تُلازِم مفردة «الانتصار» أمين عام حزب الله، الشيخ نعيم قاسم، في كلّ إطلالاته المتلفزة، ومعها تأكيد على أنّ حزب الله يصبر ويراقب بعدما أعاد بناء قدراته، وقد أعطى الدولة اللبنانية فرصةً لإثبات نفسها على مستويات مختلفة. «انتصار» إذن، مرفق بمطالبة للدولة لكي تلعب دورها. فثمّة ما تغيّر في علاقة حزب الله مع الدولة، هذه الدولة نفسها التي تخطّاها الحزب سياسياً ومالياً وأمنياً وعسكرياً ودبلوماسياً، وحوّلها إلى مجرّد غطاء لتشريع وجوده ومشروعه. فإذا كان الانتصار في السابق هو المدخل لإزاحة الدولة، فقد تحوّل اليوم، في لحظة فقدان الحزب لخلفيّته الإيرانية ومؤسساتها ومالها وانهيار مشروعه لبناء دولة رديفة، إلى الغطاء للعودة إلى الدولة، وإن على مضض.
الحدود واحتلال الأرض
بدأت «عودة» حزب الله نحو الدولة من جنوب لبنان، بعدما كان وجودها هناك لعقود شكلياً وصورياً. فمنذ تحرير عام 2000، لم يُترك المجال للدولة اللبنانية، ممثّلةً بأجهزتها الأمنية، للعب أي دور في الجنوب، سواء من باب الاستهزاء بعجز الجيش وقدراته على مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية أو من باب تدارك واقع أنّ تسليح الجيش وعتاده أميركي، وحركته بالتالي مشروطة في هذا الإطار.
لا بدّ من التذكير هنا بحادثة إسقاط حزب الله طوّافة النقيب الطيار في الجيش، سامر حنا، عام 2008. قدّم الحزب أحد عناصره إلى المحاكمة في الحادثة، وبعد اقلّ من عشرة أشهر على توقيفه بتهمة التسبّب غير القصدي بقتل حنا، تمّ الإفراج عنه بكفالة مالية قدرها عشرة ملايين ليرة؛ قبل أن ينعى حزب الله مقاتله كـ«شهيد الواجب الجهادي» في سوريا عام 2014.
أمّا اليوم، فتغيرت الأمور. جدّد الشيخ نعيم، في خطابه الأخير يوم الأحد 2 شباط 2025، تحميل الدولة اللبنانية المسؤولية الكاملة عن تطبيق وقف إطلاق النار والضغط على الجهات الدولية المعنيّة لتطبيقه ووقف الخروقات الإسرائيلية. كرّر استخدام مفردة «الصبر»، واعداً بأنّ حزب الله سيتصرّف حيال الخروقات بحسب تقديراته وفي الوقت المناسب.
قبل الخطاب بساعات، كان جيش الاحتلال قد أعلن عن إسقاط مسيّرة أُطلقت من لبنان، ثم شنّ غارات استهدفت نقاطاً حدوديةً لبنانيةً في البقاع والشمال. ومن باب الصبر، لم يتبنَّ حزب الله إطلاق المسيّرة ولم يعلّق على الغارات الحدودية، لكن عاد الشيخ نعيم الأحد ليسأل عن واقع الأمور: أين نحن الآن؟ نحن نعتبر أنّ الدولة اللبنانية مسؤولة كامل المسؤولية لتوقّف هذا الخرق وهذا العدوان الإسرائيلي، هل هذا هو اتفاق لوقف إطلاق النار وإسرائيل تخرق وإسرائيل تعتدي؟ بطريقة مواربة، سأل الشيخ نعيم المشاهدين عبر الشاشة: كلّ هذه الخروقات الإسرائيلية، وين الدولة؟
درّاجات الفتنة وهتافاتها
لكنّ الدولة ليست مطالَبة بالوجود بالجنوب وحسب، بل باتت أيضًا مطالبة بضبط «البيئة».
منذ 7 أيار 2008، فرض حزب الله على الجميع، في الدولة والأجهزة الأمنية والأحزاب، واقع «القمصان السود». اتّخذت هذه الظاهرة أشكالاً مختلفة تبعاً للمحطّات الداخلية منذ ذلك الحين. شبّان يلبسون اللون الأسود وينتشرون بطريقة تلقائية في شوارع بيروت منعاً لقرارات حكومية. «بيئة» غير راضية على مواقف الخصوم وتردّ على أي مواقف سياسي بعراضات في الشارع. «أهالٍ» غاضبون من برامج تلفزيونية يقطعون الطرقات ويشلّون حركة المطار وزوّاره؛ وصولاً إلى تجمّعات «شيعة شيعة» التي بدأت بالظهور خلال حراك النفايات عام 2015 وتبلورت في 17 تشرين لتُعلن أنّ أي اهتزاز في العهد والحكم يعني فتنةً وحرباً أهلية، وصولاً إلى أحداث الطيونة التي كرّس فيها الحزب مشهد الفتنة. كلّ هذا وقد أمّن الحزب غطاءً سياسياً وأمنياً تاماً لحركات التشبيح والبلطجة هذه، ومُنعت «الدولة» من ضبط الوضع، أو منعت نفسها تبعاً لمصالحها المشتركة مع حزب الله.
أما اليوم، فلم تعد «البيئة» سلاحًا مرغوبًا من الحزب. فأدان الشيخ نعيم مواكب الدرّاجات النارية التي جابت بيروت ودخلت بعض أحياء العاصمة حاملةً رايات حزب الله وحركة وأمل وهتافات «شيعة شيعة». نفض الحزب يده كليّاً من هذه المظاهر التي قال إنها تتعارض أساساً مع مسيرة حزب الله، ولو أنّها المسيرات نفسها التي خدمت خطاب الحزب ومشاريعه لقمع اللبنانيين ومعارضيه على مدى خمس سنوات على الأقلّ.
اليوم، بالعكس، أضحت هذه المسيرات مشروع ورطة لحزب الله، هناك أشخاص يرفعون أعلامنا فقط حتى يُورّطوننا ويُورّطون حركة أمل ويقولون أننا من أعطيناهم التوجيه، بحسب الشيخ نعيم في خطاب 2 شباط 2025. جاء كل هذا الاستنكار متأخراً أسبوعاً كاملاً. لكنّ الشيخ نعيم دعا الأجهزة الأمنية والقضائية إلى أن تقوم بكل الإجراءات لإيقاف ومُعاقبة مطلقي النار وأيضاً الذين يدخلون إلى مناطق أخرى بطريقة مُستفزة ومؤذية. بطريقة مواربة، سأل الشيخ نعيم متابعيه عبر الشاشة: كلّ هذه المسيرات الفتنوية التي لا تخدم الوحدة الوطنية، وين الدولة؟
إعادة الإعمار
في خطابه ما قبل الأخير، أكد الشيخ نعيم أنّ إنجازات إعادة الإعمار التي قام بها حزب الله بعد العدوان الأخير أحسن بمرّات من الذي عُمل به في عام 2006. وقال في 27 كانون الثاني 2025، إنّ الحزب استطاع أن يُقدّم مساعدة ترميم وما شابه وإيواء لنحو 200,000، هذا إنجاز كبير جداً، طبعاً نحتاج لقليل من الوقت. لكن مع مرور الوقت بعد انقضاء العدوان، بدأ الشيخ نعيم يؤكد على أنّ مهمّة إعادة الإعمار هي مشتركة مع الدولة اللبنانية، سنكون يداً بيد مع الحكومة اللبنانية؛ ليستدرك الوضع في الجملة نفسها ويوضح أنّه بالأساس سيكون الترميم وإعادة الإعمار من متابعات الحكومة ونحن إلى جانبها. يدفع الشيخ نعيم كلّ المتضرّرين من الحرب، شيئاً فشيئاً باتجاه الدولة لتتحمّل مسؤولياتها تجاههم، حتى لو أنه لا يسأل بوضوح وعلانية: كلّ هذا الدمار، كلّ هذا التهجير، وين الدولة؟
منذ 2005، سادت عبارة «كنف الدولة» معظم المواقف المعارضة لحزب الله وسلاحه، إذ دعت مختلف الوثائق السياسية إلى «عودة الحزب إلى كنف الدولة». «كنف الدولة» و«لبننة حزب الله»، عباراتان متساويتان تلخّصان واقع عشرين عاماً من الاغتيالات والمعارك والانهيارات والتسلّط. رفض حزب الله لسنوات هذه الدعوة، إلى أن جاء اليوم الذي بات فيه مضطرًا بأن يستنجد بهذه الدولة، وإن كان لا يزال متمسكًا بخطاب النصر.
لو علمت أنّ عملية الأسر كانت ستقود إلى هذه النتيجة، لما قمنا بها قطعاً، قال الأمين العام الأسبق لحزب الله، حسن نصر الله، في مقابلة تلفزيون الجديد بتاريخ 27 آب 2006، أي بعد أسبوعَين على انتهاء عدوان تموز. «لو كنت أعلم»، كانت تلك العبارة الشهيرة حينها، ولا ننتظر اليوم من يطلّ علينا لقول ما يشبه فحواها، أقلّه لحين الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي اللبنانية. لكن، على الأقلّ، بات هناك ما يتشاركه المواطن العادي مع الشيخ نعيم، من خلال السؤال: «وين الدولة»؟