأميركي لإنهاء خصمهم في الداخل. يتصاعد هذا الشعور في الأوساط المسيحيّة عند قوى سياسية تسعى إلى «حلّ نهائي» للبنان كما يرونه، و«تصحيح خطأ» أمين الجميّل عام 1983، حين تراجع عن اتفاقية 17 أيار للسلام مع إسرائيل بعد الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982. لذلك، يعتبر البعض أن على نواف سلام وجوزاف عون عدم تكرار خيارات الجميّل آنذاك، وعليهما قطع أنفاس حزب الله سياسياً، بعدما بادرت إسرائيل إلى إضعافه عسكرياً. هذا التيار الذي لا يخفي رغبته في إعلان الطلاق مع باقي فرقاء الوطن، يزداد شعبية كلّما ازداد حزب الله تعجرفاً وتعالياً في التعامل مع الشركاء الأخرين بدلاً من حسن النيّة والنديّة.


إنكار ووقاحة وجنون الآخرين

في المقلب الآخر، يتمسّك كثر في محور الممانعة بإنكار الهزيمة وعدم الاعتراف بكلفة الرهان الإيراني الكارثيّة على البلد. كان حزب الله يطمح إلى التلطّي بالتكنوقراط والتسلّل إلى الحكومة لتشغيل الدولة بجناحيها الدبلوماسي والمالي «عندهم» ولاسترجاع قوّتهم والابتزاز بالميثاقيّة لإسقاط شرعية الحكومة في أيّ لحظة. فكما في حكومة فؤاد السنيورة عام 2006، كان الحزب يأمل أن يتلطّى خلف حكومة مقبولة دوليًا لضمان وقف الحرب الإسرائيلية، ومقبولة خليجيًا لإعادة الإعمار، لكي يعود وينقضّ على الحكومة عندما تتاح له الفرصة ويُسقِط شرعيّتها. لا إشارة واضحة عند حزب الله إلى رغبته بـ«العودة إلى البلد» بعد نكسة المشاريع الإقليمية. فليس هناك أيّ تصور حول معنى «حزب الله» كحزب لبناني لا كمنفّذ لأجندة المحور، ولا أيّ إعادة نظر بسياسات الماضي، من الحرب إلى الاغتيالات. وإلى حين بلورة الإجابة، يظنّ حزب الله أن بإمكانه ملء الفراغ عبر الاستقواء على الداخل اللبناني. كانت عراضة الموتوسيكلات في الجميزة أحد تجليات ذلك الإفلاس. وسيكون تشييع حسن نصر الله في 23 شباط حتماً تأكيداً على منطق عرض العضلات في الداخل، عرض عضلات لا يوحي بعودة الحزب إلى الداخل، بل يدفع حتماً إلى المزيد من الطلاق.


مسارٌ آخر للمرحلة الانتقاليّة

أمام المواقف الحادّة مسيحيّاً وشيعيّاً، والتي تدفع المجتمع إلى حافة الطلاق، اختار الثنائي عون-سلام خطّاً موازياً للعبور إلى المرحلة القادمة. 

لم يتعامل عون وسلام مع الطائفة الشيعية كما فعل النظام السوري بالمسيحيين بعد هزيمتهم العسكرية والسياسية في التسعينيات، حين عمد إلى تنصيب وزراء ونواب مسيحيين لا تمثيل لهم، والادّعاء بأن الميثاقية قد احترمت. هذه السياسة لم تنجح في إنهاء الزعامات المسيحية، بل عزّزت شرعيتهم ومظلوميتهم، وخلقت «أسطورة» ميشال عون، التي استغرقت 30 عاماً لتنتهي.

كذلك، لم ينصَع عون وسلام للإذلال الأميركي الذي مثّلته المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس، والتي طلبت من المسؤولين اللبنانيين إخراج حزب الله من الحكومة. فسلام وعون ترجما هزيمة حزب الله العسكرية في السياسة عبر عدم منحه ما يريد. لكنهما لم يتعاملا معه بطريقة تتيح له بناء مظلومية جديدة عبر استبعاده بالكامل من المرحلة الانتقالية، بل أراداه شاهداً وشريكاً في مرحلة تقليص دوره السياسي.

إلى جانب ذلك، تعامل الثنائي عون-سلام مع الثنائي الشيعي «بالمفرّق»، مع التركيز على دور نبيه برّي في المفاوضات حول الحصة الشيعية في الحكومة. هذا التمايز في التعامل بين برّي، الذي سمّى وزرائه، وحزب الله، الذي حصل على تكنوقراط غير منخرطين في معسكره، أوحى وكأنّه لم يعد هناك مِن ثنائي. هناك نبيه برّي الذي يشبه نظراءه في نظام المحاصصة، ويتقن اللعبة اللبنانية وشدّ الحبال بين الطوائف، وهناك في المقلب الآخر حزب الله، الجناح العسكري والأيديولوجي المأزوم الذي يمثّل المشاريع الخارجية التي سقطت.

النهج الذي اعتمده الثنائي عون-سلام، والذي يعكس قدراً من الحكمة والواقعية، يجب أن يُترجَم بالفعل. ملفّا الإعمار وتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار هما مطبّان أساسيان، كفيلان بكسر فعالية المسار الثالث، أي مسار الدولة. فالتقاعس في تطبيق الاتفاق عبر بسط سيطرة الدولة على كامل أراضيها، سيزيد القوى المعارضة لحزب الله، مسيحياً وسنيّاً،  شراسة في طروحاتها. والفشل في حثّ الولايات المتحدة على منع إسرائيل من التسلّط على لبنان وانتهاك سيادته، سيعزّز فكرة الحاجة إلى مقاومة خارج الجيش. أما الفشل في الإعمار، فسيمنح حزب الله فرصة لإبعاد جمهوره أكثر فأكثر عن الدولة.


فرصة لتخطّي ابتزاز الطوائف

مع بداية تراجع سطوة حزب الله على السياسة، يطوي لبنان أخيرًا صفحة الحقبات الدموية لهيمنة الطوائف المتعاقبة. قبل شهرين من الذكرى الخمسين للحرب الأهلية اللبنانية، يمكن القول بثقة إن اللبنانيين واللبنانيات جرّبوا كل شيء. من المارونية السياسية إلى السنية السياسية، وصولًا إلى الشيعية السياسية، كانت كل حقبة سيطرة طائفية كارثية على المجتمع والدولة، كما لم تفلح الرهانات الخارجيّة في إلغاء الآخر، لتنتهي التجارب جميعها بشكل مأسوي لطوائفها مع مقتل «آبائها الروحيين».

لم تعد القيادات الشيعية تستطيع تجاهل الأصوات المتصاعدة من داخل المجتمع الشيعي، وحتّى من ضمن البيئة الحاضنة، التي تنتقد الدور الإيراني، وتعكس شعورًا متزايدًا بالخداع. يشكّل هذا الإدراك الشعبي بالخيبة تجاه المشاريع الطائفية، والذي بدأ يتبلور منذ انتفاضة 2019، مدخلًا لكسر احتكار الطوائف للتمثيل السياسي. من هنا، يصبح من الضروري ألا يقتصر تعامل الثنائي عون وسلام مع الطوائف من خلال قياداتها التقليدية، بل أن يتم بناء علاقة مباشرة بين الدولة والمجتمع، خصوصًا مع المجتمع الشيعي الذي بات في حالة ضياع، بعد أن فقد العديد من الشهداء وتعرّضت مدنه وقراه للدمار. فالمجتمع الشيعي اليوم، بتنوعه المناطقي والطبقي والأيديولوجي،  يشعر، أكثر من أي وقت مضى، بأنه تحت رحمة إسرائيل، ومنبوذ من باقي الوطن. هناك فرصة أمام الثنائي عون وسلام لبناء تواصل مباشر مع أفراد هذا المجتمع وتياراته المختلفة دون وسطاء، لا سيما في مجالات إعادة الإعمار والخدمات الأساسية. الدولة هي عنوان ترميم علاقة الثقة مع أهل الجنوب والبقاع، والإثبات لهم بأنّ لا ضمانة لأمنهم خارج مؤسسات الدولة.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
حدث اليوم - الأربعاء 19 شباط 2025
19-02-2025
أخبار
حدث اليوم - الأربعاء 19 شباط 2025
كيف سيبيع ترامب أوكرانيا لبوتين؟
19-02-2025
تقرير
كيف سيبيع ترامب أوكرانيا لبوتين؟
تعليق

التباس البيان الوزاري حول قضية 4 آب

نادر فوز
ترامب يهدّد زيلينسكي
الاحتلال يمنع العودة إلى مخيّم جنين
تهجير سكّان غزّة:
19-02-2025
تقرير
تهجير سكّان غزّة:
ترامب يستكمل خططاً إسرائيليّة